للمرة الأولى على الإطلاق يزور رئيس الأركان الإسرائيلي دولة عربية، وللمرة الأولى تفتتح قناة تلفزيون عبرية مكتبين لها في دولة عربية، فلماذا يقدم المغرب كل هذه التنازلات لتل أبيب؟ ولماذا كل هذا الاهتمام بالتطبيع المغربي من جانب إسرائيل؟
منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب يوم 10 ديسمبر/كانون الأول 2020 عن اتفاق التطبيع بين المغرب وإسرائيل، شهد قطار تطبيع العلاقات بين الرباط وتل أبيب محطات كبرى ومختلفة اختلافاً جذرياً عن مسار نفس القطار مع الدول العربية الأخرى التي وقعت اتفاقيات لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وهي مصر والأردن والإمارات والبحرين والسودان، إضافة إلى المغرب بطبيعة الحال.
ففي البداية، قال المغرب إنه يعتزم استئناف الاتصالات الرسمية والعلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل "في أقرب الآجال"، إذ تعتبر الرباط أن الاتفاق، الذي جاء في إطار "اتفاقات أبراهام"، هو مجرد استئناف للاتصالات الرسمية والعلاقات الدبلوماسية، التي كانت قائمة بالفعل منذ 1994 ولكن تم تجميدها عندما اندلعت الانتفاضة الفلسطينية عام 2000.
وكان الحديث في البداية، من جانب الرباط، ينصبّ على كون الاتفاق يعتبر اتفاقاً "جزئياً" ينص على رحلات جوية مباشرة بين البلدين واستئناف العلاقات الدبلوماسية الرسمية، لكن لن تفتح سفارة مغربية في إسرائيل.
تطبيع أمني وعسكري بين إسرائيل والمغرب
لكن مع مرور الوقت، طرق مسار العلاقات بين إسرائيل والمغرب دروباً غير مسبوقة، وبصفة خاصة في المجال العسكري، الذي تخطى التعاون فيه بين تل أبيب والرباط حدود الزيارات الرسمية ووصل إلى حد المشاركة في تدريبات عسكرية والإعلان عن تصنيع مشترك للسلاح.
وفي هذا السياق، أعلنت وسائل إعلام إسرائيلية أن رئيس الأركان الإسرائيلي، أفيف كوخافي، سيتوجه إلى المغرب، خلال الأسبوع الجاري، في أول زيارة رسمية من نوعها إلى الرباط، بل أول زيارة من نوعها لأي بلد عربي على الإطلاق.
وذكرت قناة "كان" الرسمية الإسرائيلية، مساء السبت، أنباء الزيارة، دون مزيد من التفاصيل حول تاريخها المحدد أو أهدافها، بينما قالت صحيفة "يديعوت أحرونوت" إنه من المقرر أن تستغرق زيارة كوخافي للمغرب 3 أيام، بحسب تقرير لوكالة الأناضول.
التعاون الأمني بين إسرائيل والمغرب كان قد بدأ منذ نوفمبر/تشرين الثاني العام الماضي عندما قام بيني غانتس، وزير الدفاع الإسرائيلي، بزيارة الرباط ووقع اتفاقاً بشأن "التعاون الأمني" مع المغرب. وينظم الاتفاق التعاون الاستخباري بين البلدين ويسمح بإقامة مشاريع مشتركة في مجال الصناعات الدفاعية، والمشتريات والتدريبات المشتركة.
وطلب المغرب شراء طائرات مُسيرة وأنظمة مضادة للصواريخ إسرائيلية الصنع، بالإضافة إلى تكليف إسرائيل بتحديث بعض طائراته المقاتلة، وبحسب تقرير لقناة 12 الإسرائيلية شملت الصفقة طائرات بدون طيار، رادارات لشركة "التا"، مسيرات، وأنظمة من إنتاج "سكاي لوك" لاعتراض وتحييد المسيرات، وتحسين طائرات F5 التي يستخدمها سلاح الجو المغربي، بالإضافة إلى أنظمة الدفاع الجوية الإسرائيلية "باراك 8″، وهي منظومة يتم تركيبها غالباً على السفن.
