يزداد العطرُ الأصلي جمالاً ويفوح شذى كلما مرت عليه الأيام، وتعلو قيمة الذهب مهما مرت عليه السنون، وتزيد الحكمة كلما زادت الخبرة، ويحتفظ المعدن الثمين بقيمته مهما انتشرت الأنواع الأخرى، ولعل محمد أبو تريكة أنموذج للإنسان الأصيل وللمعدن المخلص النفيس، فهو ماركة مسجلة في ميدان الحق، ونجم لامع في ساحات الإنسانية، يزيد بريقه كلما مرت عليه المواقف وتتابعت الأزمات، فقلما تجد لاعباً معتزلاً يتمتع بهذه الشعبية بعد اعتزاله بسنوات، فالنجم يأفل والضوء يخفت، لكن تريكة له وضع خاص، فنجمه ساطع وضوءه منير وأثره مستمر.
إن أمير القلوب يجيد إحراز الأهداف حتى خارج المستطيل الأخضر، فهو نجم الفضاء الأزرق هذه الأيام، رغم أنه لم يحصل على الكرة الذهبية في نسختها الأخيرة كما فعل ميسي، ولكن لأنه صاحب المواقف الذهبية، انشغل الناس به عن النجوم الحاليين، فهو دوماً يعبر عن مكنون قلوب المصلحين، وتطلعات عقول المثقفين، فهو رأس حربة المربين الذين يتوقون لتربية جيل معتز بهُويته، كما أنه متميز في صناعة الأتعاب كما كان في صناعة الألعاب، فهو يُقلق بمواقفه مؤسساتٍ وشركات، وينسف بكلماته برامجَ ومقالاتٍ، ودعايةً وقناعات، إنه يُقلق المخادعين الذين يحاولون سحبَ بساط الفضيلة من تحت أرجل أبناء هذا الجيل.
إن محمد أبو تريكة أنموذج فريد للمضحي وهو في عزِّ مجده، لمن آثر النفي مع الحق أفضل من المكوث مع قبول الضَّيم، والتاريخ ينسى الجميع إلا من كانت له بصمة ثبات أو سجل انتصار أو موقف حق، فهو يُمجّد ثبات ابن حنبل في محنته، ويكتب بأحرف من نور موقف العز بن عبد السلام مع المماليك وضد التتار، وينسى كل متخاذل أو متهاون آثر الحياةَ الفانية على الحياة الباقية.
إن تريكة بموقفه الأخير، الذي طالب فيه بضرورة التصدي بحزم لمناصري المثليين الذين ينشرون الرذيلة التي تتنافى مع الإنسانية، يُثبت أنه رجل مواقف، يعيش في سبيل فكرة ورسالة، لقد وقف رافعاً راية الحق في ميدان يخلو من المؤثرين والمشهورين والفاعلين، فالتفَّ حوله كثير من الناس الذين ينتظرون لواء فضيلة أو علم أخلاق يتمسكون به، حمل أبو تريكة اللواء وهو يدرك صعوبة الأمر وقوة التيار، فلقد هاج وماج كل ساقط في بئر النفاق، وتبارى دعاةُ الحرية الزائفة على نقده نقداً لاذعاً! وكان أولى بهم وهم يدعون إلى حرية الرأي أن يحترموا رأيه! ولكنهم يريدون فقط كل حرية وكل رأي يوافق حريتهم! يريدون ممن ينكرون فِعالهم أن يسكتوا حتى لا يتأثر بهم غيرهم، ولكنهم لا يدركون أن ديننا علَّمنا أن النهي عن المنكر أوجب من الأمر بالمعروف، وهناك قُرى أزالها الله لأن أهلها "كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عن مُنكَرٍ فَعَلُوه".
إن سِجل أبو تريكة التهديفي مع الأهلي ومنتخب مصر، وعدد البطولات القارية والمحلية التي حصل عليها، جعلته أسطورةً كرويةً عربيةً إفريقيةً لا خلاف عليها، ولكن الشعبية الجارفة والحب المتواصل الذي يدفع الجمهور في كل مباريات منتخبه السابق للنداء باسمه في الدقيقة 22، التي تحمل رقمه السابق، لم تكن بسبب هذا فحسب، بل بسبب مواقفه الإنسانية والأخلاقية، فكثيرون حققوا بطولات أكثر منه ونسيهم الناس، حوت السجلاتُ الإنجازاتِ ولم تحتفظ بها القلوب والمجتمعات.
