"ملك سويدي يلوذ بالعثمانيين، وإستوكهولم تطالب بضم أنقرة للاتحاد الأوروبي".. هكذا كان مشهد العلاقات بين تركيا والسويد على مدار 3 قرون، منذ أن تحالفا ضد عدوهما المشترك الأزلي، واستمرت هذه العلاقة الوطيدة حتى سنوات خلت، ولكن خليطاً من الأوهام الأيديولوجية والحساسيات الوطنية خلقت خلافاً لا دواعي حقيقية له، ولكن اليوم تبدو الأزمة الأوكرانية بمثابة إنذار من الجغرافيا والتاريخ بحتمية عودة التحالف بينهما.
قد تكون إحدى المفارقات في العلاقات بين تركيا والسويد التي تردت بشدة خلال السنوات الماضية أن السويد هي إحدى الدول التي عانت بشكل مباشر من جرائم حزب العمال الكردستاني، الذي هو أحد أسباب الخلافات بين البلدين؛ حيث يشتبه في أن الحزب وراء اغتيال أحد رؤساء وزراء السويد.
العلاقات بين تركيا والسويد بدأت بتحالف عسكري
وبينما تسلط الأضواء على التوتر بين البلدين، مع إعلان أنقرة موافقتها على ضم إستوكهولم للناتو، فإن التاريخ يكشف لنا أن التحالف بين تركيا والسويد هو واحد من أقدم التحالفات الأوروبية عامة، وبالأخص التحالفات التركية الأوروبية.
وهو تحالف محتم بحكم الجغرافيا، فقد نشأ هذا التحالف في لحظة فارقة في تاريخ أوروبا، وكان يمكن أن يغير مسارها؛ إذ تعاون البلدان عسكرياً أمام روسيا الصاعدة في عهد مؤسس دولتها الحديثة الإمبراطور بطرس الأكبر.
فلقرون ظلت السويد أهم وأقوى دولة في شمال أوروبا، ورغم صغر سكانها جالت جيوشها ذات الكفاءة في أراضي روسيا وبولندا وألمانيا، محققة انتصارات كبيرة، ومؤسسة إمبراطورية سويدية حول بحر البلطيق، شملت في أوقات كثيرة أجزاءً واسعة من دول البلطيق وفنلندا وروسيا وبولندا، وأحياناً بعض مناطق ألمانيا.
في المقابل، ظلت الدولة العثمانية من منتصف القرن الخامس عشر حتى نهاية القرن السابع عشر أقوى دولة في شرق ووسط أوروبا وأحياناً في العالم كله.
وبينما كان للسويد والعثمانيين أعداء مشتركون كثر مثل بولندا، والإمبراطورية الرومانية المقدسة (كانت تسيطر على ألمانيا ولكن كدويلات مفككة)؛ فإن عملية التحديث التي بدأها بطرس الأكبر في روسيا في نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن العشرين، شكلت خطراً كبيراً على البلدين، خطراً شعر به السويديون قبل العثمانيين، لأنهم كانوا أقرب لروسيا وكانوا أصغر حجماً، وتبين لهم أن العملاق الروسي إذا أصابه قدر من التحديث فلن يمكن إيقافه.
وبالفعل حارب السويديون الروس في حرب الشمال الكبرى (1700-1721)؛ حيث تفوق التحالف الذي قادته روسيا القيصرية، وضم بروسيا (الدولة التي أسست ألمانيا) والدانمارك والنرويج وبولندا وليتوانيا على الإمبراطورية السويدية في شمال ووسط وشرق أوروبا، ثم تم غزو السويد من الغرب من قبل الدنمارك والنرويج، ومن الشرق من قبل روسيا، التي احتلت فنلندا (كانت جزءاً من السويد) بحلول عام 1714.
انتهت الحرب بهزيمة السويد، وأصبحت روسيا القوة المهيمنة الجديدة في منطقة البلطيق، وقوة رئيسية جديدة في السياسة الأوروبية.
