مباريات عديدة في نهائيات كأس العالم، بقيت عالقة في أذهان متابعي كرة القدم، ولعلّ أبرزها المباراة التي استضافها ملعب تشيلي الوطني في العاصمة سانتياغو بين منتخبَي تشيلي وإيطاليا في إطار الجولة الثانية من مباريات المجموعة الثانية من نهائيات النسخة السابعة من كأس العالم
بعد فوز مبهر في الجولة الافتتاحية ضد سويسرا، واجهت تشيلي المستضيفة منتخب الأزوري الإيطالي في رحلة البحث عن الفوز والتأهل للدور الثاني، سافر 66 ألف مشجع إلى الملعب الوطني في سانتياغو لتشجيع أصحاب الأرض، وكثير منهم كان واثقاً من الفوز.
على الجانب الآخر، تعادل الإيطاليون في مباراتهم الافتتاحية ضد ألمانيا الغربية وكانوا بحاجة أيضاً للحصول على نقاط المباراة للرجوع إلى دائرة المنافسة، كانت هذه المباراة أكثر من مجرد كرة القدم، إلى حدّ أن أطلق عليها اسم "معركة سانتياغو" التي كادت تُسبّب أزمة سياسية بين البلدين، فماذا حدث؟
تشيلي تستضيف كأس العالم رغم الضغوط والزلزال
كان من المفترض أن يكون عام 1962 عام المصالحة بين قارتي أوروبا وأمريكا الجنوبية، بحيث إنّه لأول مرة منذ عام 1950، فريق من أمريكا الجنوبية هو من سيستضيف كأس العالم، إذ أقيمت نهائيات كأس العالم لسنتي 1954 و1958 في القارة الأوروبية، الأمر الذي أثار استياء دول أمريكا الجنوبية.
بحسب these football times، عندما حان الوقت للتصويت على الدولة المضيفة لكأس العالم 1962، هددت فرق أمريكا الجنوبية بمقاطعة البطولة إذا منح حق استضافة البطولة لدولة أوروبية مرة أخرى، الأمر الذي جعل الفيفا يقرّر تنظيمها في القارة اللاتينية، خصوصاً أن فرق القارة الأمريكية الجنوبية كانت قد قاطعت من قبل دورة 1938.
في البداية، تبادلت ثلاث دول فكرة استضافة كأس العالم السابعة هي الأرجنتين وتشيلي وألمانيا الغربية، وأمام ضغط اتحادات أمريكا الجنوبية، طلبت الفيفا من ألمانيا الغربية الانسحاب، ولم يتبقَّ سوى الأرجنتين وتشيلي في المنافسة على التنظيم.
كان القليل من سكان تشيلي من لديهم أمل كبير في محاولة تشيلي، فقد كانت الأرجنتين تتفوق ببنية تحتية أفضل بكثير من تشيلي، وبالطبع تراث أكبر في كرة القدم.
جاء سلاح تشيلي الوحيد في شكل كارلوس ديتبورن، الرئيس القوي لاتحاد كرة القدم التشيلية، الذي نجح في الحصول على دعم كافٍ للملف التشيلي.
عندما حان وقت التصويت في عام 1956، تغلبت تشيلي على الأرجنتين بـ 32 صوتاً مقابل 11 صوتاً.
كانت تحضيرات تشيلي لاحتضان كأس العالم تسير على ما يرام حتى يوم 22 مايو/أيّار 1960، عندما ضرب زلزال فالديفيا البلاد.
كان ذلك الزلزال أحد أقوى الزلازل التي تم تسجيلها في تاريخ البشرية، كما تسبب في تدمير تشيلي، فقد قتل الآلاف وتسبب في نزوح مئات الآلاف من منازلهم.
قدرت تكلفة الزلزال بما يصل إلى 6 مليارات دولار، كما أنّ أربعة من ثمانية ملاعب تحتضن البطولة دمرت كلياً بسبب الزلزال، وباتت دورة كأس العالم 1962 في تشيلي مهددة بالإلغاء، وبدأت جهود حثيثة لإنقاذه.
