يحدد جواسيس أوكرانيون الأهداف التي تقصفها روسيا في شرق أوكرانيا، لكن التفاصيل الكثيرة تجعل من شبه المستحيل تحديد الدوافع الحقيقية لدى هؤلاء، فأغلبهم مواطنون عاديون وليسوا عملاء مخابرات مدربين.
الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي يصفه الرئيس فلاديمير بوتين بأنه "عملية عسكرية خاصة" ويصفه الغرب بأنه غزو لدولة ذات سيادة، يقترب من دخول شهره الرابع دون أن تلوح في الأفق نهاية قريبة لتلك الحرب، التي توصف بأنها الحرب الأكبر في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
كان الهجوم قد بدأ يوم 24 فبراير/شباط الماضي، بعد أن وصلت الأزمة الجيوسياسية بين روسيا والغرب إلى طريق مسدود، في ظل عدم توصل الطرفين إلى تسوية مقبولة لما تراه موسكو تهديداً لأمنها القومي سببه تمدد حلف الناتو شرقاً وسعي النظام الأوكراني بقيادة فولوديمير زيلينسكي، إلى الانضمام للحلف العسكري الغربي والتخلي عن وضع الحياد الذي كان سائداً هناك منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق مطلع تسعينيات القرن الماضي.
تصوير القبض على جاسوس أوكراني
ولأن التجسس يمثل فرعاً رئيسياً من الفروع العسكرية عموماً، وفي زمن الحرب خصوصاً، فمن الطبيعي أن يسعى طرفا الحرب لتجنيد العملاء على أراضي الطرف الآخر؛ لتوفير معلومات ميدانية حيوية تستخدمها الجيوش في عملياتها على الأرض.
وفي هذا السياق، نشرت شبكة CNN الأمريكية تقريراً عنوانه "الاستخبارات الأوكرانية تطارد الجواسيس الذين يبيعون معلومات لروسيا"، رصدت من خلاله عملية القبض على واحد من هؤلاء "الجواسيس"، ونقلت الشبكة الأمريكية أيضاً جانباً من عملية التحقيق مع المتهم الذي اعترف بالتجسس لصالح روسيا.
في شارع مليء بالغبار في بلدة سلوفيانسك بشرق أوكرانيا، يقف رجل يرتدي قميصاً أسود بأكمام طويلة وسروالاً طويلاً ويدخن سيجارة. إنه مُراقَب. قال رجل في جهاز لا سلكي من سيارته على الطريق: "لقد نلنا منه".
ومن الاتجاه الآخر، تنحرف شاحنة، ويقفز منها رجلان يرتديان زياً قتالياً وأغطية للوجه. يسقط الرجل ذو الرداء الأسود على الأرض، كما لو كان فعل ذلك بالفطرة. قام الضباط من جهاز الأمن الأوكراني بتفتيشه واستخلاص أدلتهم الثمينة: هاتفه المحمول.
ويتركز الهجوم الروسي حالياً على أقاليم شرق أوكرانيا المتاخمة للحدود الروسية، خاصةً إقليم دونباس، حيث منطقتا لوغانسك ودونيتسك الانفصاليتلن. كان بوتين، يوم 21 فبراير/شباط، قد أعلن الاعتراف باستقلال المنطقتين عن أوكرانيا، على الرغم من أن لوغانسك ودونيتسك كانتا قد أعلنتا الانفصال منذ عام 2014، حينما اجتاحت روسيا شبه جزيرة القرم وضمتها رسمياً.
ومنذ 2014 وحتى تفجّر الحرب الحالية، كان الانفصاليون يسيطرون على ثلث أراضي دونباس فقط بينما تسيطر القوات الأوكرانية على الثلثين، وكان خط التماس بينهما بطول الإقليم يشهد مناوشات متقطعة بشكل شبه يومي، على الرغم من توقيع اتفاقيات مينسك لوقف إطلاق النار بوساطة غربية.
وبعد أن بدأت روسيا هجومها باجتياح ومحاصرة جميع المدن الأوكرانية، وضمنها العاصمة كييف، أعلنت موسكو الشهر الماضي، عن سحب قواتها من غرب أوكرانيا وتركيز عملياتها العسكرية على إقليم دونباس ومدينة ماريوبول الساحلية الاستراتيجية. وكانت خيرسون، إحدى المدن الأوكرانية الكبرى، قد سقطت بالفعل في قبضة الروس. وحالياً سقطت ماريوبول أيضاً، باستثناء مجمع الصلب آزوفستال الذي لا يزال مقاتلون أوكرانيون يتحصنون به في ظل حصار روسي محكم.
ماذا يقدم الجواسيس الأوكرانيون لروسيا؟
ويقول تقرير شبكة CNN، إن ضربات المدفعية الروسية والأوكرانية في شرق أوكرانيا شبه دائمة، وتضيف أن "جزءاً كبيراً من القصف الروسي عشوائي، لكن البعض يستهدف أهدافاً عالية القيمة مثل الثكنات العسكرية، أو مستودعات الأسلحة، أو مقر إدارة أمن الدولة في كراماتورسك، والذي دُمِّرَ في الأسابيع الأولى من الحرب".
وقالت إدارة أمن الدولة الأوكرانية للشبكة الأمريكية، إن القوات الروسية تعتمد بشكل كبير على المتعاونين مثل الجاسوس المزعوم الذي شاهدته شبكة CNN في أثناء القبض عليه في سلوفيانسك مطلع هذا الأسبوع، لتحديد أهدافهم وتقييم نجاح ضرباتهم.
