النجوم يولدون من رحم المعاناة
كان على الطفل الصغير ليلتها أن يسكت ويمحو من ذاكرته ما شاهده للتو؛ رأى كيف سقط الجد الأكبر لوكا مودريتش قتيلاً؛ لأنه تخطى ما لا يجوز تخطيه، رأى الميليشيات الصربية تتقدم نحو جده، الذي كان راعياً، وطلبوا منه أن يعود من الأرض التي دخلها سهواً، لكن قبل أن يتردد، وجدوا فيه فريسة سهلة للتسلية، بعد ما عاشوه من ملل في رعاية الأرض، وتقدم الجد لوكا مودريتش بخطوات ثابتة، ثم سُمع صوت الرصاص في كل مكان، لقد حدث الإعدام الترفيهي في دقائق معدودة.
منذ ذلك اليوم، أصبحت أسرة مودريتش مُشردة، تهرب من حرب البلقان إلى اللجوء بين الدول، ويعيش الصبي الصغير هذه المشاهد المُرعبة، حتى مع أقرب صديق يعرفه؛ حين كانا يسيران للعب كرة القدم، ثم يسمع صوت الرصاص والقنابل، ويحاول الاختباء إلى أن ينتهي هذا الصوت المخيف.
ومع الوقت، وصل لوكا مودريتش إلى دائرة كرة القدم، بعد أن عايش الرفض كثيراً بسبب قصر القامة ونحافته التي منعت معظم الفرق من التفكير في أمره، وبعد أن تسلَّم أول راتب في حياته من مهنة كرة القدم، قرر أن يمنح والديه المبلغ لشراء منزل جديد، منزل بدل الذي غادروه مضطرين، ومنزل يؤويهم من اللجوء بين الفنادق والمخيمات.
في دينامو زغرب، شعر لوكا مودريتش للمرة الأولى أن كرة القدم هي السبيل الوحيد للنجاة من كل ما عاشه، وكان يعود لمنزله ليلاً أو قرب الفجر، بعد التدريبات والمباريات التي يخوضها مع فريقه، لكنه كان سرعان ما يتناول وجبة العشاء، ثم يجلس ليُشاهد التدريبات والمباريات التي لعبها؛ ليقف على حقيقة ما قدمه، ويُحدد أفضل طريقة لتطويره.
ريال مدريد بداية التألق
كان لوكا مودريتش لاعباً معروفاً في إنجلترا، حينما كان لاعباً في صفوف توتنهام، لكنه لم يكن بهذا القدر من القوة والأهمية، لم يكن لاعباً يمكن المراهنة عليه ليُصبح أفضل لاعب في فريق بحجم ريال مدريد وبرشلونة، وفي أغسطس من عام 2012، أعلن ريال مدريد وصول اللاعب الكرواتي لوكا مودريتش من صفوف توتنهام بصفقة قدرها 30 مليون يورو، وهي صفقة لم تحصد نفس الحشد الجماهيري، من الصفقات التي أجراها ريال مدريد في الفترة نفسها وما قبلها، من الصفقات التي بذل فيها ريال مدريد مجهوداً إدارياً وإعلامياً أكبر، وكانت صفقة وصول مودريتش لريال مدريد صفقة جيدة، حيث سيجلس على مقاعد البدلاء لتعويض أي لاعب أساسي من: سامي خضيرة، تشابي ألونسو، مسعود أوزيل وأنخيل دي ماريا، وكان لوكا مودريتش في أول موسم يحل بديلاً، ثم سجل هدفه الشهير في مباراة مانشستر يونايتد في ثمن نهائي دوري أبطال أوروبا موسم 2012/2013، من هنا بدأ لوكا مودريتش يفرض نفسه أكثر وأكثر على ريال مدريد.
وظهر لوكا مودريتش في ثوب البطل، في تلك الليلة التي قدم فيها تمريرة حاسمة للقائد سيرجيو راموس، في ملعب النور، حين تُوج ريال مدريد بلقب العاشرة من دوري أبطال أوروبا، وأصبح مودريتش هو الرجل الذي يتسبب في لحظات تاريخية لريال مدريد؛ واختتمها بالبطولة التاريخية التي قدمها السنة الماضية، بركضه من وسط ملعب ريال مدريد إلى منطقة جزاء باريس سان جيرمان، ثم صناعة هدف رودريغو جوياس أمام تشيلسي في ربع نهائي المسابقة، بعد أن كان ريال مدريد قد قاب قوسين أو أدنى من مغادرة البطولة.
