تواصل أوروبا مساعيها استعداداً لشتاء بدون الغاز الروسي، فهل هذا السيناريو وارد من الأساس أم أنها "أحلام يقظة" لها تكلفة باهظة؟ وكيف يمكن أن تنتهي لعبة "شد الأصابع" بين موسكو وبروكسل؟
قبل حتى أن يبدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا، أواخر فبراير/شباط الماضي، كانت أوروبا تسعى إلى إيجاد بدائل للغاز الروسي، وكانت قضية الغاز الروسي الذي يصل إلى أوروبا عبر خط أنابيب ينقل الغاز إلى ألمانيا وباقي دول القارة، تمثل نقطة خلاف كبرى بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وتصاعدت حدة الخلاف مع مشروع نورد ستريم2، الذي أعلنت ألمانيا تعليقه مع بدء الهجوم الروسي.
ومنذ بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة"، بينما يصفه الغرب بأنه "حرب عدوانية وغزو غير مبرر"، تحوّل الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي لأحد أكبر الأسلحة الاستراتيجية في تلك الحرب، بين روسيا من جهة والغرب من جهة أخرى.
معركة "شد الأصابع" بشأن الغاز
ومع اقتراب فصل الشتاء، الذي يمثل ذروة حاجة أوروبا للغاز، يبدو أن معركة عض الأصابع بين الاتحاد الأوروبي وروسيا تتجه نحو التصعيد، لتصبح معركة تكسير عظام. إذ قطعت موسكو الغاز عن 13 دولة أوروبية كلياً أو جزئياً، بينما تتوجه بروكسل نحو تسقيف أسعار الغاز، ووضع خطة صارمة لمواجهة شتاء روسي قاس.
وفي معركة الغاز هذه، الكل يتألم، سواء دول الاتحاد الأوروبي، التي تجد صعوبة في تعويض الغاز الروسي قبل الشتاء المقبل، ناهيك عن الأسعار المضاعفة، أو في روسيا التي تشهد مداخيلها من النفط والغاز تراجعاً شهرياً، بداية من أغسطس/آب الماضي، رغم ارتفاع الأسعار.
وعلى المدى القصير والمتوسط من المرجح أن تفقد موسكو النسبة الأكبر من السوق الأوروبية، ومن الصعب على السوق الآسيوية استيعاب كامل الصادرات الروسية، بحسب تقرير لوكالة الأناضول.
تحتاج روسيا إعادة بناء شبكة جديدة من أنابيب الغاز نحو الصين، وربما الهند على المدى المتوسط، بينما ستذهب معظم استثمارات خطوط أنابيب الغاز الروسية نحو أوروبا مهب الريح، إلا إذا تحسنت العلاقات مستقبلاً، فلا يوجد مستحيل في السياسة.
أما من ناحية أوروبا، فقد كانت تكلفة فرض عقوبات على روسيا، على خلفية الحرب في أوكرانيا، كبيرة، بالنظر إلى تضاعف أسعار الغاز في السوق الدولية، وانتشار المظاهرات والاحتجاجات في أكثر من بلد أوروبي بعد ارتفاع فواتير الكهرباء وغاز التدفئة. غير أن الاتحاد الأوروبي لا يبدي استعداداً للتراجع أمام التهديدات الروسية بوقف إمدادات النفط والغاز إلى القارة العجوز.
وفي هذا السياق، ذكر تقرير لصحيفة Financial Times البريطانية أن الموازنة الروسية سجلت عجزاً في شهر أغسطس/آب الماضي، بلغ 5.9 مليار دولار، بعدما راكمت فائضاً على مدى الأشهر السبعة الأولى من هذا العام بلغ أكثر من 8 مليارات دولار.
ويعني هذا أن عجز الموازنة الروسية في شهر واحد أدى إلى تآكل فائض سبعة أشهر وتقلصه، في أغسطس/آب، إلى نحو ملياري دولار، بعد تراجع صادرات الطاقة إلى أوروبا بنحو 20%.