في الأخير، تمكنت مدينتان من إصلاح ملاعبهما في الوقت المناسب لتنظيم دورة كأس العالم 1962، مما رفع عدد الملاعب إلى ستة، كما تبرعت شركة Braden، وهي شركة نحاس أمريكية مقرها في تشيلي، بملعبها السليم في رانكاغوا من أجل احتضان الدورة، وبالتالي سبعة ملاعب ستكون كافية لإنقاذ كأس العالم.
بعد الزلزال كان على تشيلي مواجهة حملات التشكيك الإعلامية
في طريقهم لإنقاذ الدورة، بذل المنتخب التشيلي جهداً كبيراً فقد أمضى 18 شهراً في السفر حول تشيلي ودول أخرى لرفع مستوى الوعي بمحنة تشيلي ومحاولة تعزيز الانتماء الوطني بين التشيليين، مما جعل كأس العالم 1962 موعداً وطنياً.
زادت وفاة رئيس الاتحاد التشيلي لكرة القدم كارلوس ديتبورن، الرجل الذي فعل الكثير لإحضار كأس العالم إلى تشيلي، قبل شهر واحد من بدء المباريات، من حماسة التشيليين للموعد، على الرغم من الحداد على خسارة رجل عظيم، كانت كرة القدم التشيلية تتطلع إلى الفوز بالبطولة.
وسط إنهماكها في التحضير للمونديال بعد معاناتها من كارثة زلزال فالديفيا، زادت الضغوط الخارجية التي فرضتها الدول المشاركة في المونديال لتجعل طريق سانتياغو لتنظيم المونديال صعباً.
بسرعةٍ كبيرة، أصبحت تشيلي هدفاً للعديد من القنوات الإعلامية والصحف الكبرى من البلدان التي كان من المقرر أن تشارك. ببساطة، لم ترغب العديد من الدول في بقاء تشيلي كبلدٍ منظّمٍ لهذا الحدث.، ليس ذلك فحسب، بل إن حكومة تشيلي نفسها لم ترغب في الاستمرار في خطط استضافة البطولة، حيث كانت لا تزال تتعافى من هذه الكارثة.
مع ذلك، انتشر الخبر إلى مواطني تشيلي بأن الدول الأخرى لا تريد أن تستضيف تشيلي البطولة؛ الأمر الذي أثار غضب تشيليين.
لذلك قبل أن تبدأ البطولة، شعرت تشيلي أن العالم كان ضدها، وقد مهدّ هذا الطريق لواحدة من أكثر بطولات كأس العالم عنفاً على الإطلاق.
الصحافة العالمية تحرّض جماهير تشيلي على إيطاليا
إلى جانب كل تلك التحديات التي واجهها التشيليون لتنظيم البطولة، كان هناك استعداد خاص لمباراة المجموعة بين تشيلي وإيطاليا، كانت هذه هي المباراة الثانية التي تُلعب في المجموعة الثانية، ولم يعرف أحد ما إلى ما ستؤول إليه هذه المباراة، لفهم سبب التوترات في هذه اللعبة، يجب أن نعود إلى الصحافة العالمية المتعلقة بالبطولة ككل.
هل تتذكر ما قلناه عن الدول الأخرى التي عارضت استمرار منح تشيلي الحق في استضافة البطولة؟ حسناً، كانت إيطاليا واحدة من تلك الدول، وبل كانت أكثر الدول التي صعّدت ضد استضافة تشيلي للمونديال.
فقد استخدمت العديد من الصحف في إيطاليا عبارات مثل "الجنون الخالص" لوصفها استضافة شيلي للمونديال، ومن سوء الحظ أنّ صحفاً أخرى في تشيلي اكتشفت هذه المقالات وقامت بترجمتها ونشرها في جرائدها الخاصة من أجل إثارة تشيليين أكثر ضد الطاليان، وبالفعل، ترك ذلك توتراً كبيراً بين الفريقين حتى قبل بدء المباراة.
لم يتوقف الصحفيون الإيطاليون عند استضافة المونديال، واستمروا في إهانة مستوى مدينة سانتياغو، وتشيلي ككل، من خلال سلسلة من الأوصاف المهينة حول جوانب مختلفة من سانتياغو، حيث وصفت عناوين الصحف في إيطاليا تشيلي بأنها بلد متخلف وفقير وتنتشر فيه الأمية والدعارة، بخلاف سوء الخدمات وتعطل الاتصالات.
