فاض العقد الماضي بقضايا وفضائح رياضية، كان بطلها الأوحد الجهة المنوط بها محاربة الفساد الرياضي وضمان نزاهة اللعبة الأكثر شعبية بالعالم؛ "فيفا" الهيئة الدولية الحاكمة لكرة القدم.
سلسلة من الفضائح المالية أثارت عاصفة من الجدل حول جدارة "فيفا" بالتحكم في كرة القدم التي باتت صناعة يتجاوز حجمها 3.5 مليار دولار، وتولد إيرادات حجمها 28 مليار دولار.
قبل عقد من يومنا هذا، كان الأمر مجرد تكهنات أو شكوك ومزاعم من صحفيين وباحثين، لكنه اليوم حقيقة بحكم القانون؛ إذ تمت إدانة عدة مسؤولين رفيعي المستوى في "فيفا" بتهم الفساد والرشوة.
قضايا أخرى، لن تحكم فيها محكمة ولن يترافع لأجلها محامون، لكنها ستبقى خنجراً في خاصرة "فيفا" وادعاءاته الحياد والنزاهة، الحديث هنا عن كرة القدم الفلسطينية التي يغتالها الاحتلال الإسرائيلي كل يوم، وفي كل لحظة، دون أن يحرك القاطنون في المجمع الدولي الفخم بزيورخ ساكناً.
"للاستفادة من الحياد السويسري"، هكذا علل الاتحاد الدولي لكرة القدم نقل مقره إلى سويسرا في أعقاب أول بطولة كأس عالم عام 1932. لكن لا يبدو للجماهير العربية أن الهيئة المتحكمة في كرة القدم تقف على الحياد، بل على الجانب الخطأ من التاريخ كما يقول البعض.
في هذا التقرير نسلط الضوء على أبرز القضايا والفضائح والانحيازات الفجّة التي هزّت عرش "فيفا".
فيفا غيت
هي الفضيحة التي خرجت للنور في مايو/أيار 2015، عندما ألقت قوات سويسرية القبض على 7 مسؤولين دوليين في أحد فنادق زيورخ الفخمة، بطلب من وزارة العدل الأمريكية التي كانت تتقصى وتحقق سرياً في تهم بالابتزاز والاحتيال وغسيل الأموال وتقديم الرشا وقبولها. من ضمن المقبوض عليهم عضوا اللجنة التنفيذية في "فيفا"؛ جيفري ويب من جزر الكايمان، وأوجينيو فيغويريدو من أوروغواي.
كشف التحقيق عن شبكة معقدة من الفساد، نسجت من خلال تبادل الرشا والعمولات من الصفقات التجارية المرتبطة بالهيئة الحاكمة لكرة القدم.
كما تم توجيه تهم إلى 14 شخصاً، 9 منهم كانوا مسؤولين في "فيفا" في حينها أو في السابق، تهم متعلقة بالفساد وغسيل الأموال بقيمة 150 مليون دولار في الفترة الزمنية بين 1990 و2015. تمحورت الفضيحة التي عرفت باسم "فيفا غيت"، حول عمليات تقديم الرشا والابتزاز التي قادها ثلة من مسؤولي كرة القدم في أمريكا الجنوبية وأمريكا الوسطى، مقابل منح حقوق البث التلفزيوني للمسابقات. وزجت الفضيحة بكلٍ من الرئيس السابق لاتحاد أمريكا الجنوبية لكرة القدم "كومينبول" الباراغوياني خوان أنخل نابوت، والرئيس السابق للاتحاد البرازيلي جوزيه ماريا مارين، في السجن.
كما أسدلت تلك الفضيحة الستار على حقبة حكم السويسري جوزيف بلاتر كرئيس للفيفا، والتي امتدت منذ عام 1998 وحتى 2015، وخلفه مواطنه جاني إنفانتينو.