وبعد استسلام جيشه، لجأ الملك السويدي تشارلز الثاني عشر، بعد هزيمته في معركة بولتوفا، إلى الإمبراطورية العثمانية التي كانت تسيطر على معظم رومانيا ومولدوفا وأجزاء واسعة من أوكرانيا في ذلك الوقت، رحب العثمانيون بتشارلز الذي أقام في مولدوفا، وتمت تغطية نفقاته من ميزانية الدولة العثمانية.
طالب بطرس الأكبر بإجلاء تشارلز، وعندما رفض السلطان، قرر بطرس إجباره على ذلك بغزو الإمبراطورية العثمانية. ولكن أدى الهجوم الروسي الذي عرف بحملة نهر بروث إلى كارثة للروس؛ حيث حوصر جيش بطرس من قبل الجيش العثماني، وأصبح جائعاً وعطشاً، ولم يكن أمامه خيار سوى التوقيع على اتفاق سلام بشروط عثمانية، وهو ما فعله في 22 يوليو/تموز 1711، من ضمن هذه الشروط عودة مناطق كانت استولت عليها روسيا للعثمانيين، مثل منطقة أزوف، وتعهد بطرس بعدم التدخل في شؤون الكومنولث البولندي الليتواني، كما طالب العثمانيون بمنح تشارلز الثاني عشر ممراً آمناً إلى السويد.
يعتقد الكثيرون أن القائد العثماني محمد باشا ارتكب خطأً استراتيجياً بتوقيعه على المعاهدة بشروط سهلة نسبياً للروس، وأنه لو رفض عرض بطرس للسلام وألقى القبض عليه كسجين بدلاً من ذلك، كان من الممكن أن يتغير مسار التاريخ، فمن دون بطرس، كان يصعب أن تكون روسيا قوة إمبريالية، والعدو اللدود للدولة العثمانية في البلقان وحوض البحر الأسود والقوقاز.
لم يُظهر تشارلز أي اهتمام بالعودة، وأنشأ بلاطاً مؤقتاً في مقر إقامته بأراضي الدولة العثمانية، وسعى لإقناع السلطان بالانخراط في هجوم عثماني سويدي على روسيا. ولكن وضع السلطان حداً للضيافة الكريمة الممنوحة له، واعتقل الملك السويدي، وفي وقت لاحق تخلى ملك السويد عن آماله في جبهة عثمانية وعاد إلى السويد.
علاقات دبلوماسية منذ 3 قرون
وأقامت السويد علاقات دبلوماسية مع تركيا منذ ثلاثينيات القرن الثامن عشر، حيث تم تأسيس الأساس التعاقدي للعلاقات بين البلدين بموجب اتفاقية التجارة والتحالف من أجل السلام والوحدة والصداقة الموقعة في 1737 و1739، على التوالي، بين الإمبراطورية العثمانية ومملكة السويد.
ووُجدت البعثة الدبلوماسية في إسطنبول في المكان نفسه منذ 1757، وافتتحت السويد سفارة في أنقرة بعد أن أصبحت العاصمة في أكتوبر/تشرين الأول 1934.
وخلال القرون اللاحقة، صعدت روسيا التي حدثها بطرس الأكبر بقوة على حساب جوارها، فاستولت على بولندا ودول البلطيق، كما نزعت كثيراً من الأراضي من السويد منها فنلندا، وأخذت من الدول العثمانية جنوب أوكرانيا والقرم، ثم توغلت روسيا في القوقاز؛ حيث قضت على استقلال الشعوب الإسلامية في المنطقة الحليفة للعثمانيين مثل الشركس والشيشان، والداغستانين، ونفذت بحقهم عمليات إبادة وصلت إلى حد إزالة بعض هذه الشعوب من الوجود مثلما حدث للشركس.
عندما تأسست الجمهورية التركية في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1923، كانت السويد أول دولة إسكندنافية تعترف بحكومة أنقرة، وبعد عام واحد فقط وقع البلدان "اتفاقية صداقة" في العاصمة التركية.
بعد إنشاء الاتحاد السوفيتي، وتحوله لقوى عظمى، كانت السويد وتركيا على السواء من الدول التي تخشى تدخلاً أو هجوماً سوفيتياً، خاصة خلال بداية فترة الحرب الباردة.
