Palm Tree
Palm Tree

المصريون تحت رحمة الدولار

Palm Tree
Palm Tree

"الدولار في مصر بكام النهارده؟".. العبارة الأكثر تردداً على محركات البحث في مصر خلال السنوات الأخيرة، فما سر هذه العلاقة العجيبة بين المصريين والعملة الخضراء؟ فالسؤال عن سعر الدولار في مصر لم يعد قاصراً على رجال المال والأعمال وخبراء الاقتصاد، بل أصبح مادة الحديث الأبرز والأكثر تداولاً على المقاهي وفي البيوت، وليس فقط في الفضاء السيبراني أو على الإنترنت بمختلف منصاتها وتطبيقاتها. في هذا التقرير، نتتبع العلاقة العجيبة جداً بين شعب تعاني غالبيته العظمى من شظف العيش وبين العملة الأقوى في العالم ورمز الهيمنة الأمريكية، وكيف تحولت تلك العلاقة إلى ما يشبه الهوس حرفياً. لكن كما يقول المصريون: "إذا عرف السبب بطل العجب".

Palm Tree
Palm Tree

الجنيه أعلى من الدولار! على مدار عقود طويلة، ظلت مسألة سعر الدولار مقابل الجنيه (العملة المحلية في مصر) أمراً لا يهم المصريين بشكل عام، أي يمكن القول إنه لم تكن هناك علاقة مباشرة من الأساس، رغم أن سعر الدولار مقابل الجنيه أو ربط العملة المحلية بالعملة الأمريكية كان دائماً موجوداً، شأنها في ذلك شأن باقي العملات المحلية عاليما. فالدولار أقوى العملات ورمز الهيمنة الأمريكية على العالم منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية تقريباً. الفرق بين سعر العملة الأمريكية والجنيه المصري ظل لصالح الأخير حتى نهاية ثمانينيات القرن الماضي، لتبدأ منذ التسعينات رحلة صعود الدولار، حيث سجل سعر 1.5 مقابل الجنيه (أي أن كل دولار واحد كان يساوي جنيهاً مصرياً ونصفاً). تبدو هذه المعادلة الرقمية اليوم كضرب من الخيال.

Palm Tree
Palm Tree

الدولار يبدأ ر الصعود طوال 3 عقودً، أي حتى 2014، حققت رحلة صعود الدولار مقابل الجنيه استمرارية بطيئة، فبلغ سعر الدولار 7.8 جنيه، لكن بدأ دخول عنصر جديد في المعادلة بشكل قوي وهو السوق السوداء أو السوق الموازية، حيث بلغ سعر الدولار في تلك السوق (غير الرسمية) أكثر من 13 جنيهاً تقريباً. كان شهر نوفمبر 2016 البداية لعلاقة المصريين عموماً بسعر الدولار، حيث شهد ذلك الشهر تحريراً لسعر صرف الدولار مقابل الجنيه أو ما يعرف مصرياً بـ"التعويم"، ليقفز سعر الدولار رسمياً إلى ما يقارب 20 يهاً في السوق الرسمية، قبل أن ينخفض لمتوسط 15.50 جنيه ويستقر حتى مارس 2022،. ارتفع سعر الدولار في السوق الرسمية خلال عام واحد عدة مرات، حتى استقر في مارس 2023 عند مستوى 30.80 جنيه مصري تقريباً، وظل عند هذا المستوى حتى وقت كتابة هذا التقرير.

Palm Tree
Palm Tree

الدولار ركب "الصاروخ" لكن سعر الدولار في السوق السوداء أو السوق الموازية وصل إلى مستويات لامست 75 جنيهاً خلال يناير/كانون الثاني الماضي، قبل أن ينخفض إلى مستوى 65 جنيهاً خلال الأسبوع الجاري، أي أن السعر غير الرسمي بلغ أكثر من ضعف السعر الرسمي، وتحول البحث عن سعر الدولار إلى ما يشبه "الهوس" بين المصريين، فما هي الأسباب؟ يتابع المصريون سعر الدولار ويتحدثون عنه طوال الوقت لسبب بسيط وهو الأسعار، التي أصبحت تقفز صعوداً طوال الوقت، تماشياً مع القفزات التي يحققها الدولار، وفي أحيان كثيرة تكون قفزات الأسعار أكثر صعوداً من قفزات سعر الدولار.