فضيحة تذاكر كأس العالم
في عام 2006، أُجبر جيروم فالك على الاستقالة من منصبه مديراً للتسويق في "فيفا" بعدما حكمت عليه محكمة أمريكية بالكذب، بعدما تفاوض بصفته الرسمية مع شركة "فيزا"، خارقاً بذلك عقد "فيفا" آنذاك مع "ماستر كارد". وغرم "فيفا" 90 مليون دولار بسبب القضية.
لكن تلك الاستقالة لم تكن سوى تمهيد لترقية سيحصل عليها فالك في عام 2007 من جوزيف بلاتر، وسيصبح الأمين العام للهيئة الكروية.
بعد تلك الحادثة بـ9 سنوات، سيعلن الاتحاد الدولي لكرة القدم إيقاف أمينه العام السابق لمدة 12 عاماً بسبب "سوء السلوك". وما المقصود من "سوء السلوك" ذلك إلا بيع تذاكر مونديال 2014 بالسوق السوداء، والتنقل والسفر والاستجمام على حساب فيفا.
نشاط عائلي!
كرئيس لاتحاد الكونكاكاف منذ الثمانينات، بزغ نجم جاك وارنر في حقبة رئاسة جواو هافيلانغ، ثم أطلق سيب بلاتر له العنان خلال حقبته. بلغ نشاط وارنر "المشبوه" ذروته عندما تأهلت بلاده "ترينداد وتوباغو" إلى كأس العالم 2006.
فاحتكرت وكالة مملوكة لعائلته حقوق بيع التذاكر المخصصة للجماهير التريندادية، وأظهرت تحقيقات أن عائلته جنت من تلك العملية أكثر من 900 ألف دولار.
فتح "فيفا" تحقيقاً في الأمر، لكنه ألقى باللوم على أحد أبناء وارنر ولم يدنه بأية تهمة، ولم يوقع عليه أية عقوبة.
وقرر أنه ليس له أي سلطة عليه. واكتفى الفيفا بالتعبير عن "رفضه" لوارنر في القضية.
واستقال وارنر من منصبه في الفيفا في عام 2011. وكان رئيساً للاتحاد الكاريبي وأمريكا الشمالية والوسطى لكرة القدم (كونكاكاف). وفي تحقيق داخلي فتح في أعقاب فضيحة "فيفا غيت" قالت لجنة الأخلاقيات بالاتحاد الدولي لكرة القدم إن "وارنر ارتكب أفعالاً سيئة عديدة ومتنوعة بصورة متكررة ومستمرة". وقررت إيقافه عن ممارسة أية أنشطة تتعلق بكرة القدم مدى الحياة.
هكذا تسير، تذاكر مباريات كأس العالم، هي "عملة الفيفا" لكسب دعم أو استمالة المسؤولين.
مونديالا 1978 و1986
استضافت الأرجنتين نسخة كأس العالم 1978 وفازت حينها بلقبها المونديالي الأول، لكن تلك البطولة أثارت زوبعة من الجدل وعلامات الاستفهام حولها. إذ ثارت شكوك حول دور أمريكي خطط ورسم ملامح بطل المونديال. استضافت الأرجنتين البطولة وشعبها يغلي جراء الأوضاع الاقتصادية والسياسية المتدنية تحت حكم الجنرال خورخي رافاييل فيديلا، الذي دعمته بقوة الولايات المتحدة عسكرياً وسياسياً بعدما أطاح بالنظام اليساري المنتخب.
ووقف "فيفا" موقف المتفرج بينما تقام معسكرات اعتقال يعذب فيها المعارضون السياسيون لنظام فيديلا بجوار الملاعب التي احتضنت مباريات البطولة.
مرة أخرى، أثير جدل ضخم حول عملية اختيار الدولة المستضيفة لنسخة كأس العالم 1986. الولايات المتحدة كانت المرشح الأبرز لاستضافة البطولة بعد سحب حق التنظيم من كولومبيا.
