تمتلك فريقين في سباقات الفورمولا 1، ناديين في لعبة هوكي الجليد، ترعى لاعبي كريكيت، سباقات رالي السيارات وجولة الكرة الطائرة العالمية.. إنها الشركة المسؤولة عن تزويدنا بالأجنحة، عملاق مشروبات الطاقة؛ "ريد بول" النمساوية.
إذاً، لا حق لمشجعي ومتابعي كرة القدم، على الإطلاق، في المفاجأة، وادعاء الصدمة عندما أعلنت "ريد بول" اقتحامها عالم كرة القدم. الشركة معروف عنها منذ سنوات اهتمامها برعاية الرياضات المختلفة وتسويق نفسها من خلالها. لذا كان من المتوقع أن تضخ استثمارها في اللعبة الأكثر شعبية حول العالم، بل يمكن القول إن الشركة تأخرت في دخول صناعة كرة القدم لسنوات طويلة.
لكنّ هناك سبباً للتفاجؤ والقلق غير دخولها عالم الكرة من الأساس.
في الرياضات الأخرى، الدافع الرئيسي وراء استثمار شركة "ريد بول" هو التسويق والدعاية للشركة، رفع الوعي، وخلق صورة معينة عند المستهلكين عنها عن طريق فرق ولاعبين وبطولات ومشاهير تقترن صورتهم بالمشروب المنتشر في 200 دولة حول العالم.
لكن في كرة القدم، فالشركة النمساوية تسعى لجني أرباح من كرة القدم في المقام الأول، أما التسويق والدعاية فليست الأولوية.
"ريد بول" لا تقوم بشراء أندية ولا توظف أفضل المدربين، بل تقوم ببناء مصانع لإنتاج نجوم المستقبل، الـWunderkids كما يسميهم "محنّكو" كرة القدم.
في نموذج "ريد بول" الكروي، المنتجات ليست "ريد بول" بطعم الخوخ أو الأناناس، بل جوشوا كيميتش، إيرلنج هالاند، ساديو ماني، كريم أديمي، وأخيراً نكونكو. لاعبون من طراز عالمي مروا على أندية مملوكة للشركة في لحظة من لحظات مسيرتهم الكروية.
البداية: إف سي ريد بول سالزبورغ
على بعد 24 كيلومتراً من مقر الشركة الرئيسي، قررت شركة "ريد بول" شراء نادي "إس في أوستريا سالزبورغ". نادٍ لكرة القدم، يقبع في منتصف الجدول، من سالزبورغ، أهم إنجازاته قربه من مقر الشركة. وفي الملعب، أهم إنجازاته ثلاثة ألقاب دوري في التسعينيات بين عامي 1994 و1997. بعد شراء إس في سالزبورغ تم إعادة تسميته إلى "إف سي ريد بول سالزبورغ". استثمار الشركة الأول، لم يكن في اللاعبين المحترفين القادرين على حصد البطولات ولا في المدربين العباقرة، ولكن استثمرت الشركة في جزئيتين مهملتين عادة: (1) البنية التحتية ومرافق النادي، (2) المواهب صغيرة السن.
دارت العجلة بسرعة لأسباب كثيرة أهمها غياب المنافسة وتخلف الأندية الأخرى. فحقق إف سي ريد بول سالزبورغ المركز الثاني في بطولة الدوري عام 2005-2006. وفي المجمل فاز ببطولة الدوري 12 مرة وبطولة الكأس 8 مرات.. شبه احتكار للمنافسات المحلية.
نجحت تجربة "ريد بول" سالزبورغ، وفاز النادي بالألقاب المحلية وشارك في دوري أبطال أوروبا، وأنتج النادي لاعبين أصبحوا من نجوم الكرة العالمية بعد ذلك. لكن الحقيقة أن سالزبورغ كان تجربة، "تيست" للسوق من طرف شركة "ريد بول"، إن نجحت ندخل المرحلة الثانية، وإن فشلت فالخسائر بسيطة. نجاح التجربة من موسمها الأول شجع الشركة على الدخول في التجربة الثانية.
إلى ماما أمريكا
في عام 2006، ركب مسؤولو شركة "ريد بول" الطائرة واتجهوا صوب الولايات المتحدة الأمريكية، وتحديداً مدينة نيويورك، واشتروا نادي "مترو ستارز"، نادي كرة قدم متوسطاً، سعره في المتناول، أقل من سعر كوتينيو أو عثمان ديمبيلي، 100 مليون دولار ثمن فريق، وغيرت شعاره وأعادت تسميته، وضخت استثمارات ضخمة في البنية التحتية للنادي وخاصة قطاع الناشئين وشبكة الكشف عن المواهب. نعم، بالضبط نفس ما فعلت الشركة في سالزبورغ.
