"ما هي كرة القدم؟ هي شيء من صراع التأويلات، ومسرح واقعي لتعديل موازين القوى، أو المحافظة عليها، لخلق مستوى آخر للواقع، أو تثبيته. هي شيء من لعبة إعادة تركيب العالم على أسس مختلفة، وعلى جدارة مختلفة. حرب عالمية يمارس فيها خيال الشعوب دوره الغائب أو الحاضر. لا أحد يتفرج على سباق الأجساد، والمهارة، والذكاء، المعبِّرة عن طبائع الأمم في الهجوم والدفاع، في العنف والرقص، في الفردية والجماعية".
الشاعر محمود درويش في وصف كرة القدم.
النص أعلاه للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، في إجابة لسؤاله عن وجهة نظره في لعبة كرة القدم، ولعلَّ الجمل السابقة التي كتبها درويش في وصف كرة القدم، هي من أبدع ما قاله الأدباء والشعراء عن كرة القدم، لأنها لا تنظر إلى كرة القدم كلعبة فحسب، وإنما تجربة متكاملة تُعبر عن البشر في جميع أحوالهم.
اخترنا المقدمة السابقة، لأننا ننوي الحديث عن برازيلي، يعتقد الكثيرون أنه واحد من أهم من لمسوا الكرة في تاريخها. وحين الحديث عن علاقة البرازيليين بالكرة، فلا أنسب من حكمة الأدباء، ووحي الشعراء للاستهلال به؛ لأن الكرة بالنسبة للبرازيليين، معبرة عن طبيعة الأمة، في الهجوم والدفاع، في الفردية والجماعية، كما وصفها درويش.
دعنا نخوض رحلة أحد هؤلاء، الذي صدقت فيه نبوءة درويش عن الكرة وأهلها. حديثنا عن فتى مشاغب، ولاعب فذ، وسياسيّ على يسار السلطة، يحمل هموم الفقراء والمهمشين، الذين نبع من بينهم، ويُدعى "روماريو".
إما أن تكون منقذاً أو تموت رفقة البقية
"في البرازيل، نحب فكرة المنقذ، فرد يمكن النظر إليه باحترام وتقدير. نحن نقدّر هذه الفكرة فوق الجهد الجماعي".
- الصحفي البرازيلي Globo Hugo Naidin في وصف البرازيليين.
هناك في البرازيل، حيث يقطن أكثر من 200 مليون نسمة، في ظروف اقتصادية طاحنة، يعتقد الجميع أن ثمة واحداً من بينهم منحه الله سحراً خاصاً في قدميه، سيستطيع أن ينتشلهم من مرارة الفقر والمرض؛ فيلعب الجميع كرة القدم، لا ليكونوا نجوماً ساطعين، بل لهدفٍ أسمى، وهو القدرة على مواصلة الحياة.
في عام 1966، في جاكاريزينيو، ثاني أكثر الأحياء العشوائية في مدينة ريو دي جانيرو، وُلد روماريو لأسرة فقيرة، بالكاد تكسب قوت يومها، ولا تعلم أي شيء عن المستقبل. في الحقيقة شيئان يحولان بين الناس وبين التفكير في مستقبلهم: الحرب، والفقر.
وما أكثر فقراء البرازيل؛ لذا قرر روماريو، أن لعبة " الفوروميلا ون " ستكون عصاه السحرية التي ستنقذه وأهله من الفقر، لكن، ولأن اللعبة التي اختارها، لا يلعبها الفقراء من الأساس، لم يكن أمام روماريو سوى كرة القدم.
لعب روماريو الكرة في كل مكان في ريو، لم يكن يسجل أهدافه في شباك خصومه، وإنما في شباك شيطانه – الفقر-. سرعان ما بدأ حديث كل من رآه يداعب الكرة، "نحن أمام موهبة فذة، من نسل بيليه، وسيرفع هذا الفتى النحيل يوماً ما هو الآخر كأس العالم".