الاتفاق الأمني بين المغرب وإسرائيل هو الأول من نوعه بين تل أبيب وأي عاصمة عربية، وقالت التصريحات الصادرة عن الجانبين إنه يرسم التعاون الأمني بين البلدين "بمختلف أشكاله" في مواجهة "التهديدات والتحديات التي تعرفها المنطقة"، بحسب الجانب الإسرائيلي، بينما أوضح بيان للقيادة العامة للقوات المسلحة الملكية أن الجانبين وقعا "اتفاقاً يتعلق بحماية المعلومات في مجال الدفاع، ومذكرة تفاهم للتعاون في مجال الأمن السيبراني". وأضاف أن مذكرة التفاهم "تشمل تبادل التجارب والخبرات، ونقل التكنولوجيا، والتكوين، وكذا التعاون في مجال الصناعة الدفاعية".
تطبيع من نوع مختلف
قبل أيام قليلة، أصبحت قناة "i24News" الإسرائيلية أول شبكة إخبارية إسرائيلية تفتتح مقرات لها في دولة عربية، إذ تم الإعلان عن افتتاح مكتبين لها في الرباط والدار البيضاء، بحسب تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
القناة، التي توفر تغطية إخبارية على مدار 24 ساعة باللغات الفرنسية والإنجليزية والعربية، أقامت حفلاً كبيراً، يوم 30 مايو أيار الماضي، حضره حوالي 500 صحفي وفنان ودبلوماسي ورجل أعمال من البلدين إسرائيل والمغرب، وذلك في موقع "شالة" الأثري، وهو أحد أكثر الأماكن شهرة في العاصمة المغربية.
حضر الحفل شخصيات عامة من البلدين، من ضمنهم أندري أزولاي، وهو أحد مستشاري الملك المغربي محمد السادس، ووزير الشباب والثقافة المغربي، مهدي بن سعيد، ووزيرة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان، فاطمة الزهراء المنصوري.
وفقاً لمصدرين مغربيين مُطّلعين تحدثا إلى موقع "Middle East Eye" البريطاني شريطة عدم الكشف عن هويتهما، حظيت إقامة مراسم هذا الحفل بالدعم والتسهيلات إلى حدٍّ كبير بفضل وزير الشباب والثقافة المغربي، الذي ساعد القناة أيضاً في استئجار موقع "شالة" للاحتفال بإطلاق القناة.
الإعلان أثار غضباً واسع النطاق بين العاملين المغاربة في مجال الإعلام، إذ يرون أنَّها خطوة أخرى نحو تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمغرب وجزء من حملة أوسع لمساعي التقارب الجارية على قدمٍ وساق بين إسرائيل والدول العربية منذ عام 2020، وذلك وفق ما نشر الموقع البريطاني.
ولم تكن تلك أول شراكة إعلامية بين المغرب وإسرائيل، ففي 22 ديسمبر/كانون الأول عام 2020، أعلنت مجلة "L'Observateur" المغربية في بيان صحفي عن "اتفاقية شراكة استراتيجية" مع صحيفة "The Jerusalem Post" الإسرائيلية ينجم عنها عمليات تبادل للمحتوى.
وبالعودة إلى المسار العسكري، نجد أن الشهر الماضي قد شهد مشاركة ضباط من الجيش الإسرائيلي لأول مرة في مناورة عسكرية جرت في المغرب كمراقبين، والحديث هنا عن مناورة "الأسد الإفريقي 2022" التي جرت في المغرب بين 20 و30 يونيو/حزيران، بحسب إذاعة "كان" الإسرائيلية".
قالت وزارة الدفاع الإسرائيلية مطلع يوليو/تموز الجاري إن مراقبين عسكريين إسرائيليين شاركوا في تدريبات بالمغرب لأول مرة، ووصفت الخطوة بأنها علامة على تحسن العلاقات بعد رفع مستواها في عام 2020.
وقالت الوزارة إن حضور المراقبين الثلاثة في تدريبات "الأسد الإفريقي 2022" الأسبوع الماضي (الأسبوع الأخير من يونيو/حزيران)، والتي شاركت فيها أيضاً قوات أمريكية، جاء بعد مشاركة وحدة مغربية لمكافحة الإرهاب في تدريبات عسكرية متعددة الجنسيات في إسرائيل العام الماضي.