لكن العقبة الكبرى التي واجهت النادي هي ندرة المواهب أو صعوبة الكشف عنهم أو العثور عليهم، لأن معظم المواهب غالباً لا تعرف أنها موهوبة، لأنها لا تلعب في أندية، لأن خوض اختبارات الناشئين في أمريكا مكلف جداً على الأطفال الفقراء الذين غالباً ما يكونون المهتمين بلعب كرة القدم. في خطوة ذكية، قررت الشركة عمل أول برنامج اختبارات مجاني في أمريكا. واللاعب الذي يتم ضمه يحصل على فرصة مغادرة فريق نيويورك لأحد أندية الشركة في أوروبا إذا ما أثبت نفسه. المثال الأشهر على نجاح البرنامج حتى الآن هو الأمريكي تايلور آدامز. آدامز مثله مثل معظم خريجي مدارس "ريد بول"؛ يجيد اللعب في أكثر من مركز، الباك اليمين، الجناح اليمين، والارتكاز. كلف تايلور النادي "صفر" دولار، وتم بيعه لنادي ليدز الإنجليزي مقابل 20 مليون دولار.
من المهم التأكيد على أن دخول "ريد بول" للدوري الأمريكي كان هدفه نشر منتجاتها في السوق الأمريكية أكثر، ولذلك عمد النادي إلى اجتذاب لاعبين "منتهين فنياً" لكن لهم جماهيرية ضخمة مثل تييري هنري. باختصار، في الرحلة إلى ماما أمريكا، كان الهدف هو رفع مبيعات الشركة بربطها بـ"براند" محلي مثل نادي المدينة، وخلق قاعدة واسعة من اللاعبين الناشئين وتصديرهم إلى أوروبا.
المحطة الأخيرة: لايبزيغ
رغم النجاح في النمسا وأمريكا، بقيت مشاريع "ريد بول" بعيدة عن أعين متابعي الكرة العالمية، لا أحد يتابع الدوري النمساوي، وأتحداك أن تخبرني بـ5 أندية من الدوري الأمريكي.
المهم، قررت الشركة رفع المستوى والاستثمار في دولة لها وزن كروي معتبر. وكان من البديهي بحكم اللغة والجغرافيا، أن تكون البوندسليغا هي الاختيار الأمثل.
بالفعل حاولت الشركة شراء أكثر من نادٍ مثل سانت باولي في مدينة هامبورغ، ميونيخ 1860، ونادي دوسلدورف، وفي كل مرة كان النادي يصطدم إما برفض إدارات الأندية من البداية أو احتجاجات المشجعين على بيع ناديهم أو "الاستثمار فيه"، لأن القوانين الألمانية تمنع بيع الأندية الجماهيرية بالكامل، يعني أن الجمعية العمومية المكونة من أعضاء النادي يجب أن تمتلك أكثر من 50% من النادي.
قانون (50% +1)
في عام 1998، أجرت رابطة الدوري الألماني لكرة القدم تصويتاً شاركت فيه أندية الدوري الألماني من مختلف الدرجات. وشمل التصويت كيفية إدارة الأندية، وإلى من تعود ملكيتها. وكان الإجماع في التصويت على أن يمتلك الجمهور 51% من القرار، وأنّ أي مستثمر يريد شراء النادي لا يستطيع اتخاذ القرارات منفرداً، فهو يحتاج إلى الجمهور الذي يملك القرار الرئيسي، ويمنع أي قرار لا يتماشى مع مصلحة الفريق (بالنسبة إلى الجمهور).
ونَص القرار أيضاً على أنّه في حال استثمار أحد الأشخاص في نادٍ ما، يمكنه التقدم بعرض لشراء النادي بالنسبة الأكبر، أي يستطيع اتخاذ القرارات، لكن بشرط أن يكون عضواً في النادي منذ 20 عاماً. ومع مرور الأعوام الـ20 يتمّ التصويت إن كان يستطيع امتلاك النادي أم لا.
ويربط هذا القانون الجماهير بأنديتها بصورة أكبر، ويجعلها جزءاً منه.
من أهم مميزات القانون المحافظة على اللعب المالي النظيف، والحد الأدنى من المنافسة بين الأندية. ومن وجهة نظر الجماهير، فإنّ هذا القانون هو أحد أهم أسباب انخفاض أسعار تذاكر حضور مباريات الدوري، وتعتبر أنّ الأندية ملكية وطنية للناس، وليست منشآت استثمارية.
صفقة الكراهية
لكن الداهية "ديتريش ماتشتيز" لم ييأس وقرر إيجاد حل للمعضلة، فقرر الابتعاد عن الأندية المعروفة نسبياً صاحبة الجماهيرية الواسعة، وراح للشرق الألماني، مدينة لايبزيغ أو ليبستك كما تنطق بالألمانية، ثاني أكبر مدن مقاطعة "ساكسونيا"، وعثر على نادٍ صغير اسمه "ماركان شتاتد" في دوري الدرجة الخامسة، وفي غضون أسابيع عقد معهم صفقة "قانونية"، يحصل بها على النادي ويديره مع الإبقاء على حق الجمعية العمومية في تقرير مصير النادي واتخاذ القرارات وخلافه. الصفقة كانت كالتالي:
- 99% من أسهم شركة النادي ملك شرك "ريد بول".
- 1% من أسهم شركة النادي ملك لأعضاء النادي.
- 49.99% من القوة التصويتية ملك لشركة "ريد بول".