عندما واجهه محقق من إدارة أمن الدولة في مكان الاعتقال، سرعان ما اعترف المشتبه به بالتواصل مع العدو، بحسب تقرير CNN. سأله المحقق: "ماذا طُلِبَ منك؟". فقال المشتبه به ورأسه مُنكَّس: "الإحداثيات والحركات وما إلى ذلك.. مواقع الضربات، وما شابه ذلك. الوضع بشكل عام". فسأله المحقق: "هل فهمت لماذا يحتاجون الإحداثيات؟". فقال: "نعم، أفهم ذلك. أدرك ذلك".
وحول العدد المتوقع لهؤلاء المتعاونين مع الروس، قال عملاء إدارة أمن الدولة في كراماتورسك للشبكة الأمريكية، إنهم ينفذون عمليات اعتقال كهذه مرة أو مرتين في اليوم. هذا الرجل يخضع للتحقيق منذ أربعة أيام فقط. ويشير هذا بالطبع إلى أن عدد هؤلاء ليس قليلاً بالمرّة، فإذا كان يتم القبض على واحد أو اثنين يومياً، فكم عدد من لا يُقبض عليهم؟!
وينقسم المشتبه بهم إلى أنواع متعددة، فبعضهم متسللون تقليديون، أي مواطنون روس جاءوا إلى منطقة دونباس في بداية الهجوم الروسي، ويعيشون بين السكان. والبعض الآخر متعاطفون سياسياً مع الروس، لكن الرجل الذي قاد عملية الاعتقال في ذلك اليوم، والذي يُطلَق عليه سيرهي، يقول إن معظم الناس يتجسسون من أجل المال.
هل المال هو الدافع الوحيد للتجسس لصالح روسيا؟
وقال سيرهي لـ"سي إن إن": "هناك عدد أقل وأقل من الخونة الأيديولوجيين، حتى أولئك الذين أيدوا عدوان الاتحاد الروسي في عام 2014 في دونباس، أثناء إنشاء ما يسمى جمهورية دونيتسك و لوغانسك الشعبية، عندما رأوا ما حدث مع ماريوبول وخاركيف وكييف وبوتشا وعشرات ومئات من المحليات الأخرى، بدأوا يغيرون نظرتهم تجاه روسيا".
يخبر المشتبه به المحقق بأنه عُرِضَ عليه 500 هريفنيا فقط، أو نحو 17 دولاراً، مقابل معلومات الاستهداف. ويقول إنه جُنِّدَ من خلال تطبيق تليغرام للمراسلة بواسطة شخص يعرِّف نفسه باسم نيكولاي.
يقرأ المحقق مراسلاتهم بينما يقف عملاء إدارة أمن الدولة حوله. كتب نيكولاي: "لقد قمت بعمل جيد بالأمس. المعلومات نفسها مطلوبةٌ اليوم. الصور ومقاطع الفيديو والبيانات الجغرافية للجيش في CNIL (ثكنة عسكرية). ما هو الوقت الذي يستغرقه الحصول على المعلومات؟".
أجاب المشتبه به: "فهمت. سأعاود إرسال رسالة نصية إليك. ساعة ونصف إلى ساعتين". أجاب نيكولاي: "حسناً، سأنتظر. كن حذراً. انتبه للكاميرات؛ حتى لا تراك. التقط الصور ومقاطع الفيديو سراً".
المحقق يشرح للمشتبه به أنهم يصادرون هاتفه، ويسأل: "بمن أتصل لإبلاغه باعتقالك؟". قال المشتبه: "أمي". فسأله المحقق: "هل تتذكر الرقم؟". فأجاب: "الرقم في الهاتف".
اقتيد الرجل إلى سيارة تابعة لإدارة أمن الدولة لا تحمل أي علامات. يقول سيرهي إنه سيُنقَل غرباً إلى دنيبرو حيث سيواجه المحاكمة. إذا ثبت أن تجسسه أدى إلى الوفاة أو "عواقب وخيمة"، فإن إدانته قد تزج به في السجن لبقية حياته.
يقول سيرهي إن "هذه الصواريخ تأتي في الإحداثيات التي ينقلها مثل هؤلاء المجرمون"، ويضيف: "الناس يموتون بسبب هذه الصواريخ. جنودنا يُقتلون والمدنيون يُقتلون".
يقول إنه يحاول إبقاء غضبه بعيداً، لكن من الصعب عدم أخذ الخيانات على محمل شخصي. ويتابع: "في كل مرة أعتقل فيها شخصاً مثله، أعرف شيئاً واحداً: أنا نفسي من هنا. أحبائي وجميع أقاربي من ليمان"، وهي بلدة تعرضت لقصف روسي مكثف لأسابيع، على حد قوله.
ويضيف: "في الوقت الحالي، ليس لديهم مكان للعيش فيه، وليس لديهم أي شيء. ليس لديهم مكان يعودون إليه.أتذكر محطة سكة حديد كراماتورسك في كل مرة"، في إشارة إلى غارة جوية روسية في أبريل/نيسان، قتلت ما لا يقل عن 50 شخصاً. ويقول: "كنا نلتقط أشلاء الناس".
الخلاصة هنا هي أن بعض الأوكرانيين لا يزالون يتعاونون مع روسيا ليس فقط بسبب المال ولكن لاقتناعهم بالمنطق الروسي، الذي يرى أن الغرب، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، يريد السيطرة على أوكرانيا واحتواء روسيا ووقف سعيها لاستعادة أمجادها كقوة عظمى.