استفز ذلك الأمر حفيظة الصحف في تشيلي التي خرجت هي الأخرى لوصف الإيطاليين بـ"الفاشيين" و"مدمني المخدرات"، والبلد الذي نشأ من أيام الحرب العالمية الثانية.
فجأة صارت إيطاليا العدو الأول للتشيليين، وكان هذا هو الحال أيضاً من وجهة نظر لاعبي تشيلي.
وقبل موعد مباراتهم مع إيطاليا، توجه آلاف التشيليين لمناصرة ألمانيا الغربية في مباراتها ضد إيطاليا في رسم الجولة الأولى، حيث هتف التشيليون بقوة ضد الإيطاليين.
معركة سانتياغو.. المباراة الأعنف في كأس العالم!
لعبت تشيلي ضد إيطاليا في المباراة الثانية من مراحل المجموعات، واستضافت المباراة في الملعب الوطني بسانتياغو، ومن هنا جاء اسم "معركة سانتياغو".
بحسب footballwhispers، كانت هذه في الواقع المرة الأولى التي تلعب فيها تشيلي مع إيطاليا وجهاً لوجه، وعلى أمل استرضاء مضيفهم قبل المباراة، ركض اللاعبون الإيطاليون إلى جميع أركان الملعب قبل انطلاق المباراة لتسليم باقات من الزهور لنساء تشيلي في المدرجات.
قامت التشيليات برمي الزهور على اللاعبين الإيطاليين بازدراء، وبدأت الشعارات تصدح من المدرجات بأنّ هذا اليوم لن يكون هناك مصالحة، وقبل الدخول إلى أرض الملعب بصق التشيليون في وجوه الإيطاليين.
عندما أطلق الحكم الإنجليزي كين أستون صافرته لبدء المباراة، أطلق التشيليون صافرات الاستهجان ضد الطليان على الفور.
في مباراة كرة قدم عادية، في الأرجح يبدأ فريق واحد بتمرير الكرة عدة مرات للحصول على طريقة اللعب الأنسب، أمّا في معركة سانتياغو التي لم تكن مباراة عادية، فقد تم ارتكاب الخطأ الأول بعد 12 ثانية فقط من بداية المباراة، ولم يكن قول "ابدأ، كما تقصد الاستمرار" أكثر ملاءمة من أي وقت مضى. أصبحت المباراة أكثر قذارة وقذارة مع مرور كل دقيقة، وكان الحكم الإنجليزي المسكين، كين أستون، يخوض معركة خاسرة.
في غضون خمس دقائق من اللعب، أُجبر أستون على تفريق معركة محتملة بين لاعبي المنتخبين، سرعان ما تحوّلت المباراة إلى الفوضى.
في الدقيقة الثامنة، شهدت المباراة أوّل حالة طرد، حين ردّ لاعب خط الوسط الإيطالي جورجيو فيريني على خطأ هونورينو لاندا بركله على مرأى من أستون. ترك الإنجليزي بلا خيار، طرد فيريني. رفض فيريني مغادرة الملعب.
أراد الإيطالي أن يعرف سبب عدم طرد اللاعب التشيلي لاندا بسبب استمراره في ملاحقته في الملعب، استمر لمدة ثمانية دقائق على أرض الملعب، في النهاية قامت مجموعة من رجال الشرطة التشيلية المسلحة باقتحام الملعب لإخراج لاعب خط الوسط الإيطالي جورجيو فيريني من الميدان.
قبل وقت قصير من نهاية الشوط الأول، سقط الجناح التشيلي ليونيل سانشيز بعد تدخل عنيف من المدافع الإيطالي ماريو ديفيد، قام ديفيد بالردّ على ذلك التدخل من خلال توجيه لكمة يسارية قوية إلى جمجمة المدافع الإيطالي.
الطريف أنّ أحد معلقي قناة الـ "بي بي سي" البريطانية، علّق على تلك اللقطة كأنه يعلّق على نزالات الملاكمة، بالقول: "أقول، كان هذا أحد أرقى الخطافات اليسرى التي رأيتها على الإطلاق".