أول دولة تصنف حزب العمال الكردستاني كحزب إرهابي بعد تركيا
في عام 1984، أصبحت السويد أول دولة بعد تركيا تصنف حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية.
في السنوات التي تلت ذلك، كانت العلاقات هادئة وودية بشكل عام، على الرغم من حدوث تقلبات، في الغالب بسبب قيام السويد بتوفير الملاذ لأعضاء حزب العمال الكردستاني، مثل المؤسس المشارك للحزب حسين يلدريم.
في الواقع، دعت إستوكهولم إلى انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ولطالما اعتبرت أنقرة السويد حليفة في الشمال، وانتقدت مواقف فرنسا وألمانيا الرافضة لذلك.
في عام 2013، تم التوقيع على إعلان مشترك بشأن الشراكة الاستراتيجية في إستوكهولم.
في الثمانينيات، اشتدت عمليات حرب حزب العمال الكردستاني الإرهابية ضد تركيا؛ ما أسفر عن مقتل آلاف الأشخاص ورد قاسٍ من الجيش التركي، حسب تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
حزب العمال ينفذ اغتيالات ضد منافسيه في السويد، وشكوك بقتله رئيس وزراء
بدأ بعض أعضاء حزب العمال الكردستاني بالفرار إلى أوروبا وإنشاء فروع في مدن أوروبية مختلفة. أصبحت السويد، كدولة ذات قوانين ولوائح متسامحة بشكل خاص تجاه "اللاجئين السياسيين والعرقيين"، وجهة مفضلة لهم.
ولم يكن أعضاء حزب العمال الكردستاني فقط هم من جعلوا السويد وطنهم. استقر هناك أيضاً مؤلفون ومفكرون أكراد لا ينتمون إلى حزب العمال الكردستاني، ثم اشتبكوا مع أعضاء المجموعة المتشددة بشأن القضايا الكردية.
في عامي 1984 و1985، اغتيل عضوان سابقان في حزب العمال الكردستاني، وهما إنفر آتا وسمير غونغور، في السويد بناءً على طلب زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، الذي اعتقلته تركيا في عام 1999 وحكم عليه بالسجن مدى الحياة.
كانت هذه هي اللحظة التي أدركت فيها السويد أن حزب العمال الكردستاني يمكن أن يشكل تهديداً للسويد أيضاً، وأدرجت الجماعة على أنها منظمة إرهابية.
هدد حسين يلدريم، الذي كان مسؤولاً آنذاك عن فروع حزب العمال الكردستاني في أوروبا، الحكومة السويدية وطالب بشطب المجموعة بعد عقود، قال يلدريم إن حزب العمال الكردستاني "قتل الكثير من الناس".
زوجة أوجلان السابقة، كسير يلدريم، تعيش أيضاً في السويد، بعد أن طردها زوجها السابق من المجموعة. بحسب حسين يلدريم، أمر أوجلان حزب العمال الكردستاني بقتل زوجته لأنها كانت تعترض على أوامر معينة.
تم اغتيال أولوف بالم، رئيس الوزراء السويدي الذي أدرج حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية وحاول إنهاء أنشطته في البلاد، في عام 1986، ولم يتم العثور على قاتله، وكان حزب العمال الكردستاني أحد المشتبه بهم الرئيسيين.
قال سمدين سايك، أحد كبار قادة حزب العمال الكردستاني وشقيق السياسي الكردي سري سايك، في عام 1999، إن حزب العمال الكردستاني كان وراء الاغتيال، حتى إن أوجلان قال أمام محكمة تركية في عام 1999 إن المجموعة المنشقة عن زوجته السابقة ربما تكون وراء مقتل بالم.
الكردستاني كان يستفيد من "سياسة السويد الليبرالية التاريخية فيما يتعلق باللجوء للاجئين السياسيين".
أسباب الأزمة بين تركيا والسويد
كان أكبر تحول في العلاقات التركية السويدية بعد ظهور حزب الاتحاد الديمقراطي، وهو جماعة كردية في شمال سوريا، يُعرف جناحها المسلح باسم وحدات حماية الشعب. وتعتبر تركيا المنظمتين الكرديتين بمثابة الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، وتلقي باللوم عليهما في عدة هجمات على الأراضي التركية.
