لعقودٍ حاول الغرب التخلص من فخ التبعية للنفط العربي، ولكنه وجد نفسه وتحديداً أوروبا قد سقط في فخ التبعية للغاز الروسي، والآن يبدو مهدداً بالسقوط في فخ التبعية للتكنولوجيا الصينية، فهل يستجير الغرب بالنار الصينية من الرمضاء الروسية والعربية أم تقود أمريكا العالم لحرب عالمية على المواد الخام المستخدمة في صناعة التكنولوجيا؟
منذ حظر النفط العربي خلال حرب العبور، أكتوبر/تشرين الأول 1973، والشعار السائد في الغرب هو التخلص من النفط العربي، ولم يتحقق ذلك كثيراً، ولم يظهر في الواقع أن النفط العربي يمثل خطراً على الغرب، لأن أغلب الدول العربية صديقة له، كما أن العراق الذي كان معادياً تم غزوه من قبل أمريكا، ولكن أوروبا تحديداً استفاقت من الهوس بالتخلص مما يُعرف بالتبعية للنفط العربي، باكتشاف أنها باتت رهينة للغاز الروسي، عندما أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوامره لقواته بغزو اوكرانيا، في فبراير/شباط 2022، لتسارع أوروبا لمطالبة الدول العربية مثل قطر ومصر والجزائر بإنقاذها بإمدادات الغاز المسال، الذي لطالما فضلت عليه الغاز الرخيص القادم إليها عبر الأنابيب الروسية.
وفي الوقت ذاته، يمضي الغرب قدماً في خططه للتخلص من الاعتماد على الوقود الأحفوري بحماسة قد تبدو خطيرة، إذ قرر الاتحاد الأوروبي منع بيع السيارات الجديدة العاملة بمحركات الاحتراق الداخلي في عام 2035، وهو ما يعني زيادة السيارات الكهربائية المعتمدة على البطاريات القابلة للشحن، فيما تسيطر الصين بشكل شبه كامل على صناعة البطاريات، وأيضاً على المواد الخام الأساسية فيها، ولاسيما ما يُعرف بالمعادن الأرضية النادرة.
الصين تحاول اختراق صناعات التكنولوجيا والبطاريات الأمريكية
ورغم أن أمريكا على عكس أوروبا نجحت في تحقيق الاستقلال في إنتاج النفط والغاز، حيث تعد من كبار منتجي ومصدّري المادتين، فإنها تخشى من أن تحاول الصين الاستفادة من التوجه الغربي للاعتماد بشكل أكبر على المركبات التي تعمل بالبطاريات.
بل تعتبر كثير من المصادر الأمريكية أن بكين تحاول صناعة التكنولوجيا الأمريكية للحصول على التقنيات الحديثة، مع إبقاء اعتماد واشنطن ومجمل الغرب على الطاقات المهولة الصينية في مجال التكنولوجيا وصناعة البطاريات.
تقدم مجلة Forbes الأمريكية مثالاً لما تعتبره خططاً صينية لإيقاع واشنطن في فخ التبعية التكنولوجية للصين، مثلما حدث مع شركة لوردستاون موتورز الأمريكية، التي كانت تواجه صعوبات مالية كبيرة في عام 2021، وربما تكون قد سقطت، لكن شركة فوكسكون التايوانية أنقذتها.
فمؤخراً، ضخت شركة فوكسكون التايوانية، التي تصفها المجلة الأمريكية بأنها واقعة تحت تأثير الصين، 170 مليون دولار أخرى في شركة لوردستاون موتورز، وشركة أوهايو للشاحنات الكهربائية. يأتي هذا بعد شراء Foxconn لمصنع لوردستاون، ومخزون قيمته 50 مليون دولار، في نوفمبر/تشرين الثاني 2021.
رغم أن التمويل الصيني الجديد يعتمد على موافقة لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة بوزارة الخزانة الأمريكية (CFIUS)، فإنه فمن المحتمل أن يُسمح للحكومة الصينية بتفعيل حصتها الموسعة الجديدة في شركة لوردستاون موتورز.
يجعل استثمار فوكسكون، ومشاريع التكنولوجيا الأخرى، الولايات المتحدة أكثر اعتماداً على الصين.
