البرازيل، رغم حالة الفقر الشديدة، في فرح، المنتخب الوطني سيلعب اليوم مباراته النهائية على ملعب "الماركانا" وسط حشد جماهيري، يشاع في ريو دي جانيرو أنه سيتخطى ٢٠٠ ألف مشجع، جاؤوا من كل مكان لمشاهدة منتخبهم يتوَّج بكأس العالم أمام جارهم الصغير حجماً وعدداً الأوروغواي.
الكل ينتظر الفوز ولا شيء غيره، يترقبون اللحظة التي سيرفع فيها منتخبهم كأس العالم لكرة القدم العائدة بعد توقف دام ١٢ عاماً بسبب الحرب العالمية الثانية.
لا شيء في البرازيل يعلو فوق صوت كرة القدم ولا شيء يدور في الأذهان إلا لحظة التتويج، إلا من بعض الصبية الصغار تركوا متابعة المباراة خلف الراديو والتلفاز وذهبوا للعب كرة القدم.
لم يملك صغار الفقراء ثمن شراء كرة فكانوا يصنعونها من الأقمشة القديمة ثم يضعونها داخل جورب أحدهم فتتحول إلى كرة يلعبون بها فتتمزق سريعاً. لإصلاحها كان الصغار يسرقون جوارب آبائهم، حتى ذلك الفتى الأسمر "أديسون" كان يسرق جورب والده ويصنع منه كرة وكان يضحك كلما سمع والده يصرخ: أين جواربي؟
كان أديسون لاعباً متميزا، يستطيع عمل حركات بهلوانية كتلك التي يفعلها لاعبوا منتخب البرازيل حينها "مينديز وأرامبورو ومانيكا" على أرض ترابية صلبة، كان يراوغ زملاءه بالكرة ويحرز هدفاً ويقلد حركات الكبار في الاحتفال.
كان يراوغ زملاءه بثمار البرتقال ويداعب حبات المانجو ككرة قدم، أي شيء يتحول بين أقدام أديسون لكرة، كان يحب حارس فاسكو دي غاما "بيلي" ويحلم بإحراز هدف في مرماه، لكنه كان ينطق اسمه بطريقة خاطئة مما دفع أصدقاءه للسخرية منه وتسميته "بيليه".
في البداية كان يرفض الاسم ويتعامل بقسوة مع من يطلقه عليه، لكنه بمرور الوقت علم أن كلمة "بيليه" في اللغة الأيرلندية تعني كرة القدم ففرح بالاسم وانسجم معه واعتاد الجميع في الشارع والمدرسة أن يطلقوا عليه "بيليه".
ما زالت مباراة نهائي كأس العالم مشتعلة، مهاجم البرازيل ألبيون فرايشا يحرز هدف التقدم للمنتخب البرازيلي ويقرب الحلم أكثر فأكثر.
يحتفل الجميع في البرازيل، من امتلك وسيلة لمتابعة المباراة ومن لم يمتلك.
كان الأهالي يتقاسمون أجهزة الراديو وكأنهم يقتسمون وجبات الطعام.
كرة القدم في البرازيل لا تقل في أهميتها عن الطعام والشراب، في تلك الأثناء علم بيليه أن البرازيل متقدمة بهدف وهو ما زال يلعب الكرة مع زملائه، عرف من صرخات جيرانه في الحي أن الكأس تقترب والحلم سيتحول لحقيقة، أخذ في مراوغة جوستافو وفالديرا أصدقاءه المقربين وكأنه يراوغ دفاع الأوروغواي.
مرت الدقائق وما زال الصغار يلعبون وما زالت البرازيل تحلم بالكأس، ولكن سيكافينو، مهاجم الأوروغواي، كان له رأي آخر، هدف التعادل للأوروغواي في توقيت هام يعيد للمباراة قوتها مرة أخرى، ويضع الفريقين على قدم المساواة.