كانت الصدفة هي التي قادته ذات يوم لأحد الأندية المحلية، يُسمى Estelinha da Vila da Penha، عندما كان يتسكع هناك رفقة إحدى الفتيات، وسنحت له الفرصة في استعراض مهاراته بالكرة في إحدى زوايا الملعب، ليلمحه مدرب الفريق، ويقرر ضمه للفريق في الحال.
أصبح الفتى النحيل، مطمع أكبر الأندية في البرازيل، ولكن جسده الضعيف كان مصدر تشكك بالنسبة للفرق التي تريد التوقيع معه، وعلى رأسها نادي Vasco de Gama، لكن 4 أهداف سجلها روماريو في شباك فريق الشباب الخاص بهم، أزالت كل هذه الشكوك، ووقعوا معه على الفور.
الساحر المجنون
"كرة القدم، ما هذا الجنون الساحر، القادر على إعلان هدنة من أجل المتعة البريئة؟ ما هذا الجنون القادر على تخفيف بطش الحرب وتحويل الصواريخ إلى ذباب مزعج. وما هذا الجنون الذي يعطل الخوف ساعة ونصف الساعة؟".
- محمود درويش عن كرة القدم.
يستكمل درويش وصفه الخلاب لكرة القدم، فيصفها بالجنون الساحر القادر على تخفيف بطش الحرب، وإن كان هذا الوصف يليق على أحدٍ ممن لعب كرة القدم، فلا شك أنه سيكون برازيلياً.
وإن كانت الكرة جنون ساحر، فلا بد أن يمارسها السحرة، ويصاب أهلها بالجنون. جمع روماريو في وصف كل من عرفه بين الصفتين، ساحر داخل الملعب لم يجُد الزمان بمثله، ومجنون خارجه لا تعرف أي حماقة قد يرتكب.
كانت بداية روماريو في Vasco de Gama مثالية، سجل 11 هدفاً في 11 مباراة، وهو لا يزال قيد التأقلم على هذا المستوى الاحترافي للعبة، وهو ما يسَّر له الطريق للذهاب لبطولة العالم للشباب عام 1985 في موسكو.
لكن، ولأنه روماريو "المجنون" فقد تم طرده من المعسكر، حتى قبل انطلاق البطولة، والسبب أنه تم القبض عليه وهو يتبول من شرفة غرفته في الفندق.
ظن الجميع أن مسيرة روماريو قد انتهت بهذا الموقف، لكن روماريو لم يتلفت إلى ذلك، بل ذهب وسجل 20 هدفاً في 25 مباراة ليحرز لقب هداف الدوري البرازيلي، لكن فريق Vasco de Gama خسر لقب الدوري لصالح فريق فلامنغو، ليقرر روماريو إهداء لقب الدوري لفريقه في الموسم التالي عام 1986، مع حصده للقب هداف الدوري مرةً أخرى.
كانت أولمبياد 1988 بوابة روماريو نحو أوروبا، وبالرغم من حصد البرازيل للميدالية الفضية فقط، كان أداء روماريو إيذاناً له بالسماح لنشر سحره في أوروبا وللعالم أجمع. حان الوقت ليُفتن العالم كله بروماريو.
في هولندا وكأنك على شواطئ ريو
"حرب عالمية يمارس فيها خيال الشعوب دوره الغائب أو الحاضر".
- محمود درويش عن الكرة.
يكمل درويش وصفه لكرة القدم بأنها حرب عالمية، وجنودها خيال الشعوب. لا نعلم إن كان يدرك روماريو هذه الحقيقة، أم هي فطرة الله الذي فطرها فيه.
كانت بوابة روماريو الأولى في أوروبا في بلاد الأراضي المنخفضة "هولندا"، وبالتحديد في فريق بي إس في إيندهوفن، الذي كانت إدارته تبحث حينها عن مشروع ضخم يستقطب النجوم من كل أنحاء العالم، وخاصة أمريكا اللاتينية، ولكن، ولأن الفريق ليس بسمعة خصمه فريق أياكس، فلم يكن بإمكانهم التوقيع مع أسماء ضخمة أمثال مارادونا وزيكو.
