ربما تكون محاولة الانقلاب الفاشلة في البرازيل مفاجأة للكثيرين خارج البلاد، لكن ليلة اقتحام الكونغرس والمحكمة العليا ستظل راسخة في الأذهان طويلاً، فما قصة حركة "البولسونارية" التي اقتحمت المشهد فجأة؟
كان أنصار الرئيس السابق جايير بولسونارو قد اقتحموا، مساء الأحد 8 يناير/كانون الثاني 2023، مبنى الكونغرس والقصر الرئاسي والمحكمة العليا في العاصمة برازيليا، على طريقة اقتحام أنصار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مبنى الكونغرس قبل عامين.
وجاء مشهد الآلاف من أنصار بولسونارو، الذين يرتدون ملابس صفراء وخضراء، وهم ينشرون الفوضى في العاصمة بعد أشهر من الانتخابات، تتويجاً لحملة ممتدة من الشحن والاستعداد من جانب أتباع تيار اليمين المتطرف، عبر منصات التواصل الاجتماعي، بحسب تقرير لصحيفة Washington Post الأمريكية.
ما جذور حركة "البولسونارية" في البرازيل؟
لكن ذلك المشهد الذي بث الذعر في البرازيل وأثار القلق حول العالم، كونها من أكبر الدول الديمقراطية، لم يكن سوى تتويج لسنوات من الصعود المطرد لتيار اليمين المتطرف في البلاد، التي كان يحكمها خلال العقد الأول من القرن الحالي رئيس يساري بامتياز هو لولا دا سيلفا.
وفي هذا السياق، ستظل ليلة 8 يناير/كانون الثاني 2023 راسخة في أذهان البرازيليين والعالم بأكمله جراء الهزة العنيفة التي تعرضت لها الديمقراطية في البرازيل، إثر اقتحام أنصار بولسونارو، المحسوبين على تيار اليمين المتطرف، لمؤسسات دستورية في مقدمتها مقر الرئاسة ومبنى الكونغرس، فضلاً عن مقر المحكمة العليا.
وكانت الديمقراطية البرازيلية قد تنفست الصعداء مؤخراً بعد أن خسر جايير بولسونارو، اليميني المتطرف الانتخابات، التي أجريت جولتها الحاسمة في 30 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إلا أن شبح هذا المعسكر السياسي عاد ليطل برأسه من جديد على البرازيليين مع الأحداث التي عاشتها برازيليا، والتي تورط فيها أنصار بولسونارو.
لكن نتائج الانتخابات الرئاسية في البرازيل في أكتوبر/تشرين الأول عام 2018، والتي حملت وقتها بولسونارو إلى سدة الحكم، قد مثلت انعكاساً واضحاً لتوسع اليمين المتطرف في أكبر ديمقراطية بأمريكا اللاتينية، إذ فاز بولسونارو في تلك الانتخابات على حساب مرشح اليسار حينها، فرناندو حداد.
ومع فوزه بالرئاسة، تأكد مجدداً دخول اليسار البرازيلي في مرحلة من التيه السياسي، انطلقت تحديداً بالضربة القاسية التي تلقاها هذا المعسكر بإقالة الرئيسة المحسوبة عليه ديلما روسيف في عام 2016، بعد أن صوت أكثر من ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ على هذه الإقالة، إضافة إلى الزج بلولا دا سيلفا، الذي حكم البلاد من 2003 حتى 2010، في السجن بتهمة الفساد خلال عامي 2018 و2019 قبل أن تتم تبرئته.
وبطبيعة الحال، فإن مصائب معسكر سياسي تعتبر فوائد عند المعسكر الآخر، ففي الوقت الذي كان فيه اليسار البرازيلي يلمْلم جراحه، برز بجلاء تغول اليمين المتطرف في البرازيل، خاصة مع فوز بولسونارو بالانتخابات الرئاسية، وازدهرت أفكاره التي تدافع عن حمل السلاح والتعاطي بقسوة كبيرة مع المعارضة، في تعارض كلي مع قيم الاختلاف التي تتشبع بها المفاهيم الديمقراطية.
تيار يميني متطرف لا يؤمن بالديمقراطية
هذا الإيمان الضيق بالديمقراطية من قبل اليمين المتطرف البرازيلي، أكدته أحداث اقتحام أنصار بولسونارو، الأحد، لكل من القصر الرئاسي والكونغرس، فضلاً عن المحكمة العليا، والذي تابعه العالم في البداية بالكثير من الذهول، قبل أن تنهمر برقيات التنديد بالاعتداء على الديمقراطية البرازيلية من عدة عواصم في العالم.
إذ قال مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان إن بلاده تدين أي محاولات لتقويض الديمقراطية في البرازيل. وأضاف على تويتر: "الرئيس (جو) بايدن يتابع الموقف عن كثب، ودعمنا للمؤسسات الديمقراطية البرازيلية لا يتزعزع. الديمقراطية البرازيلية لن تهتز بسبب العنف".