فمن مصلحة الصين دعم شركات السيارات الكهربائية التي تعمل بالبطاريات في أمريكا، لأن بكين هي المصنع الأكبر في العالم للبطاريات، وبفارق كبير عن منافسيها.
وبالتالي كلما زاد عدد الحافلات والشاحنات والسيارات التي تعمل بالبطاريات في الولايات المتحدة، زاد عدد البطاريات التي يمكن للصين بيعها.
واشترت الصين شركات أمريكية أخرى للسيارات الكهربائية والبطاريات الكهربائية. فازت شركة BYD الصينية العاملة في مجال السيارات والبطاريات بعقد عام 2018 لبيع حافلات كهربائية إلى ولاية جورجيا الأمريكية، ودخلت شركة Smith Electric الأمريكية في شراكة مع Wanziang الصينية لصنع سيارات كهربائية.
وترى المجلة أن أمريكا تدخل في مشكلة التبعية في قطاع النقل الحيوي، تماماً كما دخلت أوروبا في مشكلة الاعتماد على روسيا.
يمكن للشركات الصينية الإدراج في البورصات الأمريكية، وزيادة رأس المال في أمريكا للشركات الصينية، لكن الشركات الأمريكية لا تُدرج في البورصات الصينية. تم طرح شركة Li Auto الصينية للسيارات الهجينة للاكتتاب العام في بورصة ناسداك الأمريكية، المتخصصة في أسهم التكنولوجيا، العام الماضي، وتهدف إلى بيع السيارات الهجينة في السوق الأمريكية.
تسمح القوانين الأمريكية للشركات الصينية بشراء 100% من الشركات الأمريكية، لكن الشركات الأمريكية غالباً لا تستطيع شراء 100% من الشركات الصينية، حيث تحتفظ حكومة الصين بحصة في الشركات الصينية المشتراة.
والأمر لا يقتصر على قطاع النقل الكهربائي، بل هناك مجال لا يقل خطورة، وهو مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يتحول المراهقون في العالم بما فيهم الأمريكيون من شركات فيسبوك وInstagram وتويتر الأمريكية إلى تطبيق Tik Tok الصيني، وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي.
بينما Gmail والعديد من تطبيقات التواصل الاجتماعية الأمريكية الأخرى محظورة في الصين. ويمكن استخدام خوارزميات الصين للتأثير على المراهقين وتتبعهم، ولكن لا يمكن للمراهقين الصينيين الوصول إلى المنصات الأمريكية.
وأقامت الصين مراكز كونفوشيوس في الجامعات الأمريكية لتعليم الطلاب الأمريكيين الثقافة الصينية أو مزايا الحزب الشيوعي الصيني، حسب وصف المجلة الأمريكية.
ومع ذلك، لن تسمح الصين بإنشاء الجمعيات الفيدرالية، أو جمعيات آدم سميث، في الجامعات الصينية من قبل الشركات الأمريكية.
وترى مجلة Forbes أن سياسات الطاقة الحالية تضعف أمريكا بدلاً من تقويتها. فمن خلال الأهداف الفيدرالية والخاصة بالولاية فيما يتعلق بالطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية التي تعمل بالبطاريات، أصبحت أمريكا أكثر اعتماداً على الصين.
وحتى التوربينات والألواح الشمسية تحتاج أمريكا تدريجياً إلى تحمل تكاليف نقل التصنيع في الخارج إلى مكان آخر.
وتقول المجلة "يحتاج الكونغرس إلى النظر في تداعيات كلا الخيارين، لأن الخيار الثاني صعب، سيكون الإغراء هو الحفاظ على الوضع الراهن وقبول الخيار الأول سيكون خطأً فادحاً، حسب وصفها، حيث تقول حان الوقت للتوقف عن منح الصين مزيداً من النفوذ على الولايات المتحدة.
هل يستطيع الغرب الاستغناء عن البطاريات الصينية؟
لكن الولايات المتحدة وأوروبا يسعيان لتجنب هذا المصير، فلقد ذكرت صحيفة فايننشال تايمز البريطانية، يوم الإثنين، نقلاً عن توقعات غولدمان ساكس، أن الولايات المتحدة وأوروبا قد تخفضان اعتمادهما على الصين لبطاريات السيارات الكهربائية من خلال إنفاق رأسمالي جديد يزيد على 160 مليار دولار بحلول عام 2030.
