ظهر في التسعينيات وواجه به البعض السلطة.. كيف تحول الراب في المغرب من “فن هادف” إلى “كلام ساقط”؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/10/27 الساعة 13:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/10/27 الساعة 13:54 بتوقيت غرينتش

لم يكن سهلاً أن يبزغ فن غنائي اسمه "الراب" في المغرب إبان تسعينيات القرن الماضي، بالنظر إلى أنه نمط موسيقي اعتبره الآباء وبعض المؤسسات الفنية المغربية فناً دخيلاً، كونه يمثل "الابن العاق" داخل دائرة الأصناف الغنائية المغربية الموجودة وسط مجتمع محافظ.

لكن بدأ المجتمع، الذي أُشبعت ذاكرته الغنائية بالنموذج الغيواني، في التصالح نسبياً مع هذا النمط الموسيقي، خصوصاً مع ظهور جيل أول من فناني الراب المغربي في العقد الأخير من القرن الـ20، حملت أغانيهم هموم ظواهر اجتماعية، على غرار "الهجرة السرية، والفقر، والبطالة".

ومع بداية القرن الـ21 برزت موجة الراب المغربي المعروفة بـ"نايضة"، وهي موجة ثقافية حضرية وحركة موسيقية ناشئة في المملكة، تُقارن أحياناً بحركة "موبيدا" في إسبانيا.

وظهرت موجة "نايضة" لأول مرة في المغرب مع الفنان أحمد سلطان، الذي أصدر أول ألبوم له بعنوان تسامح سنة 2006، خاصة أغنية "يا سلام"، رفقة مجموعة أفروديزياك الفرنسية، التي شملت اللغتين الفرنسية والعربية.

رغم "كلام الشارع" المستعمل في كلمات أغاني الراب منذ بداياته الأولى في المغرب، فإن جيلاً من فنّاني الراب المغربي اختار مواضيع تُعتبر هادفة، مثل أغاني "لابريكاد" (مخفر)، وأغاني فرقة "آش كاين؟"، التي تأسست سنة 1996 من مدينة مكناس، وأغاني الفنان محمد الهادي المزوري المعروف بـ"مسلم".

من مهرجان
من مهرجان "البولفار" في مدينة الدار البيضاء (مواقع التواصل الاجتماعي)

رسائل سياسية "قاسية"

سنة 2011 أطلق مغني الراب المغربي توفيق حازب، المعروف بلقب "Don Bigg"، أغنية "ما بغيتش" (لا أريد)، والتي انتقد فيها الأحزاب السياسية وحركة "20 فبراير"، التي خرجت للاحتجاج في خضم الربيع العربي.

وكان "Don Bigg" مدافعاً عن السلطة في أغانيه، وتحديداً في أغنية "مغاربة حتى الموت"، انتقد الاحتجاجات التي خرجت بعد إصدار الملك محمد السادس عفواً ملكياً عن مواطن إسباني كان متهماً باغتصاب أطفال.

لكن إذا كان الـBig أو "الخاسر" (يستعمل كلاماً نابياً)، قد انحاز للسلطة في غنائه السياسي، فإن تجارب أخرى من فناني الراب المغربي تميزت بالمواجهة المباشرة مع السلطات، وحملت أغانيهم رسائل سياسية مباشرة أحياناً، وحوكم بعضهم بتهم "الإساءة للمؤسسات".

ويمكن الإشارة في هذا السياق لتجارب الرّابور المغربي معاذ بلغوات، المعروف بـ"الحاقد"، الذي يعد أحد أبرز وجوه 20 فبراير، وحمزة أسابر، الذي توبع بالمسّ بالمؤسسات الدستورية في 2020، ثم مغني الراب محمد منير، المشهور بـ"الكناوي"، الذي أثار الجدل في 2019 بأغنيته "عاش الشعب".

هذه الأغنية، التي احتلت قائمة "الترند" المغربي على اليوتوب حينها، شكَّلت صدمةً قويةً للنُّخب السياسية وللأطر القانونية والدستورية، بالنظر إلى قوة رسائلها السياسية، الشيء الذي وضع السلطة السياسية في حرج التعاطي مع هذه التعبيرات "القاسية"، حتى إن ثلاثة أحزاب أصدرت قياداتها بيانات متزامنة، تدعو لدراسة الأشكال التعبيرية الجديدة وتحليلها.

