النهاية تقترب، هذا ما قاله ميسي ليلة حصوله على كرته الذهبية السادسة. وإن كان تقبل الحقيقة أمراً صعباً على جمهور برشلونة آنذاك فهو أصعب الآن، وليس فقط لأنه بعد ثمانية أشهر باتت تلك النهاية أقرب وحقيقة أكثر من أي وقتٍ مضى. في أعماقه، كان يعلم جمهور برشلونة أن وقتاً سيحين لن يكون فيه ميسي لاعباً في فريقهم، ميسي قال في تلك الليلة: "أنا أبلغ 32 عاماً"، لكنهم لم يكونوا بحاجة ليُذكرهم أحد بالحقيقة.
ما لم يتخيله أحد هو أن يحين ذلك الوقت بهذه السرعة، وبهذه الطريقة، لم يتخيل أحد أن يكون هذا ما تؤول إليه الأمور؛ نهاية مؤلمة وكارثية كهذه.
إن كان جمهور برشلونة يتألم سابقاً عندما يتخيل وقتاً يتوقف فيه ميسي عن لعب كرة القدم فما هو أكثر إيلاماً هو أن يعيش واقعاً يتوقف فيه ميسي عن لعب كرة القدم بقميص ناديهم فقط، الأمر لا يتعلق بمغادرة ميسي، بل متى يُغادر، لماذا يُغادر وكيف يُغادر؟ إلى أين يُغادر أمرٌ لا يهم كثيراً أيضاً، لا يهم إن كان مانشستر سيتي، أو باريس سان جيرمان أو يوفنتوس. ما يهم هو أنه سيرتدي قميص نادٍ آخر. على الأقل حين قال ميسي إن النهاية تقترب، كان جمهور برشلونة يتخيل الوصول إليها معاً، أن يُشاهدوا مباراته الأخيرة مثلها مثل مباراته الأولى بقميص برشلونة، أن يودّعوه بكل شغف إن لم يكن بالدموع، أن يكون احتفالاً جماعياً بأعظم من ارتدى قميص ناديهم، احتفالٌ قد لا يحدث أبداً الآن.
ردود الأفعال وحدها على استخدام ميسي لكلمة "اعتزال" خلال تلك الليلة في ديسمبر/كانون الأول الماضي كافية لتوضيح الأمور: ألم جماعي، لحظة يقول فيها الجميع "لا تقل ذلك"، كما لو أنهم يحاولون الهرب من حقيقةٍ لم يتحملوا التفكير فيها. أما الإدارة فقد سارعت إلى الرد بدورها، فقال رئيسها جوزيب ماريا بارتوميو آنذاك: "ليو مازال أمامه وقتٌ طويل". الرئيس أكد أن "الكثير من ميسي مازال يتبقى" وسرعان ما تناقلتها صحيفتا سبورت وموندو ديبورتيفو على أغلفتها بشيءٍ من الحاجة واليأس في عناوينها. يُقال إن الرياضيين يموتون مرتين، تكون أولاهما عند الاعتزال، برشلونة حاول أن يتعلق بسنوات ميسي الأخيرة كما لو كان يحاول تأجيل المحتوم.
ما اتضح هو أنه لم يكن يتبقى عامٌ واحد حتى، بعد 20 موسماً في برشلونة منها 17 في الفريق الأول، بعد 34 بطولة و634 هدفاً باتت النهاية وشيكة. خبرٌ كان له وقع الصدمة على برشلونة والليغا التي تواجه واقعاً صعباً الآن، لكن هذا ليس مربط الفرس، يقول خورخي فالدانو إن اللاعبين يتجنبون الحديث عن الاعتزال كما يتجنب العامة الحديث عن الموت، لكن هذا مصيرٌ أسوأ من ذلك حتى، بالطبع ليس لبقية جماهير كرة القدم التي ستشعر بالحماس لرؤيته في نادٍ آخر بطبيعة الحال، لكن بالنسبة لجمهور برشلونة، سيشعرون بغرابة الأمر.
ميسي وقّع لبرشلونة على منديلٍ ورقي بعدما اتفق والده سريعاً مع تشارلي ريكساش على منديل ورقي في نادي التنس على الطريق، والآن يُغادر ببريدٍ إلكتروني، خطابٍ رسمي، طلبية مسجلة وصلت كامب نو في السابعة والثلث من مساء يوم الثلاثاء. دون رغبة في الحديث أو التصالح، قدّم ميسي إعلاماً قانونياً برغبته في الرحيل ومن دون مقابل، عملاً ببندٍ في عقده يسمح له بفعل ذلك.
