في صبيحة الثلاثاء، 20 يناير/كانون الثاني، انطلقت زغاريد وأصوات فرح وسرور من حي "الشابورة" بمخيم رفح في قطاع غزة، بعدما رزقت عائلة "سرسك" بمولود جديد سموه محمود.. محمود سرسك.
منذ نعومة أظافره، برزت موهبة سليل عائلة سرسك في مداعبة الكرة، متفوقاً على أقرانه ومن هم أكبر منه سناً. بات نجم الحيّ الأول وهو في الـ8 من عمره، وانضم لنادي "رفح الرياضي"، وراح يتحدث عنه وعن مهاراته كل من رآه يلعب يوماً حتى ذاع صيته في القطاع بأكمله.
لأن موهبته كانت أكبر من أن تحجبها معاناة اقتصادية أو سياسية، وصلته دعوة للانضمام لمنتخب فلسطين الوطني قبل أن يتجاوز الـ14 ربيعاً. نحن إذاً أمام موهبة فذة أو خارقة ستطير فوق الجدار العازل وربما تطوف العالم رافعة العلم الفلسطيني.
لكن الاحتلال الإسرائيلي لم يكن ليسمح بذلك، فمضى ينفذ مخططاً يقضي على تلك الموهبة، وأدخل محمود سرسك في خضم معركة قاسية، خرج منها سرسك منتصراً لكن بثمن غالٍ.
اعتقال محمود سرسك
يوم الأربعاء، 22 يوليو/تموز 2009، كان محمود سرسك في طريقه إلى نادي "بلاطة الرياضي" بنابلس، ليوقع على عقد احترافه مع النادي. وللعبور من قطاع غزة إلى الضفة الغربية يفرض الاحتلال الحصول على تصريح أمني من قواته، ولقد حصل عليه سرسك بالفعل.
لكن وهو في طريقه إلى نابلس، أوقفت قوات الاحتلال سرسك عند حاجز "إيرز العسكري" رغم حصوله على تصريح مرور من قوات الاحتلال لدخول الضفة الغربية في وقت سابق. اعتقد سرسك أن التوقيف مضايقة روتينية يتعرض لها كل أهالي القطاع، لكن بعد ساعات من التوقيف سيسمع الجملة التي ستغير مجرى حياته: "أنت قيد الاعتقال".
قُبِض على سرسك وأرسل إلى السجن في اعتقال مفتوح المدة الزمنية وبلا تهم واضحة غير تلك التي اعتاد الاحتلال تلفيقها لأبناء الشعب الفلسطيني في "إرهاب منظم" على حد تعبير سرسك نفسه فيما بعد. وفي حالة محمود، كانت التهمة هي الانتماء إلى حركة الجهاد الإسلامي.
الأسير لا يملك سوى جسده
الأسير الفلسطيني لدى الاحتلال الإسرائيلي يتعرض لصنوف من الإرهاب والترويع، تصل إلى حد الاغتيال المعنوي والنفسي، بل القتل أحياناً، حسب سرسك. فمنذ الاعتقال مباشرة، لا يصبح الأسير اسماً وآدمياً من لحم ودم، له عائلة تنتظره، ومستقبل يناديه، بل مجرد رقم، فيفرز على أساس رقمه، ويودع الزنزانة برقمه، وينادى به حتى يتحول إلى نكرة أو نسياً منسياً.
ليس رقماً فحسب، بل قد يغدو الأسير "فأر تجارب" لدى سلطات الاحتلال عند نقله إلى المستشفيات الإسرائيلية للعلاج. التقارير الصحفية تشير إلى إجراء إسرائيل قرابة 5000 تجربة طبية على الأسرى الفلسطينيين دون إذنهم، من ضمنها أدوية غير معروف نتائجها وتسببت في أمراض خطيرة للأسرى. لا يسمي سرسك المستشفيات الإسرائيلية إلا بـ"المذابح"، فيقول هناك يتم التخلص من الأسرى وإنهاء حياتهم أو إجراء تجارب طبية عليهم تصيبهم بأمراض عضال.
في محبسه، رفض سرسك الاستسلام للقيد فقرر خوض مغامرة يتحدى بها الاحتلال ويرسل رسالة للعالم الرياضي والإنساني.. سيضرب عن الطعام. بعد أكثر من عامين من الاعتقال، قرر سرسك خوض معركة "الأمعاء الخاوية" وأضرب عن الطعام. ذلك الإضراب جاء بعدما فقد الأمل، لكن دفعه إلى ذلك الاختيار رغبته في إرسال رسالة للعالم.
"الأسير في السجن لا يملك سوى جسده لكي يستخدمه في المعركة".. بهذه الكلمات فسّر سرسك لماذا قرر الدخول في إضراب عن الطعام دام لأكثر من 96 يوماً دون باقي أنواع الاعتراض أو التمرد.
