"أمريكا سبب معاناة الأوروبيين من برد الشتاء القارس، وهي من أشعلت حرب أوكرانيا". هكذا تُتهم الولايات المتحدة من قبل كثير من الأوروبيين، بينما وجهة نظر الكثير من الأمريكيين بشأن المتسبب في أزمات أوروبا الحالية هي أن الأوروبيين لا يجب ألا يلوموا إلا أنفسهم.
ووصل الخلاف الأمريكي الأوروبي إلى مرحلة خطيرة مؤخراً بسبب قانون مكافحة التضخم الأمريكي الذي ترى أوروبا أنه سيؤثر على صناعة السيارات المحلية لديها، لدرجة أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون استهل زيارته لواشنطن بخطبة حادة في السفارة الفرنسية هناك حذر فيها أعضاء الكونغرس من أن برنامج الولايات المتحدة للاستثمارات والإعانات لمساعدة الشركات المحلية يهدد "بتفتيت الغرب".
في المقابل يرى الأمريكيون أن انتقاد بلادهم تكتيك مفضل بالنسبة للنخب السياسية في أوروبا عندما تبدأ الأمور في التأزم في القارة، وأن أغلب أزمات أوروبا الحالية هي نتيجة أخطاء قادة دول الاتحاد الأوروبي، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Politico الأمريكية.
هل كانت أمريكا وراء إشعال حرب أوكرانيا، وهل تستغلها لتحقيق مكاسب من أوروبا؟
بالنسبة لكثير من الأوروبيين فإن أمريكا هي سبب أزمات أوروبا، فهم يرون أن حرباً في أوكرانيا لم تكن لتنشب لو لم توسع واشنطن حدود الناتو شرقاً ليقترب من روسيا.
بل حتى الكوارث الطبيعية يرى بعض الأوروبيين أن أمريكا المتسبب فيها؛ لأن انتشار سيارات الدفع الرباعي في أمريكا يغذي تغير المناخ.
والفرنسيون بصفة خاصة لا يخفون نقمتهم من انتشار الثقافة الأمريكية، والذي يساعد على زوال اللغة الفرنسية كلغة مشتركة عالمية، لصالح هوليوود عديمة الثقافة، حسب تعبيرهم.
وتقول الصحيفة الأمريكية إنه في الجزء الأخير من هذا المسلسل الذي تصفه بالممل، يحاول المسؤولون الأوروبيون إلقاء اللوم على الأمريكيين الجشعين في الفوضى الحالية في القارة، متهمين إياهم باستغلال الحرب في أوكرانيا.
الأوروبيين يشترون الغاز بأربعة أضعاف أسعاره في أمريكا
صرّح مسؤول أوروبي كبير لصحيفة Politico الأمريكية قائلاً: "الحقيقة هي أن الدولة الأكثر ربحاً من هذه الحرب هي الولايات المتحدة؛ لأنها تبيع المزيد من الغاز وبأسعار أعلى، ولأنها تبيع المزيد من الأسلحة".
وتعلق الصحيفة قائلة: "ولكن بغض النظر عن حقيقة أن أوكرانيا كانت ستنهار قبل أشهر إذا لم تتدخل الولايات المتحدة، فإن التأثير المباشر لحرب روسيا على الاقتصاد الأمريكي البالغ 26 تريليون دولار من بيع الغاز الطبيعي والأسلحة هو مجرد قطرة في دلو من الماء".
لسبب واحد، تصدّر الولايات المتحدة أقل من 10% من إنتاجها من الغاز الطبيعي. في عام 2021، بلغت قيمة تلك الصادرات نحو 27 مليار دولار. في حين أن الأوروبيين مستاؤون بشكل مفهوم من أن أسعار الغاز لديهم 4 أضعاف ما هي عليه في الولايات المتحدة، لم يجبرهم أحد بأن يعتمدوا على الغاز الروسي أو أن يغلقوا محطات الطاقة النووية التي تعمل بشكل مثالي (في الواقع، طلب منهم واشنطن لسنوات بعدم القيام بعدم الاعتماد على الغاز الروسي).
هل تربحت أمريكا من بيع الأسلحة لأوكرانيا؟
وترى Politico إن الاتهام بالتربح المفترض من الحرب وبيع الأسلحة أجوف بالقدر نفسه. لأنه من بين ما يقرب من 30 مليار دولار من المساعدات العسكرية التي قدمتها الولايات المتحدة حتى الآن لأوكرانيا، تم التبرع بالجزء الأكبر من المعدات.
