بين مبررات بوتين ورواية الغرب عن “جنون القيصر”.. إلى أين يتجه الهجوم الروسي على أوكرانيا؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/02/28 الساعة 20:01 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/05/07 الساعة 11:00 بتوقيت غرينتش
جنود من قوات الجيش الأوكراني - Getty Images

يرى الرئيس فلاديمير بوتين أن الغرب يريد استخدام أوكرانيا كنقطة ارتكاز لغزو وتدمير روسيا، بينما يرى الغرب أن الهجوم على أوكرانيا ليس له سبب سوى "جنون العظمة لدى القيصر".

تلخص تلك الرؤية وجهة النظر الروسية من جهة والغربية من جهة أخرى بشأن الأزمة الأوكرانية، وبدون فهم منطق كل طرف بالتفصيل سيكون من المستحيل رؤية الطبيعة الكاملة للحرب، التي يراها الغرب الأزمة الأخطر التي تهدد أمن أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.

وقبل أن يوق~ع بوتين، الأحد 21 فبراير/شباط 2022، مرسوم الاعتراف بدونيتسك ولوغانسك في إقليم دونباس كجمهوريتين مستقلتين عن أوكرانيا، ألقى خطاباً متلفزاً طويلاً سرد فيه وجهة نظره في الأزمة الأوكرانية، ثم كرر الأمر نفسه، الخميس 24 فبراير/شباط، عندما أعلن بدء الهجوم الروسي في أوكرانيا.

وبعد دخول ما وصفها بوتين بالعملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا يومها الخامس دون أن يبدو في الأفق نهاية ما لتلك "العملية"، يرصد هذا التقرير تفاصيل حجج ومبررات الرئيس الروسي من جهة، وتفاصيل وجهة النظر الغربية في الأزمة من جهة أخرى، على أمل استشراف ما قد تؤول إليه تلك الحرب.

"الغرب يتهدد روسيا"

في تقريرٍ عنوانه "شرح حجج بوتين للهجوم على أوكرانيا"، تناولت صحيفة New York Times الأمريكية أبرز ما ساقه بوتين في خطابيه، خصوصاً الأخير الذي شهد إعلان بدء الهجوم على أوكرانيا، من مبررات لاتخاذ تلك الخطوة، إذ صوَّر بوتين الصراع على أنه صراعٌ ضد الغرب ككل.

وجادل بوتين بأن الغرب يهدف إلى استخدام أوكرانيا كنقطة انطلاق لغزو روسيا وتدميرها، وبذلك صوَّر الهجوم على أوكرانيا على أنه ضربةٌ استباقية ضد العدوان الغربي ومعركةٌ حاسمة لحماية سيطرة الإمبراطورية الروسية الشرعية على شرق أوروبا، بحسب الصحيفة الأمريكية.

"إنها حقيقةٌ أننا على مدار الأعوام الثلاثين الماضية كنَّا نحاول بصبرٍ التوصُّل إلى اتفاقٍ مع دول الناتو الكبرى فيما يتعلق بمبادئ الأمن المتكافئ وغير القابل للتجزئة في أوروبا. رداً على مقترحاتنا، واجهنا دائماً إما الخداع والأكاذيب الساخرة وإما محاولات الضغط والابتزاز، بينما استمرَّ تحالف شمال الأطلسي في التوسُّع، على الرغم من احتجاجاتنا ومخاوفنا".

تعزيزات الناتو في أوروبا الشرقية، على إثر الهجوم الروسي على أوكرانيا/رويترز

وصاغ بوتين قراره الهجوم على أوكرانيا على أنه محاولةٌ أخيرة لوقف التوسُّع العدائي للغرب بالقرب من حدود روسيا: "منذ نهاية الحرب الباردة، اختارت بعض الدول في أوروبا الشرقية الانضمام إلى الناتو، مِمَّا جعلهم حلفاء عسكريين لخصوم موسكو السابقين بالغرب. في عام 2008، دفعت واشنطن الناتو إلى الإعلان عن أنه قد يفكر يوماً ما في قبول عضوية أوكرانيا به، على الرغم من أن القادة الغربيين أصروا منذ ذلك الحين، على أنهم لا يرون احتمالاً ضئيلاً لحدوث ذلك في أيِّ وقتٍ قريب".