ويعتقد محللو البنك الاستثماري أن الطلب على البطاريات الجاهزة يمكن تلبيته بدون الصين، في غضون السنوات الثلاث إلى الخمس المقبلة، نتيجة للاستثمارات في الولايات المتحدة من قبل التكتلين الكوريين الجنوبيين LG وSK Hynix 000660.KS، وفقاً لتقرير Goldman إلى العملاء.
حسب التقرير، فإنه لتحقيق سلسلة توريد مكتفية ذاتياً، ستحتاج البلدان الغربية وحلفاؤها (مثل اليابان وتايوان) إلى إنفاق 78.2 مليار دولار على البطاريات، و60.4 مليار دولار على المكونات، و13.5 مليار دولار على تعدين الليثيوم والنيكل والكوبالت، بالإضافة إلى 12.1 مليار دولار على عمليات التكرير.
خطة أمريكا لمحاربة بكين تُغضب أوروبا
لكن هذه المساعي للاستقلال في صناعة التكنولوجيا والبطاريات عن الصين لن تأتي بدون ثمن.
أول الأثمان هو احتمالات اندلاع حرب تجارية بين الحليفين الكبيرين، الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، جراء السياسات الحمائية الأمريكية لتحفيز صناعات السيارات الكهربائية والبطاريات المحلية.
وسط مساعٍ من قِبل فرنسا للتصعيد، حيث تقود خطاً متشدداً ضد واشنطن، حيث لوحت برفع شكوى أوروبية لمنظمة التجارة العالمية وفرض قيود على التجارة، كرد فعل ضد قانون خفض التضخم الأمريكي، الذي سنته واشنطن مؤخراً، والذي يحفز المستهلكين الأمريكيين على "شراء السيارات الأمريكية الصنع الصديقة للبيئة، ويجادل الاتحاد الأوروبي بأن اشتراط القانون أن تحتوي السيارة على بطارية بها نسبة معينة من المحتوى المحلي، يميز ضد الاتحاد الأوروبي والشركاء التجاريين الآخرين، ويهدد صناعة السيارات الكهربائية الأوروبية.
وتخشى الصناعات الأوروبية من أن مشروع القانون، الذي يمنح ائتماناً ضريبياً لكل مكون مؤهل يتم إنتاجه في مصنع أمريكي، سيسحب الاستثمارات المحتملة من القارة، وخاصة الجزء المتعلق بمنح إعفاءات ضريبية للسيارات الكهربائية الأمريكية الصنع، حيث يمنح إعفاء ضريبياً بنسبة 30% من تكلفة المصانع الجديدة أو المحدثة، التي تبني مكونات الطاقة المتجددة.
والحقيقة أن الأمر لا يقتصر على الخلاف الأوروبي الأمريكي التجاري حول قانون خفض التضخم، بل إن الأمر تحول إلى ما يشبه نزاعاً متعدد الجنسيات حول قانون خفض التضخم الأمريكي الذي تم تمريره، حيث يرى الاتحاد الأوروبي وكوريا الجنوبية واليابان والشركاء التجاريون الآخرون للولايات المتحدة، أن المساعدة التي يقرها القانون غير عادلة.
وقال وزير المالية الفرنسي برونو لو مير، إنه يكافح في مفاوضات الاستثمار مع شركة أجنبية في قطاع السيارات الكهربائية، حيث إن الولايات المتحدة مستعدة لتقديم أربعة أضعاف مبلغ الدعم الفرنسي.
وفي المجموع، تقدر فرنسا أن هناك استثمارات بنحو 10 مليارات دولار و10 آلاف وظيفة على المحك.
وقال لومير: "هناك خطر حدوث صدمة كبيرة للصناعة الفرنسية والأوروبية".
إذ يبدو أن أمريكا تريد خوض الحرب التجارية مع الصين، وتحقيق الاستقلال في التكنولوجيا وصناعة البطاريات على حساب حلفائها المقربين.
وتخشى فرنسا تحديداً أن أوروبا قد تقع ضحية للحرب التجارية الأمريكية الصينية.
وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخراً لصحيفة لي إيكوس اليومية الفرنسية، إن الأمريكيين يشترون المنتجات الأمريكية، ويتبعون استراتيجية شديدة العدوانية، من خلال قيام الحكومة بمساعدة الصناعة الأمريكية، والصينيون يغلقون أسواقهم. ولا يمكن أن يكون الاتحاد الأوروبي المنطقة الوحيدة التي تلتزم بحرية التجارة، حيث لا يوجد تفضيل أوروبي للمنتجات الأوروبية.
كما تثير سياسات واشنطن المتشددة ضد نقل التكنولوجيا لبكين خلافات بين الجانبين الأوروبي والأمريكي، حيث أصدرت الولايات المتحدة قواعد جديدة صارمة للرقائق الإلكترونية، الشهر الماضي، تمنع الشركات الأمريكية من شحن معدات صناعة الرقائق إلى الشركات الصينية، لقطع الطريق على محاولات بكين لتطوير صناعة أشباه موصلات متقدمة يمكن لجيشها استخدامها.
كان المسؤولون الأمريكيون مصرّين على أن جميع حلفائهم في جميع أنحاء العالم يجب أن يفعلوا الشيء نفسه قريباً مع صانعي الرقائق، وهي خطوة أساسية لضمان عدم قدرة الشركات الصينية على الحصول على معدات صناعة الرقائق من الشركات غير الأمريكية.
وأثار المسؤولون الأمريكيون بالفعل فكرة مناقشة التنسيق بشأن صادرات صناعة الرقائق للصين، لكن الأوروبيين منقسمون بشأن هذه المسألة.
فألمانيا، التي يعتمد اقتصادها الموجه للتصدير على التجارة مع بكين، ودول أوروبا الشرقية بقيادة المجر، تريد الحفاظ على علاقات أكثر إيجابية مع الصين، كما أن هولندا مصدر رئيسي لمعدات تصنيع الرقائق للصين وتايوان واليابان وكوريا الجنوبية، رغم أن لديهم قلق من الصعود الجيوسياسي للصين، ولكنهم في الوقت ذاته مصدرون بشكل كبير للتكنولوجيا لبكين.
وألمحت هولندا مؤخراً إلى أنها لن تتبع الخطط الأمريكية لحظر تصدير الرقائق الإلكترونية المتقدمة للصين، في خطوة وصفتها صحيفة Global Times الصينية بأنها تهدف إلى تعزيز مقاومة اليابان وكوريا الجنوبية لجهود واشنطن في هذا الاتجاه.
وقالت وزيرة التجارة الخارجية الهولندية ليسجي شرينماخر، إن بلادها ستدافع عن مصالحها الاقتصادية، عندما يتعلق الأمر بمبيعات معدات الرقائق إلى الصين، ما يرسل إشارة قوية، مفادها أن هذه الدولة الأوروبية الصغيرة والثرية، والتي تعد موطن شركة الرقائق الرائدة عالمياً ASML، لن تستسلم بسهولة لضغوط الولايات المتحدة، حسب وصف الصحيفة الصينية.
جاء الرد الهولندي بعد أن كثفت إدارة بايدن ضغوطها على حلفائها، بما في ذلك اليابان وهولندا، للانضمام للحظر الشامل الذي أصدرته واشنطن، في أوائل أكتوبر/تشرين الأول 2022، والذي يوقف مجموعة واسعة من صادرات الرقائق المتقدمة إلى الصين.
وأفادت وكالة بلومبرغ الأمريكية، أن الوزيرة أبلغت المشرعين في بلادها، أمس الأول الثلاثاء، أن هولندا ستتخذ قرارها الخاص فيما يتعلق بمبيعات معدات رقائق ASML إلى الصين، وسط محادثات بشأن القواعد التجارية مع الولايات المتحدة.
ونقلت بلومبرغ عن شرينماخر قولها: "من المهم أن ندافع عن مصالحنا الخاصة، وسلامتنا الوطنية، ولكن أيضاً مصالحنا الاقتصادية".
وأعربت الوزيرة عن قلقها من أن ينتهي الأمر بتخلي البلاد عن حصتها من صادرات آلات الطباعة الحجرية فوق البنفسجية العميقة (DUV)، المستخدمة في تصنيع الرقائق للولايات المتحدة.
وتأتي هذه الخطوة بعد تأكيد كوريا الجنوبية على عدم ضرورة إفساد عمليات توريد منتجاتها إلى الصين، كشرط مسبق للانضمام إلى تحالف "تشيب 4″، الذي تقوده الولايات المتحدة.