وفي حين أن مقاولي الدفاع الأمريكيين سيستفيدون من استبدال المخزونات ومن الطلب القوي على الأسلحة بين حلفاء الناتو، وهذا يفترض أن يحدث مع نظرائهم الأوروبيين.
ومع ذلك، تكمن المشكلة هنا: يجب أن تستفيد الشركات الأوروبية بقدر استفادة الأمريكيين، لكنها لا تفعل ذلك. والسبب الرئيسي هو أن أوروبا لم تستثمر في صناعتها الدفاعية.
كثير من أزمات أوروبا سببها الصراعات الداخلية.. المقاتلة الأوروبية المشتركة نموذجاً
على سبيل المثال، أثار قرار ألمانيا الأخير بشراء مقاتلات أمريكية من طراز إف-35، غضب شريكتها فرنسا لأنها تراه سوف يؤثر على مشروع الطائرة الأوروبية المشتركة الذي تقوده البلدان، كما أن القرار بدا محرجاً لصناعة الدفاع الألمانية والأوروبية؛ لأن ألمانيا شريك بالفعل في مشروع إنتاج الطائرة الأوروبية "يوروفايتر تايفون" الباهظة الثمن، والذي تتشارك فيه كل من ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا.
ولكن يورو فايتر بمنتهى البساطة، غير مزودة بقدرات تنفيذ عمليات قصف نووي لردع روسيا، وليست بها قدرات تخفٍّ شبحية، ما دفع ألمانيا لشراء الإف 35 من أمريكا رغم تكلفتها العالية ورغم ما في ذلك من ضرر لصناعة الدفاع الألمانية والأوروبية.
فالقرار جاء مدفوعاً بحقيقة بسيطة تتمثل في عدم وجود بدائل أوروبية على المدى المتوسط.
وحتى مشروع الطائرة الأوروبية المشتركة من الجيل السادس، الذي وضع في عام 2001 من قبل فرنسا وألمانيا وإسبانيا لتطوير "نظام جوي قتالي مستقبلي" لم يبدأ بعد وسط الاقتتال الداخلي المستمر بشأن تطوير الطائرة.
يظهر حجم المشكلات في الصناعات الدفاعية الأوروبية المشتركة من خروج إيطاليا من المشروع المشار إليه، رغم أنها كانت شريكاً أساسياً في مشروع يوروفايتر، وهاجم مسؤولو صناعة الدفاع الإيطالية الصفقة التي أطلقت المشروع الفرنسي الألماني الإسباني بعد استبعادها لروما، التي اضطرت للإنضمام لمشروع Tempest البريطاني لإنتاج طائرة جيل سادس، والذي يبدو واعداً، ويضم السويد، وقد تنضم له اليابان .
إذ يظهر هذا الجدل مشكلات الهيمنة الألمانية الفرنسية على المشروعات المشتركة الأوروبية التي تغضب بقية الدول الرئيسية في التكتل.
في المقابل مازال مشروع الطائرة الأوروبية الذي يضم ألمانيا وفرنسا وإسبانيا يتخبط في الخلافات، خاصة في حرص باريس على عدم مشاركة التكنولوجيا الحساسة لديها مع ألمانيا، في نموذج واضح لمساعي باريس لتحقيق أهدافها الخاصة على حساب بقية الاتحاد، مع رفعها دوماً شعارات عن التضامن الأوروبي والسيادة الأوروبية، بينما هي من أقل وآخر الدول دعماً لأوكرانيا على سبيل المثال.
بولندا تفضل دبابة كورية عن شراء ليوبارد الشهيرة من الجارة الألمانية
بصفة عامة أدت المقاومة السياسية في العديد من الدول الأوروبية بشأن صادرات الأسلحة إلى إعاقة صناعة الأسلحة في التكتل الأوروبي.
لنأخذ دبابة القتال الرئيسية ليوبارد 2 الألمانية، التي يعتبرها الكثيرون الأفضل في العالم. رغم هذه السمعة، خسر الألمان أمام كوريا الجنوبية عندما طلبت بولندا حليفة الناتو مؤخراً ما يقرب من ألف دبابة جديدة.