وهو ما تعتبره الدول الغربية بداية تأثير عقوباتها على الاقتصاد الروسي، في الوقت الذي تحاول فيه استيعاب صدمة وقف إمدادات الغاز الروسي، بزيادة إنتاج الطاقات المتجددة، والعودة ولو مؤقتاً لاستغلال الفحم والطاقة النووية، واستيراد كميات إضافية من الغاز من الولايات المتحدة والنرويج والجزائر وأذربيجان ونيجيريا.
أين وصلت استعدادات أوروبا؟
ومع اقتراب فصل الشتاء، الذي يمثل ذروة حاجة أوروبا للغاز، يبدو أن معركة عض الأصابع بين الاتحاد الأوروبي وروسيا تتجه نحو التصعيد، لتصبح معركة تكسير عظام. إذ قطعت موسكو الغاز عن 13 دولة أوروبية كلياً أو جزئياً، بينما تتوجه بروكسل نحو تسقيف أسعار الغاز، ووضع خطة صارمة لمواجهة شتاء روسي قاس.
هناك عوامل تجعل القادة الأوروبيين يشعرون بالثقة في قدرة القارة على تحمل انقطاع تام للغاز الروسي، أولها أن دول الاتحاد الأوروبي كانت تعتمد بنسبة 40% على غاز موسكو، لكن تلك الدول تمكنت بالفعل من تخفيض هذه النسبة إلى 9% فقط.
والعامل الثاني يتمثل في تجاوز الاتحاد الأوروبي نسبة ملء خزانات الغاز الهدف المحدد والمقدر بـ80%، ليبلغ 84%، بالرغم من أن رئيس المفوضية الأوروبية، أورسولا فان دير لاين، ترى أن ذلك "ليس كافياً".
فهذه النسبة لا تسمح لأوروبا سوى بالصمود لثلاثة أشهر، لذلك تراهن فون دير لاين، على من تسميهم "الموردين الموثوقين"، والمتمثلين في الولايات المتحدة والنرويج والجزائر، للحفاظ على أوروبا دافئة على المدى الطويل.
وفي السياق، تواصل رئيسة المفوضية الأوروبية الضغط لتمرير خطة متشددة بشأن استبدال الغاز الروسي بشكل تام على المدى القصير، لكن تلك الخطة ستكون لها تداعياتها على تماسك الاتحاد الأوروبي وعلى علاقته ليس فقط بروسيا، بل بكبار المصدرين للغاز أيضاً.
إذ تتمثل خطة فون دير لاين، لإصلاح جذري لقطاع الكهرباء، وإنهاء تبعية أوروبا للغاز الروسي، بحسب وسائل إعلام غربية، في تحديد عائدات توليد الطاقة لشركات الطاقات المتجددة والنووية بـ180 يورو لكل ميغاواط/ساعة، ما سيسمح بجمع أكثر من 140 مليار يورو.
وفرض ضريبة على الشركات العاملة في صناعات النفط والغاز والفحم والتكرير بنسبة لا تقل عن 33% من أرباحها الإضافية. بالإضافة إلى حث الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على خفض الاستهلاك الإجمالي من الطاقة بـ10%، وفرض خفض الطلب خلال ساعات الذروة المحددة بـ5%.
وتقترح فون دير لاين، وضع سقف لسعر الغار الروسي المرسل إلى أوروبا عبر خطوط أنابيب، بينما تطالب دول أخرى على غرار إيطاليا بتسعير سقف الغاز من جميع الدول، في إشارة إلى الولايات المتحدة والنرويج والجزائر وقطر وأذربيجان. وستعرض المفوضية الأوروبية دعماً لمنتجي الكهرباء الذين يواجهون صعوبات في السيولة.