وعلى عكس كل ما يحدث تاريخياً ومؤخراً، من أساطير ونجوم كرة القدم، الذين يُفضلون الرحيل عن أوروبا لقارة آسيا أو أمريكا الشمالية، قرر لوكا مودريتش أن يُغادر لعبة كرة القدم في صخب، وفي أضواء، بعد ما عانى الأمرَّين حتى يصل إليها، وكما وصل ريال مدريد في صمت وبلا اهتمام إعلامي وجماهيري؛ سيرحل عنه محمولاً على الأعناق وسيتحدث العالم كله عن حدث رحيله!
معضلة الثلاثينيات
في أوروبا، وعلى لسان أرسين فينغر والسير أليكس فيرغسون، كان من الصعب الاعتماد على اللاعب الذي تخطى الثلاثين من عمره، مهما كانت قيمته واسمه، فكان يتم تجديد عقده لموسم واحد، حتى يصل إلى مرحلة يُقرر خلالها النادي إذا ما كان سيعتمد عليه فيما بعد أم يُبلغه بضرورة الرحيل.
كانت فكرة وصول أمثال مودريتش للأربعين داخل قارة أوروبا، فكرة أقرب للمستحيلة، لكن تحت قيادة البروفيسور فلاتكو فوتشيتش، الأستاذ الجامعي في علوم الحركة في جامعة زغرب، الرجل الذي تدرب على يده نجوم من مختلف الرياضات مثل: كرة التنس، وكرة القدم، قرر فلاتكو فوتشيتش أن يصل بمودريتش إلى ما عجز عنه أقرانه.
فوتشيتش قال إن في الماضي كان من الصعب على اللاعبين أن يصلوا إلى عمر كبير في منافسات قوية، وبسبب تطور العلم والتكنولوجيا، بات من الممكن أن يصل اللاعب إلى الأربعين في منافسات قوية.
بعد أن كانت الجداول التدريبية والأنظمة الغذائية تُمنح كل شهر، أصبح من السهل منحها خلال الأسبوع الواحد، بل وربما بشكل يومي، وهو ما جعل مودريتش يُتابع مع فلاتكو فوتشيتش كل شيء يحدث في يومه، وبصورة منتظمة: ماذا يأكل؟ كيف يبدأ يومه؟ ماذا يفعل في فترات الراحة؟ كيف يتدرب؟ هل تدريباته تستهدف تطوير كتلته العضلية أم يُجريها مثلما يفعل البقية؟
ويطلب فوتشيتش من لوكا مودريتش، أن يُمارس أي رياضة بعيدة عن كرة القدم؛ ليستفيد منها في ميدان كرة القدم، مثل: الجري، السباحة والتجديف، ممارسة رياضة التنس.
لكن فوتشيتش كرواتياً، ومودريتش عادةً يقضي أغلب فترات السنة في العاصمة الإسبانية مدريد.. فكيف يتواصل معه؟
فوتشيتش، يستخدم تطبيق الواتساب للتواصل مع لوكا مودريتش، وكل يوم يُرسل إليه التدريبات التي يُريده أن يُمارسها، وكيفية ممارستها، ووقت كل تمرين وعدد دوراته، ثم يُغير الأسلوب في اليوم التالي، ثم يطلب منه أن يبدأ تدريبات استعدادية للتدريبات التي تسبق تدريبات ريال مدريد؛ باستخدام حبل المقاومة، حبل المقاومة الذي قال عنه فوتشيتش إنه يُسبب مرونة كبيرة في الجسم، ويمكن لطفل صغير أو رجل عجوز، أو رياضي محترف استخدامه إذا أراد أن يمتلك جسداً مرناً.
وأصبح فوتشيتش رقيباً على حياة مودريتش، حتى قبل المباريات المهمة لريال مدريد، يتدرب مودريتش مع الفريق في تدريباته العادية، وقد يصل قبل التدريبات بساعة أو ساعة ونصف ليتدرب استعداداً للمباراة والتدريبات، ثم ينفرد بنفسه لتنشيط دورته الدموية عبر حبل مقاومة يستخدمه لشد عضلاته؛ وهو ما يجعله قادراً على الجري لمدة تصل إلى تسعين دقيقة، وإذا وصلت المباراة للأشواط الإضافية فإن مودريتش سيكون حاضراً خلالها بصورة طبيعية.