وقعت واحدة من أشد نقاط الخلاف بين تركيا والسويد في عام 2016، عندما سمحت الأخيرة لحزب الاتحاد الديمقراطي بفتح مكتب في إستوكهولم.
مثل الدول الغربية الأخرى، طوّرت السويد تعاطفاً كبيراً مع حزب الاتحاد الديمقراطي، وتعتبره مختلفاً عن حزب العمال الكردستاني.
هذا هو جوهر المشكلة، وفقاً لبول تي ليفين مدير الدراسات التركية في جامعة استوكهولم، الذي يلاحظ "تفهماً متزايداً بأن السويد سيتعين عليها الاستماع إلى مخاوف تركيا ومحاولة إيجاد حل وسط مقبول".
تركز معظم الدول الغربية على أن هناك اختلافاً بين حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي السوري، الذي أسَّس الإدارة الذاتية الكردية وقوات سوريا.
ولكن العديد من التقارير الميدانية لمراكز بحثية غربية تُثبت العلاقة بين القيادات الكردية السورية وحزب العمال الكردستاني.
فحزب الاتحاد الديمقراطي السوري هو حزب كردي سوري نافذ، أسّسه في عام 2003 مقاتلون سوريّو الأصل، ينتمون إلى "حزب العمال الكردستاني"، في جبال قنديل في شمالي العراق، وفقاً لتقرير لمركز كارنيغي الأمريكي.
ويقول التقرير: "حتى لو تجاهلنا أن بعض القادة الكبار في "حزب الاتحاد الديمقراطي" ينحدرون من "حزب العمّال الكردستاني" بشكل مباشر، فإن الممارسات السياسية والرموز لدى حزب الاتحاد الديمقراطي مماثلة لتلك التي يستخدمها تقليدياً "حزب العمال الكردستاني"، وأكثرها وضوحاً للعيان صور زعيم "حزب العمال" عبد الله أوجلان، والهياكل التنظيمية (ولا سيما وجود نساء مقاتلات في الرتب الدنيا). فضلاً عن ذلك ليس واضحاً كيف تمكّن الأكراد السوريون من أن يُنشئوا بمفردهم الإطار اللوجستي والبنيوي الضروري لتشكيل قوّة عسكرية فعلية من أكثر من 10 آلاف مقاتل، بعد اندلاع الثورة السورية مباشرة". (أصبحت الآن أكبر بكثير).
والأخطر أن حزب الاتحاد الديمقراطي أسس بدعم غربي دويلة عنصرية في شمال سوريا يحكمها الأكراد، على حساب الأغلبية العربية، مستفيداً من موارد المناطق ذات الأغلبية العربية.
من الافتراضات التي يتم على أساسها صياغة الموقف الغربي من الأزمة الكردية أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يقود حملة اضطهاد ضد الأكراد في بلاده، رغم أن واحداً من أبرز الساسة المقربين له هو بن علي يلدريم، رئيس الوزراء التركي السابق، من أصول كردية، وغيره من المسؤولين في عهد أردوغان.
وهذا المنطق يتجاهل حقيقة أن الأكراد والأتراك عاشوا لعقود دون خلافات تُذكر تحت الحكم العثماني، وكانت القبائل الكردية في الأغلب حلفاء مخلصين للدولة التركية في العهد العثماني، وأسهموا في حرب الاستقلال، وأن المشكلة بدأت نتيجة ظهور الشكل العلماني المتطرف للقومية في العصر الحديث، ويُعتقد أن أولى تمردات الأكراد ضد مؤسس الدولة التركية كمال أتاتورك كانت رفضهم لسياسته العلمانية.
