لا تزال مشاهد اعتداء جنود إسرائيل على نعش شيرين أبو عاقلة ومحاولة تدنيس جنازتها تمثل لغزاً للبعض، فهل أرادت سلطات الاحتلال إظهار "القوة" التي لا تهتم بأي رد فعل من أي جهة؟
وإذا كان ذلك ما أرادته إسرائيل فعلاً، فربما يكون قد ارتد بصورة غير متوقعة، إذ قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس، الجمعة 20 مايو/أيار- أي بعد أسبوع من الجنازة- إن الولايات المتحدة كررت دعوتها إلى إجراء تحقيق "شامل وشفاف" في قتل الصحفية الفلسطينية-الأمريكية شيرين أبو عاقلة، مشدداً على أن مثل هذا التحقيق ينبغي أن يتضمن تحديد المسؤول عن القتل.
كانت شيرين أبو عاقلة، مراسلة قناة الجزيرة، قد تعرضت للاغتيال برصاصة أطلقها قناص إسرائيلي أصابتها في الوجه مباشرة، وعلى الفور انطلقت الدعاية الإسرائيلية لمحاولة طمس معالم الجريمة، من خلال الزعم بأن رصاصة "فلسطينية" قتلت شيرين، لكن في نهاية المطاف سقطت جميع أوراق التوت التي سعت دولة الاحتلال إلى الاختباء خلفها، وحُدد من أطلق الرصاصة القاتلة.
لكن إسرائيل لم تكتفِ باغتيال شيرين أبو عاقلة مرة، وإنما اقتحمت منزلها، واقتحمت المستشفى الفرنسي للتنكيل بجثمانها، واعتدت على التابوت وحاولت إسقاطه أرضاً، كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع.
هذا ما حدث في جنازة فيصل الحسيني
موقع Middle East Eye البريطاني نشر تحليلاً عنوانه "إسرائيل القوية لا تشعر بالأمان، لهذا لن تسمح للموتى بأن يرقدوا في سلام"، عقد مقارنة بين إسرائيل 2022 وإسرائيل عام 2001 خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
وصل فيصل الحسيني، وزير شؤون القدس في السلطة الفلسطينية والمسؤول البارز بمنظمة التحرير الفلسطينية، إلى مثواه الأخير في يونيو/حزيران عام 2001. وانطلق موكب الجنازة من المقاطعة في رام الله ليشق طريقه إلى المسجد الأقصى مروراً بحاجز قلنديا.
وتلفّح التابوت بالعلم الفلسطيني، الذي رفعه الناس على طول الطريق إلى مثواه الأخير، في أثناء مروره بين شوارع القدس الشرقية المحتلة وحتى مرقده الأخير في الأقصى.
حدث هذا في أيام الانتفاضة الثانية، حين كان العلم الفلسطيني يُمثّل منظمة التحرير الفلسطينية التي عزمت على تأسيس دولةٍ فلسطينية في الضفة الغربية، وقطاع غزة، والقدس الشرقية بأسرع وقتٍ ممكن.
فلماذا شعر الاحتلال بالأمان عند مواجهته الأعلام الفلسطينية بين أزقة ما يصفها بأنها "عاصمته الأبدية" أثناء تشييع جنازة شخصيةٍ سياسية فلسطينية بارزة في عام 2001، بينما اعتبر أن علم الحداد الفلسطيني المرفوع فوق نعش صحفيةٍ قُتلت غدراً برصاص أحد جنوده في عام 2022، يُمثّل تهديداً لوجود إسرائيل؟
وقبل أن نجيب عن هذا السؤال، يجب أن نتوقف لبرهةٍ ونلقي نظرةً على عنف الشرطة ضد حاملي نعش الصحفية شيرين أبو عاقلة، وصور العنف التي ستعلق في الوجدان وفي وسائل الإعلام لوقتٍ طويل.
انتهاك المحرمات القديمة
لا شك في أن تحريم إهانة الموتى وضمان المثوى الكريم لجسد المتوفين يعتبران من أهم وأقدم العادات البشرية. إذ يتلقى الموتى معاملةً مختلفة حتى في أوقات الحرب.