وبينما كان السعر أحد العوامل وراء قرار بولندا شراء دبابة من كوريا البعيدة وليس من ألمانيا المجاورة، إلا أن عدم اليقين السياسي كان عاملاً آخر، وفقاً لما نقلته Politico عن شخص مطلع على القرار.
أمريكا تترجم استثماراتها في حرب أوكرانيا إلى مكاسب تجارية في صراعها مع الصين
تتجاهل صحيفة Politico الأمريكية، في معرض ردها على اتهامات الأوروبيين لأمريكا بالتربح من حرب أوكرانيا، أن المكاسب الأمريكية من هذه الحرب سياسية بالأساس، لأن واشنطن استغلت الحرب والتنافس مع الصين، لحشد حلفائها الأوروبيين والآسيويين خلفها، دون مراعاة لمصالحهم.
يمكن القول إن أمريكا تترجم استثماراتها في الدفاع عن الأمن الأوروبي عبر دعمها لأوكرانيا ضد موسكو غريمتها التاريخية إلى مكاسب اقتصادية في حربها التجارية مع الصين غريمتها المستقبلية، وذلك على حساب حلفائها الأوروبيين وكذلك الآسيويين.
بعد أن رفعت أمريكا شعار لا شيء يعلو فوق صوت المعركة الحربية مع الروس والتجارية مع الصين، فإنها تمرر سياسات لحصار البلدين سيدفع حلفاؤها الآسيويون والأوروبيون ثمنها بالأساس وليس أمريكا نفسها.
فالعقوبات الاقتصادية على روسيا لن تؤثر على أمريكا التي لها تبادلات تجارية محدودة مع موسكو، بل على العكس واشنطن قد تستفيد من العقوبات لأنها منافس لكثير من الصادرات الروسية، خاصة في الحبوب والطاقة والسلاح، بينما أوروبا تعتمد على موسكو بشكل كبير في الطاقة.
هذا الاستنزاف للحلفاء يظهر واضحاً في الحرب التجارية التي تشنها أمريكا على الصين؛ حيث تمارس إدارة بايدن ضغوطاً على حلفائها لحصار بكين اقتصادياً، وهو حصار قد يضر حلفاء أمريكا، ولكنهم مضطرون للانصياع لها في ظل الحرب الجديدة التي تقودها واشنطن، وهو ما دفع ماكرون إلى التحذير من "خطر" أن تذهب أوروبا عموماً وفرنسا تحديداً ضحية للتنافس التجاري الراهن بين واشنطن وبكين، أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم.
يأتي ذلك في ظل معاناة الاتحاد الأوروبي من عجوزات مالية جراء ارتفاع فاتورة الطاقة، والخلافات حول معالجة أسعار الطاقة، إضافة إلى المخاوف من تعرض الاقتصاد الإيطالي ثالث أكبر اقتصادات الاتحاد لأزمة ديون محتملة.
واحدة من أكثر الملفات الخلافية بين أوروبا وأمريكا مجموعة من الإعانات الخضراء التي قدمتها إدارة بايدن والتي تفيد الشركات الأمريكية، التي تمثل أولوية للرئيس الفرنسي خلال زيارته الرسمية لواشنطن، حيث يسعى لتخفيف أحكام قانون بايدن لخفض التضخم، وهي مبادرة تشريعية شاملة تغطي كل شيء من المناخ إلى الصحة. ويخشى الأوروبيون من أن الدعم السخي للصناعات في الولايات المتحدة سوف يقوض صناعتهم ويهدد بحرب تجارية.
وذكرت شبكة DW الألمانية أن الكونغرس الأمريكي صوَّت في أغسطس/آب الماضي على حزمة بقيمة 430 مليار دولار تشمل تخفيضات ضريبية ونحو 369 مليار دولار في شكل إعانات تهدف إلى إفادة الشركات النشطة في قطاع المناخ والتنمية المستدامة. تعتبر أوروبا قانون خفض التضخم إلى حد كبير حمائياً، حيث يهدف التشريع إلى جذب الاستثمار إلى الولايات المتحدة وحث المواطنين الأمريكيين على شراء السيارات الأمريكية، على سبيل المثال، في مواجهة السيارات الكهربائية.