بيليه ما زال يراوغ ويطير في الهواء وما زال يلعب الحركات الأكروباتية وسط الضوضاء القادمة من كل منازل البرازيل، ولكن في هذه المرة صوت ارتطام جسده بالأرض كان مسموعاً بشدة، لم يعلم الصغار لماذا كل هذا الصمت ولماذا لا يحتفل البرازيليون بالكأس، ولماذا لا يرقصون في الشوارع، ولكن الحقيقة أن حلم البرازيل بالتتويج بات صعباً بعد أن أحرز جيجيا هدف التقدم لمنتخب الأوروغواي ويتبقى على نهاية المباراة 10 دقائق فقط.
لا صوت يأتي من المنازل
أصوات همهمات بسيطة وبعض البكاء لم يلفت أنظار بيليه وأقرانه، لأنهم تعودوا على بكاء الأمهات لنقص المواد الغذائية، قطع كل ذلك النحيب هدف رائع للصغير بيليه ليعلن عن انتهاء مباراة الصغار بفوزه، قرر الجميع العودة للمنازل ودخل بيليه على والديه فوجدهما في حالة بكاء شديد.
خسرت البرازيل كأس العالم وتوّج بها منتخب الأوروغواي للمرة الثانية في تاريخه وتحول الحلم إلى كابوس.
بيليه لم يجد ما يقوله ليُضحك والده ووالدته لكي يخرجهما من تلك الحالة غير جملة ستبدو للوهلة الأولى مضحكة، وعود كتلك التي يقولها الصغار جميعاً، حين أكبر سأكون طبيباً أو شرطياً أو سأكون رئيس هذه الدولة وسأجعل مواطنيها في نعيم، وعد يضحك العائلة ويجعلها سعيدة للحظات، لكن يعرف الجميع أنه غير قابل للتحقّق إلا في ظروف معينة، وفي ظرف مثل الذي فيه أهل البرازيل، فالوعود هنا مجرد خيال غير قابل للتحقق، قال بيليه لوالديه بعد أن ربت على كتفيهما: لا تحزنا، سأحضر لكما كأس العالم هنا في هذا البيت بعد عدة سنوات.
بيليه أكبر من مجرد سيرة ذاتية
الأمر ليس سيرة ذاتية للجوهرة السوداء، الجميع يعلم تاريخ بيليه وما مر به من صعوبات وما حققه من أحلام وطموحات، الأمر هنا إعادة تذكير بما قد يفعله الحلم في خيالك، وما تفعله الطموحات حين تداعب عقلك وتجعلك تتخطى كل الصعوبات والمشاكل التي تمر بها، تنتصر على الفقر وقلة الموارد وضعف التغذية وتسير في اتجاه واحد نحو تحقيق هدف واحد وضعته لنفسك من البداية، ومع الوقت تجد أن عقلك نفسه أصبح لا يستوعب حجم ما حققته من نجاحات وشهرة وأموال بعد أن كنت لا تملك حتى قوت يومك.
كأس العالم 1958
انضم بيليه لمنتخب البرازيل وهو في عمر السابعة عشرة، منتخب البرازيل يستعد للذهاب للسويد لخوض منافسات كأس العالم في أوروبا، لم يسبق أن فاز منتخب غير أوروبي بأي بطولة أقيمت في أوروبا، وكانت الأضواء موجهة صوب بيليه، الجميع يتحدث عن تلك الموهبة البرازيلية وما يستطيع تقديمه للكرة، كان ذلك يحدث في ذروة العنصرية في أوروبا وأمريكا، فتى أسمر اللون صغير يداعب الكرة بأقدامه وينال إعجاب الأوروبيين أصحاب البشرة البيضاء، لم يخلُ الأمر من هتافات عنصرية مقيتة تنعته بالقرد، لكنه لم يعِرها انتباهاً، هو يعلم جيداً ما الذي أتى من أجله وسيحارب لتحقيقه.