ووصف بوتين توسُّع الناتو بأنه مؤامرةٌ لتدمير روسيا، وصوَّر فورة الدبلوماسية التي بدأت بعد أن شرعت روسيا في حشد القوات على الحدود الأوكرانية أواخر العام الماضي، على أنها جهود من جانبه لتأمين توازنٍ أوروبي مستقر دون هجوم.

"لا يمكننا أن نبقى مكتوفي الأيدي ونراقب هذه التطورات بشكل سلبي. سيكون هذا أمراً غير مسؤول على الإطلاق بالنسبة لنا. بالنسبة لبلدنا، إنها مسألة حياةٍ أو موت، ومسألة مستقبلنا التاريخي كأمة… إنه ليس فقط تهديداً حقيقياً للغاية لمصالحنا ولكن لوجود دولتنا ذاته ولسيادتها. إنه الخط الأحمر الذي تحدَّثنا عنه في مناسباتٍ عديدة. ولقد تجاوزوه".

لكن الغرب، من وجهة نظره، رأى أن المطالب الروسية كانت متطرفة لدرجة أنه يُنظر إليها على نطاقٍ واسع، على أنها أحكامٌ سامة تهدف إلى عرقلة المحادثات، وتقول وكالات الاستخبارات الغربية إن بوتين يبدو أنه قرَّر الهجوم على أوكرانيا قبل أسابيع أو شهور.

"لم يكن هناك بديل سوى الحرب"

يؤكِّد بوتين أنه، مع فشل الدبلوماسية، ليس لديه خيارٌ سوى إنقاذ روسيا، من خلال حل الصراع الوجودي مع الغرب عبر العنف والذي كان يتصاعد منذ نهاية الحرب الباردة.

وهنا يعتمد بوتين على السردية القومية للمجد الإمبراطوري المفقود، وهي سرديةٌ تاريخيةٌ خاطئة في الغالب لغربٍ يفرض إرادته على أوروبا الشرقية، وهي أيضاً بارانويا متزايدة منذ فترةٍ طويلة، بحسب وصف نيويورك تايمز المعتمد على السردية الغربية.

"أدى انهيار الاتحاد السوفييتي إلى إعادة تقسيم العالم… يتضمَّن ذلك وعوداً بعدم توسُّع الناتو شرقاً ولو شبراً واحداً. لنكرِّر: لقد خدعونا، أو، ببساطة، لعبوا بنا". واستغرقت هذه النقطة بالتحديد قدراً كبيراً من وقت خطاب بوتين، حيث أعاد سرد الأعوام الثلاثين الماضية كتاريخ للوعود الغربية الكاذبة لتقسيم أوروبا، في توازنٍ مستقر بين مناطق النفوذ الأمريكية والروسية. وهو يشير ضمنياً إلى أن هذا يثبت أن الغرب عازمٌ على تطويق روسيا وتدميرها، ومن ثم لا يمكن ردُّه إلا بالقوة".

أوكرانيا
سفينة حربية تابعة لروسيا – Getty Images

وبعد سرد طويل لتدخُّل الناتو في حرب البوسنة عام 1999 واتهامه للغرب بالتآمر في الجمهوريات السوفييتية السابقة، خصوصاً الشيشان، بغرض تدمير روسيا، على حد زعمه، أشار بوتين إلى الغزو الأمريكي للعراق والتدخُّلات الغربية في ليبيا وسوريا كدليل على عدوان الغرب.

"هكذا كان الأمر في تسعينيات القرن الماضي وأوائل القرن الحادي والعشرين، عندما كان ما يسمَّى بالغرب الجماعي يدعم بنشاطٍ الانفصالية وعصابات المرتزقة في جنوب روسيا. أيُّ ضحايا! ما هي الخسائر التي كان علينا تحمُّلها، وما هي المحاكمات التي كان علينا أن نمر بها في ذلك الوقت قبل أن نكسر ظهر الإرهاب الدولي في القوقاز! نتذكر هذا ولن ننسى أبداً".