وفي هذا الصدد، يشير مسؤول وصفته وكالة رويترز بالبارز في الاتحاد الأوروبي لم تسمه، بأن دول الاتحاد "يمكنها استخدام 225 مليار يورو (227.57 مليار دولار) في قروض غير مستغلة من صندوق التعافي، التابع للاتحاد، لمعالجة مشكلات الطاقة".
كانت دول الاتحاد الأوروبي في 2020، قد اتفقت على تشكيل صندوق التعافي، حزمة إنقاذ للدول الأشد تضرراً من وباء كورونا ودشن فعلياً في 2021، بقيمة ضخمة تصل لنحو 800 مليار يورو. ومع انقشاع سحب وباء كورونا، يمكن لدول الاتحاد الأوروبي الـ27 الاستفادة من صندوق التعافي، والحصول على قروض لمواجهة أزمة الطاقة.
هل تعيش أوروبا "أحلام اليقظة"؟
نشر موقع معهد جيتستون الأمريكي للأبحاث تحليلاً لبيت هوكسترا السفير الأمريكي السابق لدى هولندا خلال حكم الرئيس السابق دونالد ترامب، قال فيه السفير إنه زار هولندا خلال شهر أغسطس/آب الماضي، وناقش مشكلة الارتفاع الصاروخي لأسعار الطاقة، حيث أصبح من المعتاد وصول قيمة فاتورة الكهرباء للمنزل في هولندا إلى ما بين 400 و600 يورو شهرياً، بحسب تقرير لموقع دويتش فيلة الألماني.
وقالت إحدى الشركات الهولندية إنها تدفع حالياً سعراً للغاز الطبيعي يعادل أربعة أمثال السعر منذ عام. وأضافت أنه بسبب ارتفاع أسعار الطاقة تعتزم خفض إنتاجها، بنسبة 50% خلال الشتاء المقبل. وتعاني أغلب دول الاتحاد الأوروبي من وصول أسعار الطاقة إلى ثمانية أمثال مستواها في العام الماضي. وتشهد كل من ألمانيا وهولندا ارتفاعات صاروخية لأسعار الطاقة.
ففي ألمانيا وصل السعر إلى 1050 يورو لكل ميغاوات/ساعة قبل التراجع إلى 610 يورو لكل ميغاوات/ساعة خلال الشهر الماضي. وكان سعر الميغاوات/ساعة خلال العام الماضي حوالي 85 يورو فقط!
هذا التضخم الهائل في تكاليف الطاقة يؤدي إلى إجراءات متوقعة ونتائج غير متوقعة. ورصدت هولندا تراجعاً في الطلب. وهذا يعني أنه عندما يرتفع سعر منتج ما، يقل الطلب عليه.
وتتحرك العديد من دول الاتحاد الأوروبي بشكل منفرد لمواجهة أزمة أسعار الطاقة، سواء بوضع سقف للأسعار أو بتقديم منح نقدية مباشرة للأسر والشركات المتضررة.
لكن على مستوى الاتحاد الأوروبي ككل يبدو أنه أصبح هناك اتفاق على ضرورة إعادة هيكلة سوق الطاقة الأوروبية بالكامل، وبسرعة.
ويأمل قادة الاتحاد في إنجاز المهمة أوائل العام المقبل، لكن أياً من تلك الإجراءات لا تضع أساساً لحل عملي طويل الأجل لأزمة الطاقة في أوروبا، بحسب هوكسترا الذي يعمل حالياً رئيساً لمركز مجلس المستشارين للسياسة الأمنية وباحثاً كبيراً في معهد جيتستون.
والحقيقة أن مشكلة الطاقة في أوروبا لم تتكون في يوم وليلة، وبالتالي فحلها لن يكون في يوم وليلة. ورغم أن السياسيين الأوروبيين يلقون بكامل مسؤوليتها على بوتين و"غزوه" لأوكرانيا، فإن جذور المشكلة أعمق من ذلك.