مغني الراب المغربي معاذ الحاقد (مواقع التواصل الاجتماعي)
مغني الراب المغربي معاذ الحاقد (مواقع التواصل الاجتماعي)

"طوطو" يقلب الطاولة

رغم أن أغانيه تُحقق عدد مشاهدات مرتفعاً، ويتابعه الملايين من جمهوره الكبير الذين يؤمنون بالفن الذي يُقدم، إلا أن مُغني الراب "El Grande Totto" استطاع أن يقلب الطاولة عن الجيل الأول من مغنّي الراب في المغرب.

وخلال مشاركته في احتفالية اختيار العاصمة الرباط مدينة للثقافة الإفريقية، استعمل طوطو كلاماً نابياً من المنصة، كما تحدث خلال الندوة الصحفية التي سبقت الحفل عن استهلاكه للحشيش.

تصريحات "El Grande Totto" دفعت مجموعة من الفنانين المغاربة إلى تقديم شكوى ضده، وقالوا إنه يُحرض على تعاطي المخدرات ويسيء للفن، خصوصاً أن الحفل ترعاه وزارة الثقافة.

ورغم اعتذاره الرسمي والعلني فإن الفنان الشاب مازال متابعاً من طرف النيابة العامة، الأمر الذي أعاد السؤال حول كلام الراب اليوم، انطلاقاً مما قام به طوطو، الذي يعد أحد أشهر مغني الراب في المغرب. 

يحقق الإشباع بلغة الشارع

فلماذا إذن ينحاز الكثير من فناني الراب نحو الكلام الساقط؟ وهل يعد بذلك كلام الشارع أحد ركائز هذا الصنف الغنائي الحديث؟ وما الذي يجعله أكثر انتشاراً بين الجيل الناشئ وجيل الشباب؟ 

يونس طالب، المعروف بـ"موبيديك الموتشو"، أحد أشهر مغني الراب في المغرب، قال إن "الكلام المكتوب في الراب ينتمي إلى لغة الشارع بدون رقابة، بخلاف اللغة المستعملة داخل البيت أو المدرسة التي تخضع لرقابة والانتقاء في الكلمات".

وأضاف المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست": "نحن نعتبر أن هذا الكلام غير المقبول، واستعمالنا لهذا الأسلوب يحقق نوعاً من الإشباع؛ لأنه لا يتضمن موانع أو رقابة، ومن ثمة يعد أسلوب الشارع أفضل ما يمكن الحديث به".

واعتبر المتحدث ذاته أن "الراب حقق كل هذا النجاح، لأنه لا يقبل النفاق المجتمعي، علاوة على أنه ليس فيه رقابة، والشباب المغربي يحبون بشكل كبير، ويتابعون إنتاجات الراب المغربي؛ لأنهم يريدون سماع كلام بدون قيود أو موانع".

وأشار الرابور المغربي إلى أن "الراب وكلام الراب المغربي لم ينتج لكي يسمع داخل المنازل أو بشكل جماعي بين العائلات والأسر المغربية، كما هو الشأن مع أصناف غنائية أخرى"، مشدداً على أن "فن الراب انطلق من الشارع، ويُغنى في الشارع ويُسمع في الشارع بين الأقران الذين يحبون سماع هذه اللغة فقط".

الشرعية التاريخية للكلام الساقط

يرى هشام عبقري، الخبير الفني، أن "ممارسي الراب المغربي متمردون في وجه قوانين اجتماعية تُفرض على جيل ناشئ، ويتمظهر هذا التمرد على مستوى اللباس وتسريحة الشعر وعلى مستوى اللغة كذلك".

وقال المتحدث، في اتصاله بـ"عربي بوست": إنها "ليست هذه أول مرة تستخدم الألفاظ الصريحة في الغناء المغربي، لدينا تراث غنائي يشتمل على ألفاظ شبقية، ولكنها لم تثر كل هذا الجدل في السابق، بل كان المغاربة متسامحين معها ويتقبلونها ويستمعون إليها بشكل عادي جداً".