Palm Tree
Palm Tree

جنون الأسعار في مصر فإذا أخذنا بعض الأمثلة على جنون الأسعار في مصر خلال السنوات العشر الأخيرة، نجد أن سعر كيلو الأرز كان يبلغ أقل من 5 جنيهات، وكيلو السكر نفس القيمة تقريباً، ولتر زيت الطعام نحو 8 جنيهات وكيلو اللحوم نحو 70 جنيهاً بينما كيلو الدجاج نحو 15 جنيهاً، وذلك خلال عام 2014 عندما كان سعر الدولار رسمياً يعادل 7.8 جنيه مصري وفي السوق السوداء يعادل نحو 13 جنيهاً. أما اليوم، فسعر كيلو الأرز يبلغ متوسط 35 جنيهاً، وكيلو السكر متوسط 50 جنيهاً، ولتر الزيت متوسط 90 جنيهاً، وكيلو اللحم متوسط 440 جنيهاً وكيلو الفراخ (الدجاج) متوسط 120 جنيهاً. فخلال السنوات العشر الأخيرة، أصبح سعر الدولار يحدد تكاليف المعيشة لجميع المصريين. فسعر أي سلعة من أي نوع أصبح مرتبطاً بسعر الدولار، حتى ولو كانت تلك السلعة منتجة محلياً مثل الخضراوات أو الفاكهة.

Palm Tree
Palm Tree

حتى الكشري كانت صحيفة The Washington Post الأمريكية قد نشرت تقريراً عنوانه "مع تفاقم الأزمة الاقتصادية في مصر، أصبح من الصعب العثور على وجبة بأسعار معقولة"، ركزت فيه على تداعيات الأزمة الاقتصادية على تكاليف المعيشة في مصر، وكانت وجبة الكشري البطل الرئيسي للتقرير. كان ذلك أواخر ديسمبر/كانون الأول 2022، عندما كان سعر الدولار دون مستوى 30 جنيهاً. وتعد وجبة الكشري، وهي مزيج من المعكرونة والأرز والعدس والحمص والبصل المقلي وصلصة الطماطم الحارة، أحد أرخص الأطعمة وأكثرها شعبية في مصر، فهي غنية بالكربوهيدرات والبروتينات التي يمكنها أن تُشعر حتى أشد الزبائن جوعاً بالشبع طوال اليوم. والجميع في مصر يأكلونه، من أغنى الأغنياء إلى أفقر الفقراء. الحديث هنا عن أسعار سلع أساسية لا غنى لأي شخص عنها، لكن سعر الدولار يؤثر في جميع السلع، فالسيارات مثلاً شهدت أسعارها قفزات خيالية خلال السنوات الأخيرة، فهذه سيارة كانت تباع عام 2021 بـ200 ألف جنيه بلغ سعرها (نفس السيارة موديل 2024) مليونين ومئتي ألف جنيه!

Palm Tree
Palm Tree

الرقم والقيمة الشرائية من ينظر إلى الارتفاعات المتتالية للحد الأدنى من الأجور في مصر بشكل منفرد، سيجد أن المتوسط السنوي للزيادة خلال 10 سنوات يبلغ 40%، وهي زيادات قياسية، ولكن عند إكمال المعادلة نجد أن هذا الرقم وحده يرسم صورة مناقضة تماماً لما يجري على أرض الواقع. فعندما كان الحد الأدنى للأجور 1200 جنيه عام 2014، كان سعر كيلو الأرز، على سبيل المثال، يبلغ أقل من 5 جنيهات، وكيلو السكر نفس القيمة تقريباً، ولتر زيت الطعام نحو 8 جنيهات وكيلو اللحوم نحو 70 جنيهاً بينما كيلو الدجاج نحو 15 جنيهاً. لكن الرقم الأهم إجمالاً في هذه المعادلة هو سعر الدولار، الذي كان وقتها نحو 7 جنيهات، أي إن الحد الأدنى للأجور كان يساوي تقريباً 172 دولاراً شهرياً. أما في 2024، ومع الزيادة الكبيرة في الحد الأدني للأجور التي أعلن عنها الرئيس المصري خلال فبراير/شباط الجاري وستطبق في مارس/آذار المقبل، يصبح الحد الأدنى للأجور 6000 جنيه شهرياً، أي ما يعادل 92.3 دولار (على حساب سعر الدولار 65 جنيهاً وهو متوسط سعره اليوم)، أي أن الحد الأدنى للأجور في مصر انخفض بشكل فعلي بنسبة تقترب من النصف مقارنة بما كان عليه قبل عشر سنوات، وهذه هي الصورة الكاملة لحجم معاناة المصريين. فهذا الحد الأدنى للأجور، شأنه شأن أي مبلغ مالي آخر، يقاس بقوته الشرائية. ومن هذا المنطلق، ما كان المواطن المصري يشتريه بـ1200 جنيه عام 2014 هو تقريباً نصف ما يمكنه أن يشتريه بـ6000 جنيه عام 2024. هذه هي القصة وهذا هو السبب الرئيسي الذي دفع جميع المصريين لمتابعة سعر الدولار على مدار الساعة حرفياً، فالجميع بات تحت رحمة الدولار!