وواقعياً، ظلّ الأكراد يعانون طوال معظم سنوات الجمهورية التركية من إنكار حقوقهم الثقافية، ولكن حكومة حزب العدالة والتنمية غيّرت هذا المسار، واتخذت خطوات جريئة بمعايير الدولة التركية، حيث أعطت الأكراد قدراً كبيراً من الحقوق، ومنها السماح لهم بتدريس اللغة الكردية بشكل رسمي، وأعلن ذلك أردوغان بنفسه عام 2009، عندما كان رئيساً للوزراء، ومَن يعرف طبيعة الدور القومي في تشكيل الهوية التركية الحديثة يعلم أن هذه خطوة استثنائية.
كما أبرمت حكومة حزب العدالة والتنمية هدنة مع حزب العمال الكردستاني، بهدف التوصل لحل الأزمة، في ظل وحدة الدولة التركية، ولكن الحزب هو الذي نقض الهدنة مع اندلاع الحرب السورية، وتخطيطه للاستفادة منها.
يفرح المتعاطفون السويديون بمظاهرة المساواة الجنسانية داخل حزب العمال وفروعه، ولكن يتجاهلون ميله التاريخي للعنف ليس فقط ضد خصومه من الدول المحيطة، ولكن أيضاً، ضد أعضائه الداخليين وضد القوى الكردية الأخرى.
فجزء من الأكراد لديه مشكلة مع حزب العمال الكردستاني، بسبب شيوعيته المتطرفة، وموقفه الإقصائي من الأحزاب المنافسة له في المنطقة، حسب تقرير لمركز كارنيغي.
لماذا تغضب السويد حليفها القديم؟
صورة السويد الذاتية كدولة تدافع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، بما في ذلك الأقليات المضطهدة، أمر أساسي للهوية الجماعية السويدية، حسبما قال لفين لموقع Middle East Eye.
فمع تواصل النجاحات الاقتصادية للسويد، الدولة الإسكندنافية المحايدة، التي لم تدخل حرباً منذ نحو 200 عام، طورت البلاد ثقافة تقوم على أنها كريمة مع اللاجئين، وكذلك ترى نفسها قادرة على القيام بدور نشط في الوساطة في عمليات السلام، مثلما حدث في إقليم أتشيه الإندونيسي.
ولكن خلال السنوات الماضية، بدا أن هناك تطرفاً ونزقاً في المواقف السويدية، أصبحت السويد مثل غيرها من الدول الإسكندنافية والعديد من دول شمال أوروبا يسيطر عليها نظرة استعلاء ورغبة في تقديم العظات للآخرين، نابعة من افتراض أنهم الأرقى، وظهر هذا التوجه بالأخص مع الدول الأوروبية الجنوبية والشرقية عن حق أو غير حق.
وشكل وضع تركيا كدولة مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي منذ فترة طويلة، فرصة مثالية لهذه الدول لتتخذ دور الواعظ في قضايا حقوق الإنسان، رغم أنها مثلاً لا توجّه الانتقادات نفسها إلى فرنسا التي ترفض التصديق على ميثاق حقوق الأقليات اللغوية في الاتحاد الأوروبي وتضيق على حريات المسلمين، أو الهند مثلاً التي تضطهد المسلمين وألغت لتوها حق إقليم كشمير في الحكم الذاتي.
بات التطرف في المواقف من هذه الدول ينبع من جانبين، الأول تشدد يساري ليبرالي في قضايا الحريات، دون مراعاة لثقافات الدول أو قضايا الأمن القومي لديها مثلما يظهر في الموقف من قضايا المثليين.
على الجانب الآخر، أثّر صعود اليمين المتطرف الذي يركّز على العداء على المسلمين، على اليمين المحافظ، الذي بات أكثر ميلاً لهذه السياسات المعادية للمسلمين حتى لو لم يتبناها رسمياً، وفي الوقت ذاته بات جزء من اليمين معجباً بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين باعتباره نموذجاً للقائد الأبيض القوي الذي بدأ عهده بالتصدي للزحف الإسلامي المزعوم (مثلما فعل في الشيشان وسوريا).
كانت تركيا، تحت حكم أردوغان، هدفاً للالتقاء بين هذين الاتجاهين، فهي دولة مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي، وهو جعل كثير من أوروبي الشمال يفترض أن هذا يمكنهم من فرض الرقابة عليها (أو محاولة عرقلة ضمها).