لماذا يختلف التطبيع المغربي مع إسرائيل؟
هناك عامل رئيسي يحكم التطبيع بين إسرائيل والمغرب، وهو وجود أكثر من مليون مواطن إسرائيلي من أصل مغربي، فالجالية المغربية في إسرائيل هي ثاني أكبر الجاليات بعد اليهود الروس، ويمثل هذا العامل حجر الزاوية في الطبيعة الخاصة لعملية التطبيع بين تل أبيب والرباط.
صحيح أن المغرب قد حصل على جائزة كبرى تمثلت في الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء الغربية، وهو الاعتراف الذي استخدمه ترامب لتأمين انضمام الرباط إلى قطار التطبيع، إلا أن أغلب التحليلات ترى أن تل أبيب هي الرابح الأكبر من عملية التطبيع.
وكانت صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية قد نشرت مقالاً عنوانه "المغرب.. جسر إسرائيل إلى العالم الإسلامي"، ركز على الأهمية الخاصة التي توليها تل أبيب للتطبيع مع المغرب، رابع دولة عربية تنضم لاتفاقات "السلام الإبراهيمي" التي أطلقها ترامب، والتي شملت حتى الآن الإمارات والبحرين والسودان، إضافة للمغرب.
واللافت هو أن الدول الأربع التي وقَّعت بالفعل اتفاقات التطبيع مع إسرائيل هي دول عربية إسلامية، مما يطرح التساؤل بشأن مدى واقعية نظرية "الجسر مع العالم الإسلامي"، فبشكل عام يمثل تطبيع إسرائيل مع أي دولة عربية مكسباً كبيراً للدولة العبرية التي ترفض مبدأ الأرض مقابل السلام الذي طرحته الدول العربية شرطاً لتطبيع علاقاتها مع تل أبيب.
ويرى مقال جيروزاليم بوست أنه من بين الدول الإسلامية الأربع التي وقعت اتفاقيات التطبيع، يظل المغرب أكثرها فائدة لإسرائيل من الناحية الاستراتيجية على المدى الطويل، إذ إن "التحالف الإسرائيلي-المغربي، في حال تمت تغذيته بشكل مناسب، يمثل نهاية لبحث إسرائيل عن دولة تخدم تل أبيب كجسر إلى العالم الإسلامي".
والعنصر الهام هنا هو كون اليهود المغاربة يمثلون نسبة كبيرة من سكان إسرائيل، فهم ثاني أكبر جنسية من اليهود الذين هاجروا إلى إسرائيل بعد إعلان قيام الدولة عام 1948، كما أن اليهود المغاربة الذين يعيشون في المغرب، رغم قلة عددهم الذي يبلغ نحو 5 آلاف، قد احتفلوا بالإعلان عن اتفاق التطبيع بصورة واضحة.
وتجدر الإشارة هنا، على سبيل المثال، إلى أن الرئيس التنفيذي الفرنسي لقناة "i24News" الإسرائيلية، فرانك ملول، ومالك القناة، باتريك دراحي، من أصول مغربية، حيث يحمل والد ملول الجنسية المغربية، بينما وُلد دراحي في مدينة الدار البيضاء، قبل أن ينتقل إلى فرنسا في الخامسة عشرة من عمره.
وهناك بعد آخر من الصعب إغفاله عند محاولة قراءة الطبيعة المختلفة للتطبيع المغربي الإسرائيلي وهو العلاقات المتوترة للغاية بين المغرب والجزائر، على خلفية قضية الصحراء الغربية، التي كانت حجر الزاوية في ذلك التطبيع. فالجزائر لا تزال ترفض أي شكل من أشكال التعامل مع إسرائيل، والأسبوع الماضي شارك الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس حركة حماس إسماعيل هنية في احتفالات الجزائر بعيد الاستقلال.
وعندما تم الإعلان عن صفقة الأسلحة الإسرائيلية للمغرب، ركزت وسائل الإعلام العبرية بشكل لافت على التوتر بين الجزائر والمغرب، في تلميح إلى أن "التعاون الأمني" بين تل أبيب والرباط موجه، ولو بصورة جزئية، إلى الجزائر.