فكان الشاب البرازيلي صاحب الأداء الخارق في أولمبياد موسكو، خياراً مثالياً لهم. ساعد روماريو الفريق الهولندي لتوطيد هيمنته على البطولات المحلية، لكن الفريق لم يحقق هدفه الأهم، دوري أبطال أوروبا.
ذاب الهولنديون والأوروبيون جميعهم في سحر روماريو، حتى أن هناك من قارنه بمارادونا نفسه، لكن سنوات روماريو في هولندا لم تخلُ من جنونه المعتاد، حتى أن بوبي روبسون، مدرب الفريق وصفه بأنه " الساحر صاحب الرغبات الحيوانية".
حول روماريو كل المناطق التي اعتاد ارتيادها في هولندا طيلة 5 سنوات لمناطق برازيلية ولكن في هولندا. أثناء إقامته في هولندا، أجرى روماريو تغييرات كبيرة على منزله. في الحديقة، كان لديه ملعب يغطيه بالرمال لتبدو مثل الشواطئ في ريو.
"كان المنزل ممتلئاً دائماً بالبرازيليين، وأبقى نفسه بعيداً عن بقية الفريق.إذا بقيت في الحديقة في مكانه، فقد تعتقد أنك عدت إلى ريو، ولست في وسط هولندا".
– جيلمار فيريرا صحفي رياضي برازيلي، يعمل في صحيفة Extra اليومية في ريو دي جانيرو بالبرازيل.
الهوية هي الأخرى دربٌ من الجنون
"ونحن أيضاً نحب كرة القدم. ونحن أيضاً يحق لنا أن نحب كرة القدم، ويحق لنا أن ندخل المباراة. لمَ لا؟ لمَ لا نخرج قليلاً من روتين الموت".
- محمود درويش في وصف الكرة.
لمَ لا نخرج قليلاً من روتين الموت؟ يسأل درويش، والسؤال نفسه هو الإجابة عن أهمية كرة القدم. كانت كرة القدم كذلك بالنسبة للبرازيليين، الشيء الذي وجدوا فيه الإجابة عن سؤالهم الذي لا إجابة له سوى عند لاعبي المنتخب البرازيلي. والسؤال هو "مَن نحن؟".
ظل البرازيليون لعقود يبحثون عن هويتهم التي أفقدهم الاستعمار إياها، أسئلة كتلك: من نحن؟ ما هويتنا؟ أنحن البيض؟ أم السمر؟ ما الذي يجمعنا؟ وما الذي نتميز به؟
يعشق البرازيليون بيليه، ويعتبرون أنفسهم من نسل هذا الرجل، لأنه جاوبهم بدل المرة 3، بعد خسارتهم كأس العالم في أرضهم ووسط جماهيرهم عام 1950، كانت معجزة بيليه في السويد 1958 بمثابة شمس البرازيل التي أشرقت لأول مرة، ومن حينها، كان كل من أهدى لهم بطولة كهذه، بمثابة المنقذ، ورمزاً للقوة الخارقة من الإله.
روماريو كان بطلهم مرتين. الأولى كانت عام 1989، عندما أعاد لهم رفقة بيبيتو كأس "كوبا أمريكا" الغائبة عنهم منذ أكثر من 19 عاماً. لكن المعجزة الحقيقية كانت في أمريكا 1994.
قبل كأس العالم 1994، وتحديداً في التصفيات كان روماريو مُستبعد من المنتخب البرازيلي، لا لشيء إلا لسوء سلوكه المعتاد، لعبت البرازيل أول 7 مباريات من تصفيات كأس العالم 1994 دون روماريو، وتكبدت أول خسارة لها على الإطلاق في تصفيات كأس العالم ضد بوليفيا. أثار استبعاده موجة من الغضب، حيث دعا الصحفيون والمشجعون إلى عودته إلى الفريق. رضخ المدرب البرازيلي "باريرا" واستدعى روماريو للعب في مباراة حياة أو موت ضد أوروغواي في ملعب ماراكانا. فازت البرازيل 2-0، وسجل روماريو كلا الهدفين، وتأهلت البرازيل لكأس العالم.