وفي الوقت ذاته، هي دولة يحكمها حزب العدالة والتنمية الذي يصنف نفسه كحزب يمين وسط ذي جذور إسلامية معتدلة، ولكن التحول نحو اليسار في السياسية الغربية، هو الذي جعل حزب العدالة من منظور السياسة الغربية حزباً محافظاً قومياً، أكثر منه تحولاً في مواقف الحزب نفسه.
وهكذا أصبح اليسار في هذه الدول، معادياً لحكم حزب العدالة لأنه يميني ومحافظ وإسلامي، وأصبح اليمين معادياً له لأن تركيا دولة إسلامية.
ولكن تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من الخلاف حول حزب الاتحاد الديمقراطي، فقد انحازت السويد علناً في بعض المناسبات إلى تركيا ضد عمليات حزب العمال الكردستاني، ونفّذت الشرطة السويدية عمليات ضد المجموعة. وفقًا للفين، قامت السويد بتسليم العديد من أعضاء حزب العمال الكردستاني إلى تركيا، بينما يواجه 30 كردياً حالياً خطر الترحيل بسبب تعاطفهم مع الجماعة.
لماذا يبدو التحالف بين تركيا والسويد حتمية جغرافية؟
الجغرافيا هي التي تصنع التاريخ، وهي أكثر واقعية من الأيديولوجيات والأحلام الطوباوية، ومن المذاهب والحضارات.
والجغرافيا هي التي ستحدد علاقة روسيا بمحيطها.
فمع استمرار الحرب الأوكرانية التي لم يعد يعرف أحد موعد نهايتها، فإن تطورات كثيرة قد تحدث في علاقة روسيا مع الغرب.
فالغرب يركز حالياً على حصار روسيا مع خوض حرب بالوكالة معها عبر أوكرانيا.
ستنتهي هذه الحرب على الأغلب بهزيمة جزئية لأوكرانيا واحتلال موسكو لمساحة من أراضيها، مع حصار غربي على روسيا، يهدف هذا الحصار بالأساس إلى إثارة الرأي العام الروسي، والنخبة الحاكمة على بوتين.
ولكن قد يحدث العكس، فقد تؤدي تداعيات الحصار الغربي على روسيا إلى تزايد تطرف التوجهات القومية الروسية، مثلما حدث في ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى.
قد يؤدي ذلك لتبني روسيا سياسات عدوانية تجاه محيطها الأوروبي، باعتبار أن الخطاب القومي الحاد سوف يحمّل الغرب مسؤولية أزمات البلاد، وقد يصل الأمر إلى التهديد أو استخدام أسلحة نووية.
حتى الآن كانت ردود روسيا على الحصار الغربي والدعم لأوكرانيا بالأسلحة، فاترة، حتى التهديدات النووية بدت جوفاء تماماً.
وبالإضافة إلى احتمالات صعود التطرف القومي الروسي، فإنه يقابله احتمال إصابة كثير من شعوب الغرب بالإرهاق والملل من تأثيرات الأزمة الأوكرانية الاقتصادية والسياسية، وقد تظهر في أمريكا دعوات للتخلي عن أوروبا بمشاكلها، وهي دعوات قديمة، ولها جذور قوية في الحزب الجمهوري، وفي فرنسا مثل هذه الدعوات موجودة بقوة.
وحتى الآن لا تريد ألمانيا أن تقود الحلف الغربي ضد روسيا، تاركة القياد للأمريكيين والبريطانيين، البعيدين بما يكفي لئلا يخشوا من الرد الروسي.
بينما تبدو الدول المعرضة لورطة حقيقية هي بولندا والسويد وفنلندا ودول البلطيق، وهي الدول التي قد تجد نفسها في نقطة التقاء بين الصعود القومي الروسي المتطرف، مع توجهات أمريكية وبريطانية وفرنسية للابتعاد عن الصراع مع روسيا المدججة بالأسلحة النووية.
وكان الرئيس الفرنسي شارل ديغول مقتنعاً، عندما قرر ضرورة امتلاك فرنسا أسلحة نووية، بأن أمريكا لن تخاطر بخوض حرب نووية مع الاتحاد السوفيتي تدمر فيها نيويورك من أجل برلين وباريس.