إن تريكة قبل أن يكون هدافاً كروياً، هو هداف إنساني يعي ماذا يفعل، ويدرك ماذا يقول، فهو يجعل من موهبته رسالةً، ومن عَملِه أمانةً، ومن شهرته وسيلةً، ولعلَّ أشهر مواقف النجم الذهبي تعاطفه مع غزة في 2008، حين احتفل بأحد أهدافه مرتدياً قميصاً يحمل الإنسانية، مكتوب بحبر التكافل والكرامة والعزة (تعاطفاً مع غزة)، وتصدّى بقوة للذين أساؤوا لرسول الله بكل ما أُتيح له، ووقف شامخاً ضدَّ الظلم الذي حدث مع الجمهور في أحداث بورسعيد، وكان متواصلاً مع أهالي الضحايا علَّهم يجدون فيه ما يُهوّن عليهم من قسوة الأزمة، فهو يستغل جيداً حبَّ الناس له وتعلقهم به، ويدرك أن هذا توفيق من الله وكرم سيُسألُ عنه.
إن التاريخ يحتفظ للإنسان بمواقفه، ويُخلّد ذكراه إذا آثر دينه على نفسه، وفكرته على حياته، ورسالته على شعبيته، وأمير القلوب لا يجيد إمساك العصا من المنتصف، بل يدور مع الحق حيث دار، لا يقبل الضيم، ولا يُهادن الظالمين، ولا يسكت عن المخادعين، ولسان حاله:
قِف دُونَ رأيكِ في الحياةِ مجاهداً إنَّ الحياةَ عقيدةٌ وجهادُ
فسلامٌ على تريكة، وعلى مواقفه وبطولاته الخالدة، سلامٌ على مَن ربَّاه ليعيشَ لفكرةٍ، حتى لو خسر من أجلها، سلامٌ على من يدعمون المصلحين وعلى رأسهم تريكة؛ لأنهم يعلمون أنه لا يُمثل نفسه، بل يُمثل هويةً وقيماً وأخلاقاً وأعرافاً، فهو أكثر من مجرد لاعب.
سلامٌ على مَن ربَّى رجلاً كهذا الرجل، يحمل رسالةً، ويترك أثراً، ويبذُر خيراً، ويُحرّك أُمةً، فرُبَّ هِمةً أحيت أمةً.
بقِيَ أن نقول لا تتركوه في ملعب الفضيلة يقف وحيداً، مدافعاً عن دينٍ القابضُ عليه كالقابضِ على الجَمْر، أعلِنوا للعالم أنَّ الحق لا يُستحَى منه، وأن الباطل باطلٌ ولو أيَّدَه جميعُ الناس، علِّموا الجيلَ الحالي والأجيالَ اللاحقةَ أنَّ الأخلاق حضارة وهُوية وريادة، وأن التمسك بالدين انتصار وتَقدُّم وسعادة.
قِفوا مع الرجل في موطن تجب فيه نُصرتُه، وكونوا مع الدين والهوية مهما أدلهمَّت الخطوب، ربُّوا جيلاً متمسّكاً بدينه معتزاً به، احملوا مصابيح الفضيلة في ظلمات الواقع، أضيئوا ظلام العالم بنور الأخلاق، امشوا في ظلال الإيمان والثبات.. تصلوا إلى وجهتكم بسلام.
واعلموا أن الحياةَ مواقف، وأن الأعمار أعمال، وأن الفوز الحقيقي ليس الفوز في المباريات ولا البطولات، إنما الفوزُ في المواقف والثبات في المَلمَّات، فتفاعلوا مع البطل الذهبي، صاحبِ المواقف الذهبية، وأعلِنوا للعالم أننا متمسكون بديننا وقِيمنا وهُويتنا، وأنهم لن يستطيعوا حصار فِكرنا أو نزع إيماننا، ولن نسكت عن باطلهم، فنفوسنا لا تقبل الانتكاس ولا العيش على هامش الحياة، وهذا ما يحاول تريكة غرسه في هذا الجيل، موضحاً لهم أن نَفْسَ الحُر تقوده للحق، وتُعينه على الثبات، واسمعوا لصوت أنفسِكم التي تحب الحقَّ وتؤيد المدافعين عنه ماذا تقول.
وتقول لي: إن الحياةَ لِغايةٍ أسمى منَ التصفيق للطغيان
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.