قدّم روماريو كأس عالم خيالية رفقة بيبيتو، وقاد الثنائي للقب الثالث في تاريخهم، والغائب عنهم منذ عام 1970، وحصد روماريو جائزة الكرة الذهبية، كأفضل لاعب في كأس العالم.
حينها فقط، قتل روماريو روتين الموت، وأعاد تعريف هوية بلاده، ووقعوا في عشقه إلى الأبد، حتى ولو لم يكن أفضل من بيليه، أو رونالدو، وغيرهم.
أكبر بكثير من 1000 هدف
لعلَّ المشكلة الأبرزفي سيرة روماريو هو موضوع الـ 1000 هدف، الذي سعى بكل ما أوتي من قوة أن يناله، حتى يُخلد اسمه بجانب بيليه. حتى بعدما فقد الكثير من مستواه، وعاد إلى البرازيل بعد أن فسخ نادي برشلونة عقده، ليلعب في عدة أندية برازيلية كبيرة في البداية، تخللها عودة إلى إسبانيا من بوابة فالنسيا، ثم اللعب لأندية أصغر بكثير من اسمه بغية تسجيل الـ1000 هدف.
تتخطى عبقرية روماريو موضوع الـ1000 هدف بكثير، إذ تكمن عبقريته تلك في رأسه مثل قدميه. فهو الرجل العبقري الذي لا يرغب في أخذ الحياة على محمل الجد.
قال مدون كرة القدم إيدير راموس دي أوليفيرا:
"لقد كان أشبه بشبح في الملعب. كان الأمر كما لو كان يتنقل دون أن يلفت انتباه الخصم، وهو أمر لا يصدق بالنظر إلى سجله. ثم، في اللحظة المناسبة، سيظهر ويقتلك بكل بساطة. ريو دي جانيرو تنبض بالحياة في الليل؛ وكذلك روماريو".
عندما طُلب من يوهان كرويف تسمية أعظم لاعب درَّبه على الإطلاق، رد الهولندي:
"روماريو. كان أسلوبه رائعاً، وسجل أهدافاً من كل مركز ممكن، معظمها كانت بإصبع قدمه".
لأنها تجسيد للحياة؛ لم يعلق روماريو حذاءه
"هي حرب عالمية يمارس فيها خيال الشعوب دوره الغائب أو الحاضر".
- محمود درويش مرة أخيرة عن الكرة.
هل تتذكر هذه الكلمات؟ نعم هي تلك التي بدأنا بها لمحمود درويش، نحن لا نخدعك بتكرارها، لكننا لم نجد أنسب منها لنخبرك بقصتنا الأخيرة عن روماريو.
لأن كرة القدم حرب عالمية، وجنودها كما أخبرنا وأخبركم درويش هو خيال الشعوب. ولأن الأسطورة تقول إن كل ساحر يعلق حذاءه ويترك الملعب، سيتحول ذات يوم إلى حكيم، إما ليرشد صغار السحرة، ويعطيهم عصارة خبرته، أو يعتزل الجميع في كهف في أقاصي الجبال، ليتعبّد إلى الله، ويزهد في الدنيا.
اختار صاحبنا، وهو أهم هؤلاء السحرة، أن يكمل نضاله، لكن داخل أروقة السياسة. انضم روماريو لحزب "Podemos" اليساري، ليحمل هموم شعبه، ويدافع عن حقوق الفقراء الذي نبع من وسطهم.
روماريو، هو حكاية خالدة من حكايات الكرة البرازيلية، التي تخبرنا بأن كرة القدم وذويها أكبر بكثير من التحدث عنهم داخل أروقة الملاعب فقط، بل تجربة متكاملة نستطيع التعبير عنها بالشعر والأدب، والأهم أنها تعبِّر عنا كذلك وأكثر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.