يفترض أن اللجنة الأولمبية الدولية مؤسسة مرموقة تهدف إلى نشر الروح والأخلاق الرياضية. ويفترض أيضاً أنها بلا توجه سياسي أو انحياز قائم على العرق أو الدين. لكن الافتراض الأول، أي أنها مرموقة، عصف بها انحيازها الفجّ إلى المعسكر الغربي في الحرب الروسية – الأوكرانية. أما الافتراض الثاني، أي أنها بلا توجه سياسي، فقد غرق بفعل "طوفان الأقصى"، إذ أغمضت اللجنة الدولية أعينها عن جرائم الاحتلال ضد المدنيين العزّل، وقالت على لسان المتحدث الرسمي باسمها: "لا يمكن أخذ الرياضيين بذنب اقترفته حكوماتهم".
ثارت ثائرة الروس واعترضوا على ازدواجية معايير اللجنة التي تدعي في ميثاقها أنها "تحافظ على الحياد السياسي واستقلالية الرياضة"، ردت اللجنة بأنه لا يمكن مقارنة ما قامت به روسيا في أوكرانيا بـ"النزاع بين إسرائيل وحماس". جملة تعكس موقفاً فسّره البعض بأنه تجسيد للشعور الغربي بعلو قيمة الإنسان الأمريكي والأوروبي، الأوروبي الغربي تحديداً، على غيره من سائر بني البشر. فليست كل الأرواح مقدسة ولا يجب أن تغلي الدماء من أجل حيوات كل البشر.
استخدام اللجنة الأولمبية الدولية كذراع سياسية في ميدان الرياضة ليس بالأمر الجديد. إن تفعلها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون اليوم، فلقد فعلها الألمان والصينيون من قبلهم.
أولمبياد هتلر
في 13 مايو/أيار 1931، أقرت اللجنة الأولمبية الدولية، التي كان يرأسها الكونت البلجيكي هنري بيليت-لاتور، اختيار مدينة برلين لتنظيم دورة الألعاب الأولمبية الصيفية لسنة 1936. كان هذا الاختيار تأكيداً لعودة ألمانيا إلى الحظيرة العالمية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى.
بعد عامين من هذا القرار، تسلم أدولف هتلر قيادة الحزب النازي وأصبح مستشاراً لألمانيا. وسريعاً بدأ في اعتقال معارضيه وإرسالهم إلى السجون والمعتقلات، وتطبيق سياسات نقاء وتفوق العرق الآري، أصحاب الأصول الجرمانية.
استضافة الألعاب الأولمبية كانت فرصة للحزب النازي لنشر دعايته وتأكيد صحة نظريته بتفوق "الآريين". كانت بمثابة منصة ذهبية لنشر البروباغندا النازية بلا حسيب ولا رقيب. ورغم أنه بدأ سياساته المعادية للسامية قبل موعد انطلاق الألعاب الأولمبية بعامين على الأقل، رفضت اللجنة الدولية سحب شرف تنظيم الدورة الأولمبية من برلين، ولم تنجح حملات المقاطعة المترددة في سحب البساط من تحت أقدام النازيين.
ولقد دعت ألمانيا النازية حينها، رئيس اللجنة الأولمبية الأمريكية لمعاينة المرافق الرياضية ومشاهدة كيف يعامل الرياضيين اليهود عام 1936، فعاد من هناك راضٍ بما شاهده من معاملة عادلة لليهود، على حد تعبيره.
ولتأمين وصول الدعاية النازية وانتشارها، تم نقل الدورة الأولمبية على الهواء مباشرة للمرة الأولى في التاريخ، ولقد نشرت السلطات الألمانية 25 شاشة عملاقة في مسارح مختلفة بمدينة برلين سمحت للناس بمتابعة الألعاب دون دفع أي مبلغ مالي، إضافة لبعض الشاشات الخاصة، وتم نقل وقائع 70 ساعة من أحداث الدورة.
وعلقت أعلام عملاقة تحمل شعاري الصليب المعكوف والحلقات الأولمبية، وسمعت صيحات الشبيبة النازية تحيي الشعلة الأولمبية وهي ترتدي زياً واحداً، ويرافق أفرادها الوفود!
حصدت ألمانيا المركز الأول من حيث عدد الميداليات، بـ33 ذهبية و26 فضية و30 برونزية، ثم تلتها الولايات المتحدة ثم المجر. ما عزز من نظرية النازيين بتفوق العرق الآري على غيره من الأعراق.
أولمبياد الشيوعية
ومن النازية إلى السلطوية الصينية، فنُظمت الدورة الأولمبية عام 2008 بالعاصمة الصينية بكين ودورة الألعاب الشتوية بالمدينة ذاتها. اللجنة الدولية التي قال رؤساؤها المتعاقبين إن منح برلين حق تنظيم أولمبياد 1936 كان سقطة وخطأ ونقطة سوداء، أعادوا تكرار الخطأ ذاته مرة أخرى. فها هو النظام الشيوعي الصيني يرتكب إبادة جماعية ضد مسلمي الإيغور. وتم توثيق قيام حكومة بكين بالتعقيم القسري لإبادة الإيغور، بالإضافة إلى سجنهم وقتلهم وخطف أولادهم لدفعهم للتخلي عن دينهم، ثم يمنح حق الاستضافة.
ورغم ادعاء بعض المسؤولين أن منح الصين حق التنظيم سيدفعها إلى تحسين سياساتها في مجال حقوق الإنسان بشكل عام، وفيما يخص الإيغور بشكل خاص، فإن ذلك كان مجرد أوهام. إذ استثمر النظام الصيني المحفل الدولي الكبير ليغسل به سُمعته، ويقدم به صورة زائفة تخفي الفظاعات التي يرتكبها بحق مسلمي الإيغور ومعارضيه، أو من يعتبرهم "خطراً على الأمن القومي".
تطبيق اللجنة الأولمبية الدولية للمعايير المزدوجة
يُظهر تنفيذ اللجنة الأولمبية للوائحها مشهداً متناقضاً من الأفعال غير المتسقة. فحظر روسيا مؤخراً بسبب غزو أوكرانيا بجانب السماح لإسرائيل بالمشاركة يُعتبر مثالاً فجاً على ازدواجية المعايير.
وبينما يعاقب الرياضيين الروس بذنب حكومتهم، ترفض اللجنة الدولية اعتبار جرائم الحرب التي تقوم بها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني سبباً كافياً لاستبعادها من دورة الألعاب الأولمبية 2024 بالعاصمة الفرنسية باريس.
اليوم، تجد اللجنة الأولمبية الدولية نفسها، وهي المُكَلَّفة بالحفاظ على نقاء الرياضة، متورطة في مؤامرات سياسية تحيكها الولايات المتحدة وحلفاؤها، وجزءاً من أجندات سياسية تخدم أطرافاً دولية على حساب أخرى. أما فشلها في تطبيق اللوائح بشكل موحد واستجابتها للضغوط السياسية فيقوّض أساس العدالة والمساواة التي تدعي تطبيقهما.
في هذا الإطار، يكشف بعض المحللين الرياضيين أن "طوفان الأقصى" أوقع اللجنة الأولمبية الدولية التي تدّعي الحياد والاستقلالية في شر أعمالها، وأسقط عنها ورقة التوت التي تستر عورتها، فها هي اليوم ترفض النظر في الجرائم التي ترتكبها إسرائيل، ناهيك عن معاقبتها. رغم أن الكيان صاحب الـ75 عاماً يرتكب في أقل من شهرين ما لم ترتكبه روسيا في أكثر من عام!