استمر التشاحن بين اللاعبين، وبالرغم من كونه على بُعد ياردات من مساعد الحكم، فقد نجا سانشيز من الطرد بعد اعتدائه على المدافع الإيطالي ماريو ديفيد، بعد دقائق، رد ديفيد الجميل إلى التشيلي بحذاء طائر على رأسه أمام أنظار الحكم الإنجليزي أستون الذي بقي مذهولاً. ليقوم أستون بطرد ديفيد من ميدان اللعب تاركاً منتخب الآزوري يلعب بتسعة لاعبين.
اضطرت الشرطة التشيلية إلى اقتحام الملعب عدة مرات في الشوط الثاني من أجل الحفاظ على الهدوء.
في منتصف الشوط الثاني، تمكن سانشيز مرة أخرى من الإفلات من الطرد، وذلك بعدما قام بضرب اللاعب الإيطالي أمبرتو ماتشيو.
ومع مرور 73 دقيقة بدأ الإيطاليون في الانهيار، أحرزت تشيلي الهدف الأول في المباراة عندما سدد اللاعب خايمي راميريز الكرة برأسه من مسافة قصيرة، وبعد ثلاث دقائق، ضاعف خورخي تورو تقدم تشيلي بتسديدة مذهلة من خارج منطقة الجزاء. في النهاية، فاز منتخب تشيلي بالمباراة بنتيجة 2-0، وسخرت الصحف في تشيلي من إيطاليا بعرض نتيجة المباراة بطريقة غير تقليدية للرد على الصحف في إيطاليا؛ البدائيون 2 – الأوروبيون 0.
عندما أنهى أستون المباراة، سارع الإيطاليون للخروج من الملعب، خائفين من التعرض للاعتداء من المنتخب التشيلي أو الجماهير التشيلية.
أما عن كأس العالم 1962، فقد فشل منتخب تشيلي في الوصول إلى المباراة النهائية بعد هزيمته أمام البرازيل بنتيجة 4-2 في نصف النهائي، وكانت البرازيل قد توّجت بتلك النسخة بعد فوزها في المباراة النهائية أمام منتخب تشيكوسلوفاكيا بنتيجة 3-1 وتتوج باللقب الثاني على التوالي في كأس العالم.
الحكم أراد أن يهرب من الملعب، والبريطانيون وصفوها بمباراة العار
بعد نهاية المقابلة صرّح حكم المباراة أستون في تصريحاتٍ نقلتها صحيفة the guardian، بأنّه كان عليه بذل قصارى جهده في المباراة التي وصفها بالمستحيلة، وقال أستون: "لقد خطر ببالي أن أترك المباراة، لكنني لن أكون مسؤولاً عن سلامة اللاعبين الإيطاليين إذا فعلت ذلك. اعتقدت ذلك حينها وما زلت أعتقد ذلك الآن. أقول لك شيئاً واحداً: لم أضِف أي وقت إضافي".
في إنجلترا، اعتبرت وسائل الإعلام البريطانية المباراة بمثابة إحراج لكرة القدم، حذرت صحيفة The Mirror من أن كأس العالم تتجه نحو العار إذا لم يتم تنظيف الأمور، بينما وصفت صحيفة The Express المباراة بأنها حمام دم.
كان النقد الأقوى وربما الأكثر شهرة للمباراة من ديفيد كولمان، مراسل BBC، الذي قدم المباراة على النحو التالي: "اللعبة التي توشك على رؤيتها هي أكثر عرض كرة القدم غباءً، مروّعاً، مثيراً للاشمئزاز، ومخزياً في تاريخ كرة القدم. المباراة هذه هي المرة الأولى التي تلتقي فيها هذه الدول؛ نأمل أن تكون الأخيرة".
بعد خمسة أيام من معركة سانتياغو، فاز الفريق الإيطالي في مباراته الثالثة على سويسرا 3-0، كان الإيطاليون يعلمون بالفعل بحكم المقصيين بالبطولة، وذلك بعد فوز ألمانيا الغربية 2-0 على تشيلي في اليوم السابق.