مر الدور الأول من البطولة دون أن ينثر بيليه سحره على الكرة، البرازيل بانتصارين وتعادل واحد تتصدر المجموعة ولا وجود مؤثر لبيليه، أخذ الجميع يتحدث عن احتمالية وجود فقاعة برازيلية، وقبل أن تتأكد الأقاويل كان الدور ربع النهائي يعلن عن مواجهة قوية بين البرازيل وويلز حسمها بيليه بهدف الفوز في الدقيقة ٦٦ ليقود البرازيل للصعود للدور نصف النهائي، ويُسكت الألسنة ويزرع الثقة في نفسه ونفوس مَن آمنوا به وامتدحوه ووضعوا آمالهم فيه.
البرازيل في نصف النهائي تقابل فرنسا، وبيليه يحرز هاتريك في الشوط الثاني يقود بهم راقصي السامبا للصعود للمباراة النهائية، نفس اللاعب يقود منتخب بلاده للفوز في المباراة النهائية على منتخب السويد حامل اللقب بنتيجة ٥/٢ ويحرز ثنائية تجعله يفوز بوصافة لقب الهداف بعد المعجزة الفرنسية جاست فونتين، صحف العالم تتحدث عن بيليه وتضع صورة ذلك الفتى الأسمر، يا له من تحدّ صارخ للقوانين العنصرية في أوروبا وأمريكا وجنوب إفريقيا وحتى البرازيل ذاتها التي قيل على لسان أحد أهم كتابها عبر التاريخ "نيلسون رودريجيز" إن عقدة الهجين ستطارد هذا البلد دائماً؛ ذلك لأن البرازيل ذاتها كانت مسرحاً للعنصرية الكروية، كان غير مسموح لأصحاب البشرة السوداء لعب الكرة في نوادي البيض.
العنصرية في البرازيل وكرة القدم
حين أتت كرة القدم للبرازيل في بداياتها كان يمارس هذه الرياضة فقط الأجانب والأثرياء البيض، تمارس في أندية أنيقة بملابس راقية، وفي بلد مختلط الأعراق مثل البرازيل لا يستطيع السود لعبها، لم يتمكن العمال الفقراء من حضور المباريات التي أقيمت في أندية مملوكة للبيض.
ولكن ازداد الشغف بالكرة بشكل كبير وسط كل هذه العنصرية لدرجة هدم كل الحواجز العرقية والاجتماعية، بدأت الأندية في تعيين لاعبين سود وتم تشكيل الفرق بهدف جذب عشاق اللعبة من الطبقة العاملة مهما كانت أصولهم، كانت كرة القدم واحداً من محركات جهود البرازيل المبدئية الأولى في مجال الاندماج العرقي والاجتماعي، كل ذلك كان يتهدم يوماً بعد الآخر حتى جاء بيليه ودق آخر مسمار في نعش العنصرية في البرازيل ونفذ وعده لوالده وأتى بكأس العالم إلى ذلك المنزل الفقير.
لم يعرف عن بيليه أنه كان مناضلاً ضد حزب أو جماعة أو ديكتاتور، لكنه كان يناضل ببشرته السوداء ضد سياسات التفرقة العنصرية في كل مكان في العالم دون أن يدري، في الوقت الذي كان يناضل فيه نيلسون مانديلا وحزب المؤتمر في جنوب إفريقيا ضد سياسات التفرقة العنصرية وبالتزامن مع نفس الوقت الذي كان يدعو فيه مارتن لوثر لجعل الحلم أسلوب حياة للتخلص من مواريث العبودية المقيتة كان بيليه يناضل بأهدافه ومهاراته، كان يجبر الجميع على وضع صوره واحتفالاته على صفحات الجرائد، حوكم مانديلا وأودع السجن وتم اغتيال لوثر كينغ لكن بيليه لم يتوقف عن تصدر المشهد حاملاً حلم المهمشين والفقراء، بات التعامل مع بيليه حلماً، ورؤيته شرفاً، ومجاورته في الملعب أو منافسته أملاً، وجوده الدائم على صفحات الجرائد كسر كل تلك القيود العديدة التي تم وضعها في طريق السود وأفقدتهم ثقتهم بأنفسهم.