"الإبادة الجماعية" في شرق أوكرانيا

وآخر مبررات بوتين، أو بمعنى أدق، السبب المباشر للهجوم على أوكرانيا هو الوضع في إقليم دونباس: "هذا يقودني إلى الوضع في دونباس. يمكننا أن نرى أن القوى التي شنت الانقلاب بأوكرانيا في عام 2014 قد استولت على السلطة، وتحتفظ بها بمساعدة إجراءات الانتخابات الشكلية وتخلَّت عن مسار تسوية الصراع سلمياً. كان علينا أن نوقف تلك الفظائع، تلك الإبادة الجماعية لملايين الأشخاص الذين يعيشون هناك والذين علَّقوا آمالهم على روسيا".

ومن المهم هنا تفصيل ما حدث في أوكرانيا نفسها عام 2013 عندما اندلعت احتجاجات حاشدة ضد الرئيس يانكوفيتش الموالي لموسكو، انتهت بالإطاحة به وهروبه، فيما بات يُعرف باسم أحداث الميدان الأوروبي، التي يراها بوتين انقلاباً مدعوماً من الغرب أو بمعنى أدق، انقلاباً نفذه الغرب على الرئيس الشرعي في أوكرانيا، بينما يراها الغرب ثورة شعبية أطاحت برئيس دموي أمر قوات الأمن بقتل المتظاهرين.

ومنذ ذلك الحين يقول الكرملين إن انتفاضة 2014 كانت في الواقع انقلاباً، وإن الحكومة في كييف سعت إلى القضاء التام على الأقلية الناطقة بالروسية في البلاد، والتي يصوِّرها بوتين على أنها تصرخ من أجل تحرير روسيا لها.

"تدعم دول الناتو القيادية القوميين اليمينيين المتطرفين والنازيين الجدد في أوكرانيا، أولئك الذين لن يغفروا أبداً لشعب القرم وسيفاستوبول لاختيارهم بِحرية، لمَّ شملهم مع روسيا".

عمليات إجلاء المدنيين في منطقة دونباس الواقعة تحت سيطرة الانفصاليين/ الأناضول

وصوَّرَ بوتين الحكومة الأوكرانية على أنها نازيةٌ جديدة؛ في محاولة أخرى لتصوير الهجوم الروسي على البلاد على أنه دفاعيٌّ، على غرار المعركة ضد ألمانيا في الحرب العالمية الثانية: "سيحاولون بلا شك، شن الحرب على القرم تماماً كما فعلوا في دونباس؛ لقتل الأبرياء، تماماً كما فعل أعضاء الوحدات العقابية للقوميين الأوكرانيين والمتواطئين مع هتلر خلال الحرب الوطنية العظمى".

لكن الغرب يرى أن الانفصاليين المدعومين من روسيا استولوا على تلك الأراضي بالقوة، مِمَّا أدَّى إلى اندلاع حرب استمرت ثماني سنوات وأودت بحياة الآلاف. ومنذ ذلك الحين، ادَّعى بوتين أن الانفصاليين يدافعون فقط عن المدنيين المحليين من خطر الإبادة: "إذا نظرنا إلى تسلسل الأحداث والتقارير الواردة، لا يمكن تجنب المواجهة بين روسيا وهذه القوى. إنها مسألة وقت. إنهم يستعدون وينتظرون اللحظة المناسبة. علاوة على ذلك، فقد ذهبوا إلى حد التطلُّع إلى الحصول على أسلحةٍ نووية".

وأخيراً قال بوتين: "الغرض من هذا الهجوم (الهجوم الروسي على أوكرانيا) هو حماية الأشخاص الذين يواجهون، منذ ثماني سنوات، الإذلال والإبادة الجماعية التي يرتكبها نظام كييف".

"جنون عظمة القيصر"

لكن على الجانب الآخر نشرت صحيفة The Times البريطانية تحليلاً، عنوانه "داخل عقل بوتين: السلطة المطلقة أعمت قيصر روسيا الجديد"، رصد وجهة النظر الغربية المتمثلة في أن السبب الرئيسي وراء الأزمة الأوكرانية أو "الغزو الروسي" هو عقلية بوتين وهوسه بإعادة المجد لروسيا القيصرية.