يعني هذا أن هذا الصراع الواسع بين الغرب وروسيا، يمكن أن يعود لأصوله الجغرافية المحدودة، (وهو أمر تفضله موسكو)، وهو صراع بين روسيا وجوارها المباشر، وأعدائها التاريخيين القدامى (دول البلطيق وبولندا، والسويد، وقد يشمل تركيا).
وهو أمر يدركه الأوكرانيون والبولنديون جيداً، وسعوا إلى تقوية علاقاتهم مع تركيا، حتى مع احتفاظ أنقرة بعلاقات وثيقة مع موسكو.
التنمر الروسي الحالي بدأ في الشرق الأوسط.. هكذا تركت تركيا وحدها
يتناسى كثير من الأوروبيين حالياً أن العدوان الروسي على أوكرانيا، هو أحد نتائج ترك الغرب لروسيا تتنمر في منطقة الشرق الأوسط، حينما دافعت عن نظام بشار الأسد عندما استخدم أسلحة كيماوية ضد شعبه، ثم أرسلت قواتها وطائراتها لقصف المعارضة السورية، واخترقت الأجواء التركية دون رد فعل من دول الناتو التي سحبت أنظمة صواريخها التي كانت تحمي سماء تركيا، تاركة أنقرة في مواجهة أزمة وصلت ذروتها بإسقاطها لطائرة روسية عام 2017.
كانت أوروبا بما فيها السويد تراهن على أن روسيا البوتينية سوف تكتفي بإيذاء جيرانها الجنوبيين، مثلما ظنت الدول الأوروبية قديماً أن روسيا القيصرية سوف تكتفي بإبادة المسلمين التتار والشركس ومحاربة العثمانيين وغيرهم، ولكن موسكو دوماً كانت بعد أن تنتهي من أعدائها المسلمين تعود لعدوانيتها في أوروبا.
الآن، تبين للسويد أنها ليست في مأمن من روسيا، وهي تحتاج إلى أن تنظر من هذا المنطلق في كل علاقاتها الخارجية، فتركيا بالنسبة لها هي أكبر دولة في جوار روسيا الأوروبي، والبلدان لديهما قدرات متكاملة.
فتركيا دولة كبيرة السكان، ولديها ثاني أكبر جيش في الناتو، وجغرافياً تحاصر روسيا من البحر الأسود، كما أن لديها صناعة عسكرية واعدة حققت إنجازات ملموسة بتكلفة تنافسية، ولكن ينقصها بعض التكنولوجيات الأكثر تقدماً التي يمكن أن تكون موجودة لدى السويد التي تعد في المقابل واحدة من أكثر دول العالم تقدماً في العديد من المجالات، منها العديد من الصناعات العسكرية، فالغواصات السويدية العاملة بالديزل تنافس الغواصات الألمانية، بينما تركيا لها تجربة في بناء سفن وغواصات حربية بتكنولوجيا ألمانية.
والسويد لها قدرات نووية سلمية فائقة، وطائراتها غريبين مشهورة بكفاءتها ومرونتها ورخص سعرها.
وبينما يتميز الاقتصاد التركي، بالأيدي العاملة الماهرة التنافسية، ولكن تنقصه الاستثمارات، والتقنيات عالية التقدم، في المقابل، تعتبر السويد إحدى الدول المصدرة لرأس المال والتقنية شديدة التقدم.
يجعل التنوع في القدرات والموقع الجغرافي، البلدين يحتاجان إلى بعضهما؛ فالجغرافيا تحتم عليهما التحالف، خاصة أنه ليس هناك سبب واقعي للخلاف، بقدر هو ما ناتج عن مماحكات سياسية قام بها سياسيون سويديون متحسمون لإظهار وجه إنساني للبلاد دون أن يدركوا تعقيدات القضايا التي تورطوا فيها والسياسيين الذين يدافعون عنهم، والشعوب الأخرى مثل عرب شمال سوريا الذين راحوا ضحية لمشروعاتهم.