ليفربول، تلك المدينة الواقعة في منتصف تاريخ إنجلترا، وشمال غرب أراضيها، عُرفت بمينائها وإرثها البحري، وفريقها الأحمر، نقاباتها العمالية العتيدة، لا تزال إحدى البقاع النادرة التي تحمل في طينتها بذور اليسار القديم المعادي للإمبريالية وسحق العدالة بـ"الإف -16″، وطغيان المادة على منتجيها.
يستقصي هذا المقال الروافد التاريخية والاقتصادية والثقافية التي روت بذرة اليسار في ليفربول حتى أزهرت، وكيف ترجم هذا الموقف اليساري إلى تضامن مع الفلسطينيين وحقوقهم التاريخية.
منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، خرجت عدة مسيرات في إنجلترا، وتحديداً في مدينة ليفربول، تطالب بإيقاف الحرب وفك الحصار المضروب على القطاع منذ أكثر من 16 عاماً. تم ذلك في وقت تدق فيه السلطات ووسائل الإعلام الغربية طبول الحرب على قطاع غزة، أو للدقة، باتوا أوركسترا تعزف ألحان الفناء لشعبٍ يقاوم الحصار والقنابل، شعب بات عزرائيل صديقه الحميم.
ليفربول الميناء
تعود جذور اليسار في ليفربول إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، عندما كانت المدينة مركزاً للنشاط الصناعي، يتصدره قطاع الشحن البحري والتصنيع. ظروف العمل القاسية في هذه الصناعات، جنباً إلى جنب مع التحديات الاجتماعية واجهت السكان العاملين، أدت إلى ظهور حركات يسارية تنادي بحقوق العمال وتحسين ظروف المعيشة. هذه الحركة التاريخية للعمل وضعت الأسس لتأثير اليسار في المدينة.
ومع انهيار أهمية ليفربول الاقتصادية، بعد حفر قناة مانشستر الملاحية، ازداد النفوذ اليساري بعد فقدان كثير من أهل المدينة وظائفهم، فأضحت العدالة الاقتصادية والبطالة والفقر قضايا مركزية بالنسبة لأهل ليفربول، وفي القلب منهم الحركات اليسارية.
أصدقاء فلسطين في ليفربول
التنوع الثقافي، ذلك المصطلح الذي بات أكليشيه يبعث على الرتابة والكآبة، كان حقيقة واقعة في المدينة. ميناؤها كان ملتقى للأجناس والأعراق والديانات المختلفة، ما خلق مناخاً من التسامح والتضامن ما كان لينمو في مدنٍ أخرى مثل مانشستر على سبيل المثال. تلك الروح المنفتحة على الآخرين، المكترثة لأحوالهم وقضاياهم تسربت من الميناء إلى وسط المدينة في تدافع اجتماعي، وباتت مع الوقت طابعاً مميزاً للمدينة، ورافداً من روافد اليسار هناك.
النشاط على مستوى الجذور المجتمعية، أي نشر الأفكار عبر الأفراد، أو الـ"GrassRoots"، كما يطلق عليه بالإنجليزية، هو سمة بارزة للحركة اليسارية في ليفربول. تتمتع المنظمات الأهلية ونقابات العمل بحضور قوي بالمدينة، بما في ذلك حركة "مقاطعة إسرائيل". تقوم أغلب تلك المنظمات والنقابات بالتنسيق والتعاون مع حزب العمل، حزب اليسار التقليدي بالمملكة المتحدة، صاحب الشعبية الكبيرة في ليفربول، يتعاونون للدفاع عن قضايا العدالة الاجتماعية، بما في ذلك التضامن مع الشعوب المضطهدة.
المؤسسات الأكاديمية في ليفربول أيضاً تلعب دوراً حاسماً في تشكيل الفكر اليساري وزرعه في المدينة؛ حيث توفر الجامعات والمراكز الثقافية المساحة الفكرية والمادية اللازمة لاستكشاف القضايا العالمية ومواضيع العدالة الاجتماعية، ما يزيد من الوعي والدعم لقضايا الشعوب المضطهدة.
لذا، أسفر وجود اليسار في ليفربول عن موقف قوي من التضامن مع الفلسطينيين. يتجلى هذا الموقف من خلال أنشطة متنوعة، تنظم مجموعات مثل "أصدقاء فلسطين في ليفربول" فعاليات واحتجاجات وحملات لرفع الوعي وإظهار الدعم لقضية الشعب الفلسطيني. كما دعم ممثلو حزب العمل في ليفربول باستمرار سياسات داعمة للفلسطينيين (تأخر ذلك مؤخراً كما سنوضح)، وتبني مقاربة سياسية متوازنة في حل الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، بعيداً عن غطرسة الإدارة الأمريكية ومن دار في فلكها. على سبيل المثال، في عام 2018، رفع مندوبو الحزب الأعلام الفلسطينية في مؤتمر الحزب.
أيضاً، حملة التضامن مع فلسطين (PSC) هي منظمة مقرها المملكة المتحدة تسعى لصون واسترداد حقوق الفلسطينيين، ولديها قاعدة قوية في ليفربول، حيث استضافت المدينة العديد من الفعاليات المنظمة من قِبل الحملة. رعى حزب العمل مؤتمر الحملة وشاركت القاعدة الحزبية فيه، ولكن بعد إدخال تعديل على دليل المؤتمر بحذف المطالبة بـ"إنهاء نظام الفصل العنصري" بعدما باتت إسرائيل دولة فصل عنصري بتقرير الكثير من المنظمات الحقوقية الدولية.
كما أشرتُ تغيَّر موقف الحزب مؤخراً، حيث دافع الزعيم الحالي كير ستارمر عن حق إسرائيل في الرد على قطاع غزة، ولم يكترث أو يُعِر انتباهاً كبيراً للأطفال والنساء الذين يسقطون ضحايا القصف الإسرائيلي الدموي. وقد تسبب ذلك في جدل وحملة استقالات داخل الحزب، حيث اتهم بعض الأعضاء القيادة بالتخلي عن دعم الحزب التقليدي لفلسطين.
التزام تاريخي
في الختام، أنشأ وجود اليسار في ليفربول موقفاً قوياً مع الفلسطينيين والشعوب المضطهدة الأخرى في مجتمع المدينة. تقليد المدينة الطويل في مجال النقابات النقابية والنشاط السياسي اليساري قد أسس ثقافة من التضامن والمقاومة تنعكس في دعمها لفلسطين. بينما تغيَّر موقف حزب العمل من فلسطين في السنوات الأخيرة، فإن حركة اليسار في المدينة تظل ملتزمة بالنضال من أجل تحرير الشعب الفلسطيني.