فمنذ سنوات تعهد الاتحاد الأوروبي بالتحول إلى مصادر الطاقة المتجددة، لكن ألمانيا والنمسا وإيطاليا وهولندا تعود بسرعة إلى تشغيل محطات الكهرباء التي تعمل بالفحم للحد من استخدام الغاز الطبيعي. ويقول الخبراء في ألمانيا إن الحكومة الائتلافية تحاول شراء الوقت باستخدام الفحم، وبالتالي فإنها لن تستطيع أن تقدم حلولاً طويلة المدى أكثر استدامة.
ويرى الدبلوماسي الأمريكي وعضو الكونغرس السابق هوكسترا أنه كان في مقدور أوروبا تجنب أزمة الطاقة الحالية لو أن حكوماتها كانت قد وضعت خططاً عقلانية للتعامل مع ملف الطاقة، بدلاً من الخطط التي تستند إلى "أحلام اليقظة" مهما كان إغراء تلك الأحلام.
خطط لا تحظى بالواقعية أو الإجماع
فالخطط الأوروبية استندت إلى الأمل في قبول المستهلكين بدفع أسعار أعلى للحصول على الكهرباء مقابل الحفاظ على البيئة، إضافة إلى تمني ازدهار تكنولوجيا بطاريات تخزين الكهرباء من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح بسرعة لكي تضمن تغطية الأوقات التي لا تكون فيها الرياح قوية ولا الشمس مشرقة بما يكفي لتوليد الكهرباء.
وحتى خطة فون دير لاين لا تحظى بإجماع دول الاتحاد الأوروبي، خاصة أنها تتعلق بتسقيف سعر الغاز الروسي، في الوقت الذي يهدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بوقف نهائي لإمدادات الطاقة نحو أوروبا.
فدول شرق أوروبا أو الدول غير المطلة على البحار مثل النمسا وبولندا، تخشى أن يؤدي تسقيف أسعار الغاز إلى قطع روسيا الغاز الطبيعي عنها نهائياً، في الوقت الذي لا تملك فيه بنية تحتية كافية لاستيراد الغاز المسال من الولايات المتحدة أو من دول أخرى، ما سينعكس سلباً على إنتاج الكهرباء وتلبية حاجات مصانعها.
وتعتبر المجر من أكثر الدول في الاتحاد الأوروبي الرافضة لفكرة تسقيف أسعار الغاز الروسي، أو حتى تخفيض الكميات المستوردة منه عبر الأنابيب. وهذا الوضع من شأنه تعميق الانقسام بين دول الاتحاد الأوروبي، خاصة بين الدول التي ملأت خزاناتها من الغاز بنسب تفوق 80% ولها بدائل لاستيراد الغاز من دول أخرى، وبين الدول الأوروبية التي لا تمتلك البنية التحتية اللازمة لاستبدال الغاز الطبيعي الروسي بالغاز المسال.
والحديث عن تسقيف الغاز الطبيعي غير الروسي سيفتح أزمة مع النرويج والولايات المتحدة أكبر مصدرين للاتحاد الأوروبي، خاصة أن الأمر يتنافى مع مبادئ اقتصاد السوق، وأن الأسعار يحددها العرض والطلب.
فالنرويج التي أصبحت على رأس الدول المصدرة للغاز لأوروبا بعد تراجع الغاز الروسي شككت في إمكانية تحديد أسعار الغاز في ظل اشتداد الطلب عليه.
وقال رئيس الوزراء النرويجي يوهان غار ستور، عقب مكالمة هاتفية مع رئيسة المفوضية الأوروبية، "فرض سعر أقصى لا يغير المسألة الأساسية المتمثلة في وجود نقص في الغاز في أوروبا".
فتنفيذ قرار تسقيف أسعار الغاز الذي تؤيده 12 دولة أوروبية على الأقل من شأنه توسيع الصراع ليس فقط مع روسيا، بل مع الدول المصدرة للغاز بما فيها الحليفة والموثوقة.