ولا شك في أن تاريخ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي حافلٌ بوقائع انتهاك حرمة الأموات، كما حدث في مذبحة دير ياسين وغيرها من الوقائع. لكن ما حدث في يوم الجمعة 13 مايو/أيار، بعد خروج موكب شيرين من المستشفى الفرنسي في القدس الشرقية باتجاه قبرها، يرقى لتصنيفه في فئةٍ خاصة.
إذ لم يجرِ الاعتداء الوحشي على حاملي النعش وسط سخونة المعركة، بل جرى بعدها بوقتٍ طويل في الواقع. ولم تكن شيرين مقاتلةً أو حتى زعيمةً سياسية، بل كانت مجرد صحفية مدنية قُتِلَت أثناء تأدية وظيفتها. علاوةً على أن من هاجموا نعشها لم يكونوا أفراداً عاديين يتصرفون من تلقاء أنفسهم، بل كانوا من رجال الشرطة الذين كلّفهم قادتهم -أو دولتهم- بمهمةٍ واضحة هي انتهاك حرمة الميتة.
وقد يكون هذا هو السبب الذي جعل ما حدث في يوم الجمعة يُثير رد فعلٍ تعاطفياً قوياً، رغم أنه ليس أكثر الأحداث عنفاً أو قسوة في تاريخ الاحتلال.
فضلاً عن أن قوات الشرطة ارتكبت أعمال شغبها أمام عدسات الكاميرات، ولا شك في أن رجال الشرطة المشاركين وقادتهم كانوا يعرفون جيداً أن الشعب الفلسطيني بأكمله يشاهد تلك اللقطات على الهواء، مما يزيد الأمر سوءاً.
ولا يرجع ذلك إلى كون الواقعة تمثل كارثةً للاحتلال من ناحية العلاقات العامة أو لأنها وحّدت الشعب الفلسطيني فقط، بل بسبب الاشتباه في أن تلك الواقعة حدثت عن عمد أمام عدسات الكاميرات لتبعث إلى الفلسطينيين برسالةٍ فحواها أن "مقدساتكم ليست مقدسات في عيوننا وعيون إسرائيل. ولن نتقيد بالفريضة القديمة المتمثلة في احترام كرامة الأموات، طالما أن الميت فلسطيني".
إسرائيل أصبحت أقوى، ولكن ما غايتها؟
يُمكن القول إن إسرائيل 2022 أقوى بكثير من إسرائيل 2001، خاصةً عند مقارنتها بالفلسطينيين، إذ تُعد إسرائيل قوةً عسكرية وسياسية، بينما ما يزال الشعب الفلسطيني جائعاً ومنقسماً ولا يحظى بالدعم العالمي نفسه.
وتراجعت حتى وتيرة أعمال العنف الفلسطينية ضد الاحتلال بشكلٍ كبير، حيث شهد تفجير ملهى الدلافين بتل أبيب، في يوم دفن فيصل الحسيني، سقوط قتلى أكثر ممن سقطوا في جميع العمليات الأخيرة المستمرة منذ شهرين. ومع ذلك فإنّ سلوك الاحتلال في أثناء جنازة شيرين أبو عاقلة يدل على الارتباك والشعور بعدم الأمان، لدرجة أن الأعلام الفلسطينية التي خرجت من جيوب المشيعين في الجنازة أصبحت تُعتبر تهديداً يتطلب التدخل الفوري.
إذ "ابتلع" الاحتلال الفلسطينيين بالكامل خلال الأعوام الـ20 التي أعقبت جنازة الحسيني، وتوسّعت المستوطنات والبؤر الاستيطانية وتضاعفت أعدادها، بينما تحوّلت السلطة الفلسطينية من أداة لتحقيق حلم الدولة المستقلة إلى وكيلٍ أمني فرعي لدولة الاحتلال.
وبدا من المنطقي في عام 2001 أن يؤدي احتلال المدن الفلسطينية إلى إخماد العنف الفلسطيني، وهو ما فعله أرئيل شارون بعدها بعام. كما بدا أن الأوضاع الأمنية ستستقر حين أشرف شارون على انسحاب الاحتلال من داخل غزة بعدها بأربعة أعوام.