ولذلك، "فالشباب الممارس للراب لم يخترع هذه الألفاظ، بل هي ألفاظ موجودة في واقعهم، واستقوها من الشارع والأحياء التي ترعرعوا فيها، ومن ثمة فهم فنانون يتحدثون بطريقة صريحة، واختاروا الحديث عن الواقع بطريقة مباشرة"، يردف المصدر نفسه.

البولفار والإنتاج السهل

لم يكن ممكناً أن ينتشر الراب في المغرب، ويكتسي نوعاً من القوة في الساحة المغربية، لولا مجموعة من الأحداث التي لعبت لصالح هذه "الحركة" الفنية الحديثة، خصوصاً مع ظهور مهرجان "البولفار" للموسيقى الحضرية بمدينة الدار البيضاء عام 1999، والذي خلق فضاء مفتوحاً للشباب في عدة أصناف موسيقية وغنائية.

وعندما انطلق هذا المهرجان لم يكن متوقعاً حينها أن يتحول البولفار إلى "رؤية" ثقافية، يتبلور من خلالها اتجاه ثقافي وفني، ما أسهم في تنامي فن الراب المغربي، واكتشاف نجوم جدد في هذا الصنف مع كل نسخة جديدة من المهرجان.

وقبل أن ينتقل هؤلاء الفنانون للمشاركة في مهرجان البولفار أو في مهرجانات أخرى، يقول الخبير الفني هشام عبقري، وهو من أوائل الذين واكبوا مغنّي الراب المغاربة نهاية التسعينيات: إن انتشار الراب في المغرب "يرجع بالأساس إلى طبيعة الإنتاج الذي يختلف عن الأنواع الغنائية الأخرى، فهو يحتاج موسيقى وكلمات دون تكلف".

وأوضح عبقري، في حديثه لـ"عربي بوست"، أن "هؤلاء الشباب المبتدئين يمكنهم تحميل لحن أو موسيقى معينة، ثم يكتب كلمات ترافقها، أو العكس يؤلف كلمات، ثم يختار مقطعاً موسيقياً موجوداً أصلاً".

واعتبر الخبير الفني أن "الطبيعة الشكلية للراب سهّلت على الشباب ممارسته، إذ ليس هناك أي شروط تعجيزية مقارنة بأشكال غنائية أخرى، التي تحتاج خامة صوتية جيدة، وكاتب كلمات، وملحن، وفرقة موسيقية، واستوديو وآليات مهنية للتسجيل".

الراب والإذاعات والبودكاست

طبعاً كل إنتاجات الراب التي تراكمت لم تعرف طريقها للبث الإذاعي إلا بعد تحرير القطاع السمعي البصري في المغرب عام 2002، وأُحدثت العديد من الإذاعات غير الحكومية الخاصة، مواكبة خطاب التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المملكة، مع بداية ما سُمي آنذاك بـ"العهد الجديد".

يؤكد هشام عبقري، أن "تحرير القطاع السمعي البصري، وإحداث إذاعات خاصة غير حكومية، منح إمكانية مهمة لبث وترويج إنتاجات الراب المغربي"، مضيفاً أن "هذا الإنتاج الغنائي الشبابي لم يستفد قبل ذلك من قنوات البث الحكومية الرسمية".

وبعد هذه المرحلة، "انتقل مشاهير ونجوم الراب المغربي لاستغلال التقنيات الحديثة لبث جديدهم الغنائي على المنصات الرقمية العالمية للبودكاست والموسيقى"، يردف المتحدث ذاته.

وتمكن نجوم الراب هؤلاء في المغرب، مع توفر الإمكانيات التقنية العالية، من رسم خريطة هذا الفن، مبدعين إيقاعات رنانة وعوالم بصرية جذابة، إلى جانب حضور مدروس على مواقع التواصل الاجتماعي لإقامة روابط أكثر ومباشرة مع جمهور شبابي واسع.

تحميل المزيد