لم يتوقف الحلم البرازيلي عن التحليق ولم يتوقف بيليه عن السعي والاجتهاد والقتال الكروي لآخر نفَس، قاد بيليه البرازيل هو وجارينشيا للقب آخر في ١٩٦٢ في تشيلي رغم إصابته أمام تشيكوسلوفاكيا، وقادها للقب ثالث في ذروة مستواه الفني في المكسيك عام ١٩٧٠.
قبل أن يختم حياته كلاعب في الولايات المتحدة ويساهم في انتشار اللعبة التي لم تكن تحظى بأي شعبية تذكر في بلاد العم سام، واعتلى بعدها أعلى المناصب في البرازيل ونال أكبر تكريمات، وظل طوال هذه السنوات يحظى بالكثير من الاحترام والحب في قلوب جماهير البرازيل حتى التي لم تعاصره ولم ترَه يلعب إلا عبر شاشات التلفاز بسبب ما قدمه لبلده بصفة عامة وبسبب ما قدمه لكرة القدم بالحلم والأمل الذي زرعه في نفوس وعقول كل من رأى صعوبة في تجاوز محيط قريته وتعريف العالم كله بمهاراته وقدراته.
أنهى بيليه حياته الرياضية مسجلاً عدد أهداف فاق ١٢٠٠ هدف، لاحقاً لم يعترف الاتحاد الدولي بكل تلك الأهداف بسبب عدم أهمية بعض المباريات الودية التي تم إحراز هذه الأهداف فيها وكذلك عدم احتساب أهداف بيليه مع المنتخب العسكري البرازيلي في الفترة التي تم تجنيده بالقوات المسلحة البرازيلية، لم يكن هناك منزل في هذا العالم حينها لا يعرف بيليه، لم تكن هناك جريدة لا تضع صورته، رغم ضعف التواصل بين البلدان كان بيليه حين قرر الاعتزال أشهر من كل الفنانين ورؤساء الدول.
قالوا عن بيليه
"اسمي رونالد ريغان، كلما أظهر على الناس لا بد أن أعرفهم بنفسي، أما بيليه عندما يظهر عليهم فلا يحتاج لذلك".
- رونالد ريغان رئيس الولايات المتحدة الأسبق
"عندما كنت لاعباً سجلت العديد من الأهداف الجميلة، لكن أبرز هدف سجلته في حياتي كان اسمه أديسون أرانتوس دو ناسيمنتو".
- دوندينيو والد بيليه
"كنت أُحمّس زملائي قبل المباراة النهائية وأقول لهم لا تخافوا منه، إنه مصنوع من الجلد والعظام مثل أي شخص آخر، لكني كنت مخطئاً".
- تارسيسو بورجنيتش، مدافع منتخب إيطاليا في كأس العالم ١٩٧٠
"ليس الصعب فقط أن تسجل ١٠٠٠ هدف مثل بيليه، الأصعب أن تسجل هدفاً واحداً بالكيفية التي كان يسجل بها بيليه".
- كارلوس دروموند دي أندرادي، شاعر برازيلي
"أعظم لاعب في التاريخ كان ألفريدو دي ستيفانو، أرفض تصنيف بيليه كلاعب، كان فوق ذلك".
- بوشكاش أسطورة المجر
"كان بيليه لاعب كرة القدم الوحيد الذي تجاوز حدود المنطق".
- يوهان كرويف
رسالة خاصة إلى بيليه
وفي عيد ميلاده الحادي والثمانين نرسل إليه الكثير من الحب والامتنان على الفرحة والبهجة والسعادة التي أدخلها لعالم كرة القدم، على الحلم والأمل والعمل لنشر اللعبة في بلده، وإمتاع العالم بفنه، وبالفنون البرازيلية، على انتشاله للعديد من أبناء وطنه من براثن الفقر، وتعريف العالم بهم وبموهبتهم الكبيرة.
سمّاه والده أديسون تيمناً بالعالم توماس أديسون، الذي أنار الدنيا للبشر، فجاء بيليه وأنار ملاعبهم وبيوتهم وحياتهم، ومهد طريق البطولة والنجومية لهم جميعاً.
عيد ميلاد سعيد لملك كرة القدم المتوج، عيد ميلاد سعيد للجوهرة السوداء.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.