وانطلق تقرير الصحيفة البريطانية من واقعتَي "سرقةٍ نسبهما إلى الرئيس الروسي. في يونيو/حزيران 2005، في أثناء زيارة وفد أعمال أمريكي إلى سان بطرسبورغ، لاحظ الرئيس بوتين خاتماً من الألماس كان يرتديه صاحب فريق كرة القدم نيوإنغلاند بيتريوتس. طلب رؤيته، وجرَّبه، وقال: "يمكنني قتل شخص بهذا". ثم زُعِمَ أنه وضعه في جيبه وغادر الغرفة فجأة. 

بعد ثلاثة أشهر، وفي أثناء زيارة متحف غوغنهايم بنيويورك، أخذ القائمون على المعرض قطعة -نسخة زجاجية من بندقية كلاشينكوف مليئة بالفودكا- من صندوق عرض. ووفقاً لما ذكرته كاتبة سيرته الذاتية، ماشا جيسن، أومأ بوتين برأسه إلى أحد حراسه، الذي ببساطةٍ أخذ هذه القطعة. 

تتضاءل مثل هذه السرقة الصغيرة مقارنة باستخدام الأسلحة المشعة والكيماوية على أراضي المملكة المتحدة للتسبب في وفاةٍ مؤلمةٍ لما يتصوَّر بوتين أنهم خونةٌ، مثل ألكسندر ليتفينينكو وسيرجي سكريبال، ناهيكم بشنِّ حربٍ غير مبرَّرة في أوروبا، بحسب الصحيفة البريطانية.

ويرى تحليل الصحيفة أن انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1989 كان بمثابة إذلالٍ عاطفي ومؤلِم للغاية بالنسبة لبوتين. وفي عام 2016، كشف بوتين النقاب عن تمثال لسانت فلاديمير، القديس المؤسِّس لروسيا في القرن العاشر. جعل الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر نفسه نصف إله ورفعت تماثيله وهو لا يزال على قيد الحياة.

وتعتبر التايمز أن "سلوك بوتين الخارج عن السيطرة يتجاوز دوافع شخصيته الأساسية. تشمل سماته الشخصية: النرجسية، وجنون العظمة، والخلط بين المصالح الشخصية ومصالح الأمة، وضعف الحكم، وتناقص الوعي بالمخاطر، وازدراء الآخرين على نطاق واسع".

الغرب يتهم بوتين بالسعي لإعادة أمجاد روسيا القيصرية/ رويترز

واستشهدت الصحيفة بما حدث خلال اجتماع بوتين مع مجلس الأمن القومي في قاعة سانت إيكاترينا بالكرملين، عندما قال رئيس مخابراته الخارجية سيرجي ناريشكين، إنه "سيدعم" الاعتراف بالمناطق الانفصالية في أوكرانيا، صاح بوتين: "هل سأدعم أم أدعم؟ قل لي مباشرةً"، كأنه ناظرُ مدرسةٍ يهاجم تلميذاً. 

أيُّ شخص في العالم يشاهد هذه المشاهد سيخلص إلى أن بوتين لا يقبل أي نقاش، ناهيك بالخلاف. إنه الآن، بأي استخدام عقلاني للكلمة، ديكتاتور. وتغيّر القوة المطلقة العقل البشري تماماً ولكن اليقين الوهمي في صحة وجهات نظر المرء وما يترتب على ذلك من عمى للمخاطرة هو ما يجعل الأمر خطيراً للغاية في زعيم عالمي، بحسب الصحيفة.

الخلاصة هنا أن هناك فارقاً شاسعاً بين وجهتَي النظر الروسية والغربية بشأن أسباب وأهداف الصراع على الأراضي الأوكرانية، وهو ما يشير إلى أن الحرب قد لا تضع أوزارها سريعاً كما يتمنى كثيرون، خصوصاً أن بوتين أبلغ نظيره الفرنسي ماكرون، الإثنين، شروطه لوقف الهجوم على أوكرانيا، والتي لا يبدو أن الغرب سيقبلها.

"الاعتراف بالسيادة الروسية على شبه جزيرة القرم، ونزع السلاح من أوكرانيا، ودحر النازية في كييف، وضمان وضعها المحايد"، تلك هي شروط بوتين بحسب ما أوردته وكالة سبوتنيك، مع التشديد على أن "التسوية حول أوكرانيا ممكنة فقط إذا تم أخذ المصالح الأمنية المشروعة لروسيا في الاعتبار دون قيد أو شرط"، وفقاً لبيان الكرملين.

تحميل المزيد