لكن رئيس "فيفا" آنذاك، جواو هافيلانغ، منح حق التنظيم للمكسيك التي ضربها زلزال مدمر عام 1985، أودى بحياة أكثر من 20 ألف إنسان، وهي من استضافت نسخة مونديال 1970. لكن هافيلانغ كان له رأي آخر، أو ربما مصلحة أخرى، فحسب كتاب "تاريخ كأس العالم (1930-2020)" للكاتب كليمونت ليسي، فإن هافيلانغ كان صديقاً مقرباً لكلٍ من إميليو أزكاراجا وغليرمو كانيدو، وكلاهما من أقطاب الإعلام والرياضة والمال في أمريكا الشمالية.
ازدواجية معايير فجة
في عام 2017، رفض الاتحاد الدولي لكرة القدم فرض عقوبات على الاتحاد الإسرائيلي لكرة القدم أو حتى دعوة الأخير إلى التوقف عن بناء ملاعب وأندية إسرائيلية في المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية في الضفة الغربية، كما رفض إيقاف تلك الأندية عن مزاولة الأنشطة الكروية. على الرغم من أنه قد تم منع الأندية في شبه جزيرة القرم من المشاركة في الدوري الروسي بعد أن استولت روسيا على المنطقة.
أيضاً، كان "فيفا" من بين المنظمات الرياضية الأولى التي اتخذت إجراءات قوية وصلت إلى تجميد النشاط الكروي، ضد جنوب أفريقيا بسبب سياسة الفصل العنصري. بحسب عدة تقارير صادرة عن منظمات حقوقية دولية، بما فيها الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية ومنظمة "هيومن رايتس ووتش"، فإن إسرائيل تمارس الفصل العنصري في الأراضي الفلسطينية المحتلة. تشير التقارير إلى أن إسرائيل تفرض نظاماً من القمع والهيمنة ضد الفلسطينيين في جميع المناطق الخاضعة لسيطرتها، من أجل مصلحة اليهود الإسرائيليين.
ضحايا الفصل العنصري في الماضي أنفسهم، يرون إسرائيل دولة فصل عنصري، إذ اعتمدت أعلى هيئة لصنع القرار في الكنيسة الأنجليكانية في جنوب أفريقيا قراراً بإعلان إسرائيل دولة فصل عنصري. ورغم ذلك لا يعامل فيفا إسرائيل على ذلك الأساس.
هل لتاريخ معاونة "فيفا" إسرائيل في سرقة فلسطين دخل في ذلك؟
سرقة منتخب فلسطين!
في عام 1928، أدركت الحركة الصهيونية الدور المهم الذي تلعبه كرة القدم في الشعوب، وذلك قبل بداية كأس العالم بعامين، وقررت تأسيس "الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم". حمل الاتحاد اسم فلسطين فقط، إذ كان يتألف من اليهود المهاجرين حصراً، وهم آنذاك قلة في أرض فلسطين. في عام 1929، أصبح الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، الذي أسسه اليهود، معترفاً به رسمياً من قبل الاتحاد الدولي لكرة القدم، وذلك بعد أن منحوا العرب تمثيلاً رمزياً للاعتراف باتحادهم، كما يروي الكاتب يوسف حمدي في بحثه الشيق "تآمر ونكبة قبل النكبة.. كيف مهّدت كرة القدم لاحتلال فلسطين؟".
لم يحضر منتخب فلسطين "اليهودي" النسخة الأولى لكأس العالم في 1930، لكنَّه حضر نسختي كأس العالم الثانية والثالثة في 1934و1938. وفي المونديالين نفسيهما ظهر المنتخب الفلسطيني ليُغني النشيد الوطني اليهودي في كأس العالم، "هتكفاه"، الذي تحول بعد سنوات إلى النشيد الوطني لدولة الاحتلال الإسرائيلي.
حاول العرب والفلسطينيون كثيراً نزع الاعتراف من ذلك المنتخب المزور لكن لم يجد آذاناً مصغية عند "فيفا" الذي استمر في دعمه للاتحاد الإسرائيلي، ولم يمنح فلسطين اعترافاً باتحادها حتى وقعت اتفاقية أوسلو.