وتعيش المدن الفلسطينية اليوم تحت الاحتلال فعلياً، لكن الأوهام لا تراود أحداً بأن "الحملة الموسعة" في جنين ستمنع الفلسطيني التالي من تنفيذ عمليةٍ دون أن يكون منخرطاً في أي منظمةٍ عسكرية. كما لا يوجد أحد ساذج بما يكفي الآن ليظن أن اغتيال يحيى السنوار سيحسّن موقف الاحتلال بأي طريقة، لأن أقصى ما سيحققه اغتيال السنوار هو الانتقام، دون بلوغ أي غايات عسكرية أو سياسية.
إبقاء الفلسطينيين في دوامة النسيان
لم يستوعب الاحتلال فعلياً حقيقة أن الفلسطينيين قد تحوّلوا إلى "مشكلةٍ داخلية"، على حد تعبير مناحيم كلاين. إذ ترفض السياسة الرسمية لحكومة نفتالي بينيت أي مفاوضات سياسية مع الفلسطينيين -مهما فعلوا- من ناحية. ومن ناحيةٍ أخرى، هناك إجماعٌ يهودي على أنّ منح حقوق المواطَنة -أو حتى الإقامة- للفلسطينيين تحت حكم الاحتلال سيهدد هوية الدولة اليهودية. ولهذا يحاول الاحتلال أن يُبقي على الفلسطينيين في دوامة النسيان، بدون أي حقوق وطنية أو سياسية.
وتعتمد هذه الدوامة في الواقع على محو هوية الفلسطينيين كبشر، وليس مجرد جماعة من السكان، وتستلزم محو إنسانيتهم، مما قد يفسر أسباب انتهاك المحرمات التي تنهى عن إهانة الموتى في جنازة شيرين، حيث لا تنظر شرطة الاحتلال إلى الفلسطينيين باعتبارهم بشراً لهم الحقوق نفسها المكفولة لكل إنسانٍ آخر: مثل الحصول على مدفنٍ لائق.
وقد ذكرنا النائب أحمد الطيبي بأن نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا أرسل رجال الشرطة لإزالة علم حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الذي يلف نعش الناشط الشاب المغدور أشلي كريل عام 1987، ولكنهم لم يعترضوا طريق المشيعين وحاملي النعش وقتها رغم ذلك.
ويستحق المرء العقاب في التقاليد اليهودية حين ينتهك حرمة أحد الأموات، وحتى لو كان الميت قد ارتكب خطيئة. كما عاقبت الآلهة اليونانية أي شخصٍ يهين الموتى.
وبغض النظر عن المكافأة والعقاب، سنجد أن تصرف الاحتلال في قضية شيرين ينم عن الضعف. ليس لضعفٍ في كيان الاحتلال الذي أصبح أقوى من أي وقتٍ مضى، بل لأنه يكشف كيف ضلّ الاحتلال طريقه بالكامل. إذ لا يعرف الاحتلال إلى أين يريد الوصول بالمواجهة مع الفلسطينيين، سواءً على المدى القريب أو البعيد. ولم يعد أمام الاحتلال سوى أن يستغل قوته بدون غايةٍ واضحة، سواءً في جنين أو القدس الشرقية.
وليس من المعقول أن يكون هناك شخصٌ في شرطة الاحتلال على قناعةٍ بأن عدم رفع الأعلام الفلسطينية في الأجزاء الشرقية من المدينة سيدفع الفلسطينيين إلى التخلي عن هويتهم الوطنية والاستسلام لحكم الاحتلال.
وحتى "إنجاز" الاحتلال بإغلاق القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، وعدم فتحها مرةً أخرى، لن ينجح في طمس الهوية الفلسطينية للأحياء الشرقية بالمدينة. لكن الاحتلال لا يعرف طريقاً آخر للمضي قدماً سوى طريق العنف والمحاولات المثيرة للشفقة، من أجل محو الهوية الفلسطينية، مع تصوير جميع مظاهرها على أنها "إرهاب".
وبعد سبع سنوات من نزع شرطة جنوب إفريقيا علم حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الذي يلف نعش كريل في زمن الفصل العنصري؛ وطئت أقدام زعيم الحزب، نيلسون مانديلا، مقر القصر الرئاسي في بريتوريا. وهذا لا يعني أن الاحتلال الإسرائيلي سينتهي في غضون سبع سنوات، ولكنها تذكرةٌ بحقيقة أن القوة الزائدة لا تضمن النصر دائماً، بل تؤدي إلى النقيض تماماً في بعض الأحيان.