استفاد اللاعب الفذ من تجربة زملائه في الأسر، الذين انتزعوا حريتهم بالإضراب عن الطعام، وتأثر به. وساعده في ذلك المسار جسده الرياضي وكتلته العضلية.
كانت أيام الإضراب الأولى هي الأصعب، إذ خسر من الوزن الكثير ومع الوقت سكنه الضعف والهزال حتى نقل إلى وحدة "الموت الإكلينيكي" وأدخل المستشفى بعدما باتت قضيته قضية إنسانية. حيث ناشد رئيس فيفا آنذاك، جوزيف بلاتر، الاتحاد الإسرائيلي لكرة القدم التدخل "العاجل" للإفراج عن اللاعبين الفلسطينيين المحتجزين في إسرائيل دون محاكمة. وتبع موقف منظمة العفو الدولية نداء بلاتر ببضعة أيام، فعبرت عن قلقها بشأن سرسك المضرب عن الطعام.
وبعد ضغوط دولية وخوفاً من أن يموت سرسك في سجونها، أفرجت إسرائيل عنه في 10 يوليو/تموز 2012 بعد إضرابه عن الطعام لأكثر من 96 يوماً وعاد إلى قطاع غزة.
لفتة طيبة من الأفريقي التونسي
بعد أيام معدودة من خروجه من السجن، وصل الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم طلب من النادي الأفريقي التونسي لضم اللاعب محمود سرسك إلى صفوفه لإتمام رحلة علاجه والاحتراف في صفوفه. وبذلك، كان الأفريقي أول فريق عربي يفتح ذراعيه لضم اللاعب وتكريمه بعقد شرفي.
كان رئيس الأفريقي التونسي آنذاك سليم الرياحي أعلن أن إدارة ناديه ستتعاقد مع سرسك في إطار إنساني وليس رياضياً، وأنها تريد أن تتبنى وضعيات عدد من الأسرى الفلسطينيين القابعين خلف القضبان بإسرائيل.
ونزل سرسك ضيفاً على النادي الأفريقي، حيث كانت له جولة في مقر النادي وملعبه الرياضي بالعاصمة تونس، كما حضر مران الفريق. كما أقامت إدارة الفريق حفل استقبال على شرف اللاعب بمناسبة احتفال النادي بمرور 92 عاماً على تأسيسه.
رفض حضور الكلاسيكو
بعد نيله حريته، وصلت سرسك دعوة من نادي برشلونة لحضور مباراة "الكلاسيكو" التي يلتقي فيها الفريق الكتالوني مع ممثل العاصمة، ريال مدريد. لكن سرسك رفض تلبية تلك الدعوة الرسمية بعدما وافق عليها في البداية.
يدرك سرسك، كما يجب أن يدرك الرياضيون والعاملون بالمجال الرياضي، أن الرياضة بشكل عام، وكرة القدم بشكل خاص، هي خشبة المسرح التي يلتقي فيها الجميع، بعيداً عن المعتقدات السياسية والدينية، أو على الأقل هكذا يصوّر الأمر. لذلك لا تتوانى إسرائيل عن الصعود على عتبة هذا المسرح لتجمل صورتها وتزوّر الحقيقة وتمثل دور الضحية.
عندما وصلته الدعوة الرسمية، رحب سرسك وهو مشجع لبرشلونة بها بل فرح أيضاً، وأعلن عن حضوره رسمياً. لكن هاتفه لم يتوقف عن الرنين ذلك اليوم على حد تعبيره، اتصالات تدعوه إلى قراءة الأخبار. وفي عناوين تلك الأخبار جاء التالي: "الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط واللاعب الفلسطيني محمود سرسك يحضران الكلاسيكو سوياً". وشاليط هو جندي إسرائيلي وقع في أسر المقاومة وأفرج عنه في صفقة تبادل عام 2012 سميت "وفاء الأحرار".
وفوراً عاد سرسك في قراره وقال لوكالة فرانس برس: "اتخذت قراري النهائي بعدم حضور المباراة؛ لأن القاتل شاليط سيحضر نفس المباراة"، ورفض سرسك مقارنة قضيته كرياضي أسير بقاتل، فأعلن موقفه الواضح، "أرفض مقارنة قضيتي كرياضي إنسان وأسير محرر مع قاتل، إنها مقارنة غير عادلة بين الضحية والجلاد". وعبر عن أسفه لدعوة شاليط لأنها تعتبر "تكريماً لمن يقتل الفلسطينيين ويحارب الرياضة الفلسطينية" مبيناً أن قراره "انتصار كبير لإرادتي وإرادة الأسرى والرياضيين الفلسطينيين".