ونقلت الصحيفة الصينية عمن وصفتهم بمطلعين على الصناعة، أن الانصياع لضغوط واشنطن لا يجني أي مكاسب، لكنه يخاطر بالتخلي عن أحد أسواق أشباه الموصلات الأكثر ربحاً في العالم للمنافسين، وقد يؤدي إلى خلق خلاف في العلاقات الاقتصادية الثنائية مع بكين.
بل تهدد بحرب عالمية ثالثة حول موارد الدول الفقيرة
كما أن جهود الولايات المتحدة والغرب للمنافسة مع صناعة التكنولوجيا والبطاريات الصينية، تهدد باشتعال منافسة كبيرة على المواد الخام المستخدمة في صناعة البطاريات، والتي تتركز بشكل كبير في إفريقيا، ولاسيما الكونغو الديمقراطية، الدولة شاسعة المساحة، والتي خرجت قبل سنوات من حرب أهلية مدمرة.
من الجدير بالذكر أن الصين تملك أكبر حصة من التيتانيوم في العالم، وتصدر إلى الولايات المتحدة كمية كبيرة من احتياجاتها، كما تهيمن على تجارة التعدين والمعادن في كثير من البلدان النامية، التي تصدر كميات كبيرة من المعادن المهمة، وأحد الأمثلة على ذلك أنها تهيمن على نسبة 70% من الكوبالت الأساسي في صناعة البطاريات، المستخرج في جمهورية الكونغو الديمقراطية، أكبر مورد لهذا المعدن في العالم.
وللصين اليد العليا في مجال المعادن الأرضية النادرة، وهي من المكونات الرئيسية لمنتجات متقدمة تكنولوجياً في مجال الطاقة النظيفة، مثل توربينات الرياح والألواح الشمسية والسيارات الكهربائية، وفي أسلحة عدة من المقاتلات النفاثة إلى الغواصات.
إنّ سيطرة بكين على سوق المعادن الأرضية النادرة جعلت من الصعب- وشبه المستحيل- على الدول الأخرى مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، أن تبني سلاسل التوريد الخاصة بها وتديرها بشكلٍ تنافسي.
وقد استغلت الصين إمداداتها من المعادن الأرضية النادرة لجذب المصنعين الأجانب وزيادة قوتها الصناعية، كما أنّ نفوذ بكين زاد المخاوف من أنّها ستمتص الصناعات عالية التقنية من البلدان الأخرى، وأنها ستحظى بنفوذٍ كبير في تشكيل مستقبل الاقتصاد العالمي والتطور التكنولوجي.
وسبق أن استغلت الصين هيمنتها على المعادن الأرضية النادرة لأغراضٍ سياسية، ففي عام 2010، عقب تصاعد التوترات بين بكين وطوكيو، حظرت الصين- التي كانت تُنتج 93% من الإجمالي العالمي وقتها- صادراتها من المعادن الأرضية النادرة إلى اليابان.
يعني كل ما سبق أنه في حال السيناريو الأقل خطورة في التنافس الأمريكي الصيني في صناعات التكنولوجيا والبطاريات، فإن الولايات المتحدة ستسعى تدريجياً وببطء للاستغناء عن الاعتماد على الصين في مجال الخامات والبطاريات والتكنولوجيا، وستمنع عنها في الوقت ذاته الرقائق المتقدمة ومعدات تصنيعها، على أن تعمل على نقل أغلب هذه الصناعات للأراضي الأمريكية، وترك حصة لبعض حلفائها، مع السعي لتعزيز وجود الشركات الأمريكية، في مناطق توفر المواد الخام في منافسة مع الشركات الصينية.
هذا السيناريو سوف يؤدي لعرقلة تقدم الصين فيما يتعلق بالرقائق الأكثر دقة تحديداً، وفي المقابل فإنه سيؤدي لرفع تكلفة المنتجات الأمريكية والغربية، بعد التخلي عن سلاسل التوريد الصينية الرخيصة الفعالة في وقت لا تبدو الهند أو فيتنام قادرتين على توفير بديل بنفس الكفاءة لبكين، وهذا ما قد يؤدي لانتهاء عصر التكنولوجيا الرخيصة.