أما بايدن نفسه فقد قال الأحد، إن الوضع في البرازيل "مروع". وقال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن على تويتر إن واشنطن تضم صوتها إلى لولا في الدعوة إلى وقف الهجمات فوراً.
وقال السيناتور بوب مينينديز، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، على تويتر: "أدين هذا الهجوم الشائن على المباني الحكومية في البرازيل بسبب التجاهل الأهوج من قبل بولسونارو الغوغائي لمبادئ الديمقراطية".
وأضاف: "لا يزال إرث ترامب يسمم نصف الكرة الأرضية بعد سنتين منذ السادس من يناير/كانون الثاني. إن حماية الديمقراطية ومحاسبة الأطراف الشريرة أمر ضروري".
وسارع زعماء في أمريكا اللاتينية إلى التنديد بمشاهد الاقتحام والعنف، إذ كتب الرئيس الكولومبي جوستافو بيترو على تويتر: "كل تضامني مع لولا وشعب البرازيل.. الفاشية تقرر القيام بانقلاب". وقال رئيس تشيلي جابرييل بوريك إن حكومة لولا تحظى بدعمه الكامل "في مواجهة هذا الهجوم الجبان والشرير على الديمقراطية".
و"البولسونارية" تشتق اسمها من بولسونارو، كما اشتقت "الترامبية" اسمها من دونالد ترامب، ويمكن القول إنهما وجهان لعملة واحدة هي عملة اليمين المتطرف. إذ أبدى المعسكر اليميني المتطرف رفضه العنيف لنتائج الانتخابات التي فاز بها لولا دا سيلفا بمجرد الإعلان عنها.
واحتشد آلاف من أنصار بولسونارو أمام مقر القيادة العسكرية في ساو باولو وبرازيليا وريو دي جانيرو، حيث دعوا إلى تدخل الجيش، كما قام متظاهرون مؤيدون له بإغلاق الطرق في أكثر من نصف الولايات البرازيلية.
وتحرك أتباع بولسونارو تجاه الثكنات العسكرية، قد يفسَّر بالعلاقات الهشة التي ربطت اليسار بالجيش عموماً في هذا البلد، والذي اتخذ موقفاً علنياً ضد لولا في 1918، وتم استقطاب العديد من أسمائه للعمل في حكومة بولسونارو، ما اعتبر حينها نهاية لصمت عسكري دام 25 عاماً، لكن الجيش البرازيلي أظهر في الوقت الحالي احترافية، أشاد بها مراقبون، تلتزم بدستور البلاد.
وكان ذلك تتويجاً لعمل دؤوب خلال الأسابيع السابقة على الأحداث، إذ عجّت منصات التواصل الاجتماعي في البرازيل بالدعوات لمهاجمة محطات الوقود ومعامل التكرير وإغلاق الطرق والبنية التحتية للبلاد، إضافة إلى إطلاق "حفل صرخة الحرب"، وهو مصطلح يهدف إلى تجمع أنصار بولسونارو في برازيليا لإسقاط حكومة دا سيلفا.
والسبب هو الزعم بأن "الانتخابات مسروقة"، فانتشر هاشتاغ "أوقفوا السرقة" بسرعة كما تنتشر النار في الهشيم، وهو الهاشتاغ نفسه الذي استخدمه ترامب وأنصاره في أمريكا قبل عامين. وأصبح تويتر أكثر منصات التواصل الاجتماعي ترويجاً لتلك المزاعم في البرازيل. حيث كان إيلون ماسك، مالك تويتر، قد فصل جميع العاملين في تويتر في البرازيل، باستثناء عدد قليل يعملون في إدارة المبيعات، وهو ما أدى إلى غياب أي رقابة على المحتوى تقريباً.
وتحدثت مصادر من تويتر إلى "واشنطن بوست" عن تداعيات قرار ماسك، مؤكدين أن فصل 8 أشخاص في ساو باولو كانت مهمتهم مراقبة المحتوى المخالف لسياسات تويتر، قد تسبب في انتشار المعلومات المضللة بشأن تزوير الانتخابات، وكذلك الدعوات للتجمع في برازيليا، وخط سير حافلات مخصصة لنقل أنصار بولسونارو.
ماذا تعني "البولسونارية"؟
وعلى الرغم من أن لولا دا سيلفا لم يدخل قط في صراع مع المؤسسة العسكرية خلال فترته الرئاسية السابقة، إلا أن خليفته ديلما روسيف أيقظت عداء الجيش لليسار بإطلاقها في 2011 "لجنة وطنية للحقيقة"، لتسليط الضوء على الجرائم التي ارتكبها العسكر بين 1964 و1985.