- 50.01% من القوة التصويتية ملك لأعضاء النادي.
لكن حتى تلك الصفقة لم تكن مرضية لماتشتيز الذي قرر التحايل لضمان امتلاكه القوة التصويتية، فرفع اشتراك النادي أكثر من 10 أضعاف، ووصل لـ1000 يورو سنوياً تقريباً، فتوقف أعضاء النادي الأصليون عن الدفع وسقطت عضويتهم، وأمر 20 موظفاً بالشركة بالاشتراك بالنادي ودفع المبالغ المستحقة، وأصبح أعضاء النادي موظفين عند "ريد بول" ومالكها وتمت السيطرة بنجاح.
العقبة الثانية أمام شركة ريد بول كانت منع إطلاق أسماء المنتجات التجارية على الأندية الجماهيرية، يعني ممنوع تسمية النادي بنفس الطريقة التي تمت في أمريكا والنمسا. قرر ماتشتيز التحايل مرة أخرى، وسمى النادي RasenBallsport Leipzig (لايبزيغ لرياضة كرة العشب)، ليسمى اختصاراً بـRB Leipzig، وهو نفس اختصار اسم الشركة "RedBull".
لكسب رضا جماهير المدينة وبناء قاعدة جماهيرية تدر ربحاً على النادي، قامت "ريد بول" بتجديد ملعب النادي وأعادت تمسيته لـRedBull Arena، وخفّضت سعته من قرابة 100 ألف إلى 45 ألف مشاهد، مع تزويده بأعلى معايير الجودة في الملاعب الأوروبية، وتحوّل الملعب خلال أعوام قليلة إلى أحد أهم الملاعب في أوروبا، وأحد الملاعب الرئيسية لمنتخب ألمانيا.
صعود "لايبزيغ" السريع من دوري الدرجة الخامسة إلى دوري الدرجة الأولى خلال مدةٍ قصيرة، وتحايل الشركة على ما اعتبر مبادئ وقيم الكرة الألمانية، جعل كافة جماهير الأندية الألمانية الأخرى تصب جام غضبها على الفريق، ويُصبح "لايبزيغ" أكثر الأندية كرهاً في ألمانيا.
عندما كان "لايبزيغ" يلعب في دوري الدرجة الثانية، كان يُواجَه لاعبوه دائماً بصيحات استهجان ولافتاتٍ تُعلّق على أن الفريق لا يمتلك قيم الكرة الألمانية بقدر ما أن هدفه الربح المادي لشركة "ريد بول"، ووصل الأمر مع بعض الجماهير بتشبيه مالك النادي "ماتشتيز" بهتلر وجماهير الفريق بالنازيين.
كما أن جماهير الأندية الأخرى كانت ترفض الحضور في ملعب "لايبزيغ"، وكان بعضها يذهب ليُلقي برأس ثور (شعار شركة) على أرض الملعب تعبيراً عن امتعاضها وغضبها من سياسة النادي التي خالفت برأيهم قيم وتقاليد الكرة الألمانية.
لا يُمكن أيضاً إخفاء تأثير كون النادي يقع في ألمانيا الشرقية التي أعادها "لايبزيغ" للأضواء بعد أن كانت شبه مهمشةٍ على مستوى كرة القدم.
حيث لطالما كانت أغلب فرق دوري الدرجة الأولى من ألمانيا الغربية، وهو ما أثر ربما على مشاعر الجماهير والإعلام بشكلٍ عام لمهاجمة النادي وإدارته. حتى تم اعتبار النادي الأكثر كراهية في العالم في العديد من الاستفتاءات، وكتبت تحليلات سوسيولوجية وسياسية حول الموضوع.
بعيداً عن المشاعر
ولكن بعيداً عن موجة غضب الجماهير الأخرى، كانت إدارة النادي تسير بشكلٍ منظم ومدروس في تطوير النادي لضمان النجاح الذي حصدته في النمسا. وكالعادة بدأت بتطوير البنية التحتية وملاعب التدريب وأكاديمية الشباب للنادي، وجمعت فريق كشافة على أعلى مستوى.. لكن النقلة الكبرى في تاريخ النادي الجديد كانت تعيين فيلسوف كرة القدم، مدرب مانشستر يونايتد السابق، "رالف رانجنيك" مديراً رياضياً للمشروع الكروي للشركة في 2012، كان رانجنيك مسؤولاً عن سالزبورغ ولايبزيغ قبل أن يعتذر عن إدارة سالزبورغ.
كان هدف رانجنيك ومساعديه من البداية هو بناء هوية واضحة للنادي. هوية النادي تبدأ من اللوائح وفرض الانضباط وحتى طريقة اللعب داخل الملعب. فمنذ البداية وضع أسلوباً واضحاً تسير عليه كامل فرق مجموعة "ريد بول" بشكلٍ عام ولايبزيغ بشكلٍ خاص.
المدرب الألماني أنشأ شبكة كشافين ضخمة، في جميع أنحاء العالم، من أجل استقطاب المواهب، لكن ليس كل المواهب، فقط القادرة على مواكبة الأسلوب.