ولكن هناك سيناريو أسوأ، وهو الانفصال السريع بين أمريكا وحلفائها وبين الصين في مجال صناعات التكنولوجيا، وهذا سيؤدي لأزمة كبيرة للصين، خاصة في مجال التكنولوجيا الأكثر تقدماً، في المقابل تستطيع بكين الرد بمنع توريد المعادن الأرضية النادرة أو عرقلتها، وكذلك وقف تصدير المنتجات الصينية، لا سيما السلع الوسيطة للغرب، الذي يمكنه إيجاد بديل سريع وبنفس الكميات والأسعار الصينية.
أما السيناريو الأسوأ فهو اندلاع صراع ساخن أو شبه ساخن على المواد الخام المستخدمة في التكنولوجيا بين الصين التي تتواجد شركاتها بقوة في إفريقيا، موطن هذه المواد الأساسية وبين الغرب، الموجود بنفوذه السياسي والعسكري.
ويجب تذكر أن أحد أسباب انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية على ألمانيا النازية واليابان، كانت سيطرة الغرب على المناطق الغنية بالمواد الخام والطاقة في إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، إضافة لهيمنة موسكو على موارد الاتحاد السوفييتي الهائلة، فيما كانت رومانيا تكاد المصدر الوحيد للنفط الخام بالنسبة لألمانيا، التي كانت تعاني صعوبة كبيرة في الوصول للمواد الخام، لدرجة اضطرارها لتخليق نفط من المحاصيل الزراعية لتسيير طائراتها.
كما أن الغرب دائماً ما كان يركز على السيطرة على نفط الشرق الأوسط ومعادن إفريقيا، لضمان الإمدادات لصناعاته، ومنعها عن منافسيه، والأسوأ بالنسبة له كان أي محاولة محتملة من قبل السوفييت للسيطرة على موارد الطاقة والخامات بإفريقيا والشرق الأوسط، وهو الخط الأحمر الذي رسمته أمريكا لعقود ولم يحاول الاتحاد السوفييتي انتهاكه.
ولكن الاتحاد السوفييتي لم يكن بحاجة ماسّة للمواد الخام والتكنولوجيا، لأنه كان مكتفياً ذاتياً تقريباً منهما (حتى لو كانت تكنولوجيته متخلفة عن الغرب)، ولكن الأمر مختلف كثيراً مع الصين، التي رغم مواردها الهائلة تعتمد على التكنولوجيا الغربية، والمواد الخام والطاقة الإفريقية والعربية والروسية.
ولذلك محاولة منع هذه الموارد والتكنولوجيا تهديد وجودي لبكين، كما أن لديها أوراق ضغط بدورها على الغرب.
ولذا فاندلاع أي صراع ساخن أو شبه ساخن قد يؤدي لكارثة على الطرفين، ولذلك الأرجح أن الطرفين سيفضلان السير في السيناريو الأول، وهو الانفصال البطيء والتدريجي، الذي سيُسفر في الأغلب عن خلق كتلتين اقتصاديتين وتكنولوجيتين منفصلتين، الأولى بقيادة الصين، وتضم روسيا بالأساس، والثانية بقيادة أمريكا وحلفائها الغربيين والآسيويين، وسيكون على الدول العربية والآسيوية والإفريقية الاختيار بين الكتلتين، أو المحاولة الصعبة للحفاظ على العلاقة معهما سوياً.
وحتى لو تحقق سيناريو الانفصال التدريجي فسيكون سيناريو سيئاً حتى لو كان أفضل من الصراع المفتوح، حيث يصبح العالم أكثر استقطاباً وأقل انفتاحاً، والسلع أغلى في التكلفة، وأقل في الفاعلية، بعد زوال سلاسل التوريد العالمية القائمة على الشراكة الصينية الغربية، التي أدت لعصر التكنولوجيا والسلع الرخيصة، حيث كان العالم العربي وروسيا هما محطتي وقود العالم التي تضخ الطاقة، وإفريقيا هي منجم العالم الذي يوفر المعادن، وأمريكا هي مصرف وعقل العالم الذي يصمم ويبتكر ، وأوروبا هي ورشة العالم التي تنتج آلات التصنيع، بينما الصين مصنع العالم الذي ينتج السلع النهائية الرخيصة والحاملة لأشهر العلامات التجارية مثل هاتف "آي فون الشهير".