رئيس أكبر شركة سيارات أوروبية يحذر من فقدان القارة لتنافسيتها
وتخشى الصناعات الأوروبية من أن مشروع قانون مكافحة التضخم الأمريكي، الذي يمنح ائتماناً ضريبياً لكل مكون مؤهل يتم إنتاجه في مصنع أمريكي، سيسحب الاستثمارات المحتملة من القارة، وخاصة الجزء المتعلق بمنح إعفاءات ضريبية للسيارات الكهربائية الأمريكية الصنع، حيث يمنح إعفاء ضريبياً بنسبة 30% من تكلفة المصانع الجديدة أو المحدثة التي تبني مكونات الطاقة المتجددة.
وقال توماس شيفر الرئيس التنفيذي لشركة فولكس فاجن الألمانية العملاقة، أكبر شركة لصناعة السيارات بأوروبا، والثانية عالمياً، إن بناء بطاريات السيارات الكهربائية في أوروبا "غير عملي عملياً" بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة.
وأضاف إن دولاً مثل الولايات المتحدة تمضي قدماً في سياسات أكثر ابتكاراً، محذراً من أن ألمانيا والاتحاد الأوروبي "يفقدان بسرعة جاذبيتهما وقدرتهما التنافسية"، في حين أن دولاً أخرى مثل الولايات المتحدة وكندا والصين، "تمضي قدماً".
وقال شيفر إن الخطوط العريضة للتعاون في السياسة الصناعية بين فرنسا وألمانيا "قاصرة في المجالات الحاسمة، ولا تتناول الأولويات المطلوبة".
وقال: "إنني قلق للغاية بشأن التطور الحالي فيما يتعلق بالاستثمارات في تحول الصناعة". "يجب إعطاء الأولوية لهذا بشكل عاجل، بشكل غير بيروقراطي ومتسق وسريع".
وانتقد كذلك "قواعد المساعدات الحكومية البيروقراطية التي عفا عليها الزمن"، في حين أن الولايات المتحدة، مع قانون خفض التضخم، تقدم للشركات "حوافز جذابة للغاية للاستثمار في مصانع جديدة وإنتاج".
وسبق أن قال وزير المالية الفرنسي برونو لو مير إن قانون خفض التضخم الأمريكي الجديد (IRA) يمثل تهديداً كبيراً للشركات الأوروبية، وأن على الاتحاد الأوروبي الوقوف بحزم ضد القانون الذي وصفه بأنه "غير مقبول".
وأضاف لومير إنه يكافح في مفاوضات الاستثمار مع شركة أجنبية في قطاع السيارات الكهربائية، حيث إن الولايات المتحدة مستعدة لتقديم أربعة أضعاف مبلغ الدعم الفرنسي.
وفي المجموع، تقدر فرنسا أن هناك استثمارات بنحو 10 مليارات دولار و10 آلاف وظيفة على المحك.
واشنطن لا ترى أوروبا منافساً في مجال التقنيات الجديدة
وترى صحيفة Politico، أن الحقيقة المزعجة هي أن الأوروبيين يواجهون صعوبة في إقناع شركاتهم بالاستثمار في الداخل لأن الحكومات تركز بشكل أكبر على دعم فواتير الغاز المنزلي بدلاً من مساعدة الصناعة في المنطقة على تجاوز الأزمة.
وتضيف أن الحقيقة المحزنة هي أن إدارة بايدن ربما لم تفكر حتى في أوروبا عندما قررت الإعانات.
وقال الرئيس الفرنسي خلال لقائه مع أعضاء الكونغرس: "ضعوا أنفسكم في مكاني.. لم يتصل بي أحد عندما كان قانون خفض التضخم يناقش"، طالباً "الاحترام كصديق جيد".
إذ يبدو أن الأمريكيين لم يفكروا في أوروبا كثيراً عند وضع القانون الذي يستهدف بالأساس تعزيز قدرات بلادهم التنافسية في مواجهة الصين في مجال السيارات الكهربائية والبطاريات، بينما لا يرى (هو) الأمريكيين منافساً محتملاً، وتابعاً لا يأبهون له كثيراً.
عندما يتعلق الأمر بالابتكار، فإن أوروبا صحراء. لا توجد شركة أبل أوروبية أو غوغل أو تسلا. في الواقع، فإن القيمة السوقية لشركة تسلا أعلى بأربعة أضعاف من قيمة صناعة السيارات الألمانية بأكملها، حسب وصف الصحيفة الأمريكية، التي تلمح إلى أن لعبة إلقاء اللوم على أمريكا في أوروبا ليست سبب أخطاء أمريكا، بل هو حسد أوروبي للولايات المتحدة.