وقال فوتشيتش إن أسرة مودريتش منحته أهم ما يحتاجه أي رياضي في العالم؛ الراحة، زوجته التي خففت عنه التوتر والقلق الذي يتعرض له أي لاعب كرة قدم، ورتبت مناخاً يمكن من خلاله للاعب أن يجد سبيلاً للتفكير بهدوء في نمط حياته، ويمكن من خلاله أن يُفرغ رأسه من ضغط الشهرة.
وعلى حساب فوتشيتش يمكن أن نرى كيف يتدرب على يده لوكا مودريتش
أما عن النظام الغذائي للوكا مودريتش، فالنجم الكرواتي يمتلك طاهياً شخصياً، يُقدم له وجبات بناءً على ما يُحدد فوتشيتش، ويعتمد مودريتش في الغالبية العظمى من يومه على البروتين؛ البروتين في كل وجبات اليوم، حتى العصائر التي تحتوي على نسبة عالية من البروتين، ويعتمد في وجبات الإفطار عادةً على البيض، وتوست الأفوكادو، وفي وجبة الغداء يتناول مودريتش مصادر بروتينية مثل: الدجاج المشوي مع الخضراوات والأرز، وفي العشاء يتناول مصادر بروتينية مثل: السمك، مع السلطة، وبين كل وجبة ووجبة يتناول مودريتش ثمرة من الفاكهة.
يُحب كرواتيا لأسباب شخصية
حقق لوكا مودريتش جائزة أفضل لاعب في كأس العالم عام 2018 في روسيا، وفاز في نفس العام بجائزة أفضل لاعب في قارة أوروبا، وتُوج بعدها بجائزة الكرة الذهبية كأفضل لاعب في العالم.
لكن ما فعله لوكا مودريتش لكرواتيا كان لأسباب شخصية؛ هي تلك التي دفعته للانتقام لجده الذي أُعدم دون رحمة، أو لأسرته التي عاشت لسنوات في شتات وبُعد عن الوطن، وقالوا إن مودريتش في صغره حاول أن يُغير كثيراً من الصور النمطية بخصوص جسده وطوله.
وقالوا إن مودريتش تعرض لاحتيال في بداية مسيرته، من رجل أعمال كرواتي عرض على الشباب أن يبيعوا حصصهم المستقبلية في الانتقالات مقابل أن يُخرجهم من كرواتيا، واتهموا لوكا مودريتش بأنه كان أحد أولئك الشباب.
وفجأة، وتحديداً في روسيا عام 2018، تحول منتخب كرواتيا إلى منتخب يصل إلى المباراة النهائية في بطولة كأس العالم دون أية خسارة تُذكر، ويخسر المباراة النهائية أمام فرنسا في إنجاز لن يتكرر.
وعاد نفس المنتخب، ليُكرر ما فعله في كأس العالم قطر 2022، ويصل إلى نصف النهائي، هذا كله ولوكا هو القائد والأفضل من بينهم، وقال عنه زلاتكو داليتش، مدرب المنتخب الكرواتي، إن وجود مودريتش في غرفة الملابس يمنع من حدوث المشكلات.
وقال داليتش إن مودريتش يُمثل لكرواتيا دوراً رئاسياً في الملعب وخارجه، ويُحبه الشعب والمنتخب، ويستمعون لما يقوله كأنه يتولى زمام القيادة الفنية، وقال داليتش إن كل ما وصلت إليه كرواتيا ما كانت لتصل إليه لولا تواجد لاعب مثل لوكا مودريتش.
لكن الأكيد، أن الرجل الذي حقق الكرة الذهبية، وكان سبباً رئيسياً في سطوة ريال مدريد القارية على أوروبا منذ وصوله، وتربع بلده على عرش المسابقة الأغلى في كرة القدم؛ بطولة كأس العالم، هو رجل اجتهد لكي يبقى اسمه محفوراً في أذهان كل من أحب الكرة وكل من شاهده يلعب، وكل من أراد لمودريتش أن يعتزل في الأضواء، وليس كما وصلها في خفية دون أن يعرفه أحد.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.