وكان بولسونارو قد غادر بلاده، الجمعة 6 يناير/كانون الثاني 2023، متوجهاً إلى الولايات المتحدة، قبل يومين من انتهاء ولايته وتنصيب خلفه لويس إيناسيو لولا دا سيلفا. وفي كلمة على وسائل التواصل الاجتماعي، ودَّع بولسونارو مناصريه. وقال لشبكة "سي إن إن برازيل": "أنا في رحلة جوية، سأعود قريباً".
وأضاف الرئيس السابق الذي هزمه لولا بفارق ضئيل من الأصوات في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول: "نخسر معارك لكننا لا نخسر الحرب". قبل أن يتابع باكياً: "على الأقل أجلنا انهيار البرازيل من هذه الأيديولوجية اليسارية الضارة أربعة أعوام".
وكان لولا واضحاً في توجيه تهمة التحريض إلى خصمه المنهزم، حيث قال في مؤتمر صحفي قبل حفل تنصيبه: "لم يعترف بعد بهزيمته، ويواصل تحريض هؤلاء النشطاء الفاشيين على الاحتجاج في الشارع". وعندما يتحدث الرئيس الجديد للبلاد عن الفاشيين، فهو يعي ما يقول ويدرك مستوى التطرف العالي الذي وصله أنصار بولسونارو. وأضاف لولا (77 عاماً): "يتبع السيناريو نفسه الذي اتبعه جميع الفاشيين في العالم".
"بناء على سلوكياته الغريبة وتجاوزاته، اعتبر الكثيرون أن بولسونارو كان حالة استثنائية، وأنه تم انتخابه في 2018 في ظروف لعبت لصالحه. لكنني أعتقد العكس، إنه انعكاس لبرازيل يمينية متطرفة معينة، والتي تميل أكثر فأكثر للإنجيليين والمحافظين الذين يؤيدون الحق في حمل السلاح. البولسونارية هي طريقة لممارسة السياسة بلا حدود في الكلمات. إنه تحرير للغرائز وتدمير للنظام الديمقراطي البرازيلي"، كما أكد مراسل صحيفة "لوموند" الفرنسية في البرازيل برونو مييرفيلد، بحسب تحليل لموقع دويتش فرانس 24.
شأنه شأن ترامب في الولايات المتحدة، استفاد بولسونارو من الدعم الذي وفرته الحركة الإنجيلية الدينية والسياسية التي تتبنى مواقف متشددة. ويؤكد جميع المراقبين أنها اكتسحت المجتمع البرازيلي بشكل كبير، "حيث كانت لا تشكل إلا فئة قليلة من المجتمع البرازيلي، لكن بدأت تتمدد خاصة منذ 2011، حيث وصل عدد منتسبيها إلى ما يقارب 60 مليون شخص؛ بمعنى أن أكثر من 15% من المجتمع البرازيلي يعتقدون بهذه الفكرة الدينية"، كما يوضح المحلل السياسي اللبناني المقيم في البرازيل، حسام الزين.
وعبر الرئيس السابق في أكبر تجمع للإنجيليين في البرازيل في يونيو/حزيران 2019 عن شكره للحركة لدعمها له، وخاطبها بالقول: "كنتم حاسمين من أجل تغيير مصير هذا الوطن المسمى البرازيل"، وكان أول رئيس يشارك في "مسيرة من أجل المسيح" التي تنظمها الحركة سنوياً في ساو باولو.
و"للحديث عن اليمين المتطرف، لا بد من الوقوف عند عدة محاور مهمة في التاريخ السياسي البرازيلي، الذي إذا قسمناه نجد الفترة قبل الثمانينيات التي انطلقت من 1964 وهي تؤرخ للحكم العسكري، وما بعد الثمانينيات إلى بدايات الألفين وبالضبط 2003 حينما تسلم الرئيس لولا السلطة ثم 2018 عندما وصل بولسونارو إلى الحكم"، على حد تعبير الزين.
"وعند تسلم بولسونارو الحكم طرح أفكاراً يمينية متطرفة أهمها ترتبط بالعرق الأبيض"، الذي يترجم موقفاً عنصرياً تجاه مكونات المجتمع البرازيلي الأخرى بمن فيهم سكان البلد الأصليون. وهذا الفهم للذات والآخر يمكن القول إنه "جوهر الفكرة اليمينية المتطرفة" لبولسونارو وأتباعه، حسب الزين، والذي تؤيده أيضاً حركات نازية وفاشية في البلاد.
و"البولسونارية"، يضيف الزين، تشدد على إعطاء الأولوية للجيش، والتركيز على العامل الديني، والذهاب في سياسة معاكسة لتوجهات اليسار، خاصة حزب العمال في توجه أيديولوجي وسياسي شبيه بـ"الترامبية"، لا سيما أن الرئيس البرازيلي السابق يعتبر ترامب "مثله الأعلى ويلقب بـ"ترامب البرازيل".