يوم الأربعاء خرج المدير الرياضي رامون بلانيس، وقال إنه يريد أن يبني فريقاً بطلاً حول أفضل لاعبٍ في العالم، فكرة عظيمة ربما كان يجب أن تتبادر إلى أذهانهم في وقتٍ سابق. أما في الليلة التي سبقت فقد ردّ برشلونة ببريدٍ إلكتروني هو الآخر، مؤكداً أن البند ليس حيز التفعيل، لأن مدة تفعيله قد انقضت. النادي يؤكد أنه إن أراد ميسي الرحيل دون مقابل فكان عليه إبلاغهم بقراره قبل حلول العاشر من يونيو/حزيران الماضي، وقد فعل ذلك في الخامس والعشرين من أغسطس/آب: فرصته انتهت. النادي ذكّر ميسي أن شرطه الجزائي ما زال 700 مليون يورو، وأكد على رغبته في استمرار الأرجنتيني.
لا سبيل للتصالح، حين يصل طرفان إلى مرحلة أن يكون الحديث بينهما من خلال محامين وخطابات رسمية، فكل ما يتبقى هو التفاوض أو التعارك، تقليل الضرر أو المخاطرة بمضاعفته. السؤال الآن هو ما ينص عليه البند: هل ينص على موعدٍ محدد، وإن كان ينص فما هو الموعد؟ إن كان ينص فالموقف القانوني واضح، وإن لم يكن أو كان ينص على موعدٍ أكثر شمولاً مثل نهاية الموسم فقد تصل الأمور إلى المحاكم، نعم قد يصل الأمر للمحكمة حقاً، نادٍ ضد قائده.
قائده؟ بل أفضل لاعب سبق أن لعب له، بل ربما أفضل لاعب سبق أن لعب اللعبة بأكملها، لكن هذا هو الواقع: لا وجود لحلول الوسط الآن.
إن كانت المعركة قد انتهت بحلول الوقت الذي أبلغ فيه ميسي النادي بقراره فقد خُسِرَت الحرب وانتهى الأمر. كيف ستكون للعلاقة عودة بعد هذا؟ وكيف وصلت إلى هذا؟ ما مدى سوء العلاقة الذي يصل بميسي إلى أن يكون عازماً جداً ومستميتاً على الرحيل، ومقتنعاً جداً أنه لا شيء يجعله يبقى إلى أن يُعلَن رحيله بهذا الشكل؟ وكلما تعمقت في الأمر، تظهر أسئلة أكثر. على سبيل المثال، لنعد بضع سنوات للخلف، ونتساءل كيف يُعقل أن يرغب ميسي عندما جدد عقده عام 2017 في وجود بند رحيل في عقده من الأساس؟ لماذا أدرج بنداً يُمكّنه من الرحيل دون مقابل متى أراد؟ كيف يُعقل أن إدارة برشلونة سمحت بذلك؟
على مدار عامين لم يلجأ ميسي لهذا البند حينما كان بمقدوره ذلك، إلا أن السقوط استمر، وانحدار النادي تواصل، وتوالت الليالي السوداء: روما، ليفربول ولشبونة. يتحمل ميسي جزءاً من اللوم عليها، لكنه شاهد سنوات مجده تروح سنة تلو الأخرى دون كأسٍ أوروبية، شاهد زملاءه يُغادرون، وآخرون يأتون ويفشلون. وفي النهاية، طفح الكيل وبلغ السيلُ الزُّبَى.
صدمة ليست بالكبيرة أن يتخذ ميسي هذا القرار بعدما أخذ غضبه وانزعاجه يطفوان على السطح أكثر وأكثر. العلاقة بين ميسي والإدارة ليست سيئة، بل هي بهذا السوء الذي يجعل قراره لا يُمثل صدمةً. صدامه مع الإدارة ازداد حدة وانتشاراً في الإعلام، وأخذ غضبه يزداد وضوحاً، لكن بشكلٍ ما لم يشعر أحد بأن التهديد حقيقي -وبالأخص النادي على ما يبدو لم يتوقع الخطر- بل كان الكل يتعامل مع رحيل ميسي على أنه تهديد وليس هدفاً حقيقياً.
المفاجأة ليست في وجود المشاكل بين ميسي والإدارة، بل كونها عميقة وغير قابلة للحل إلى هذا الحد، وقرار ميسي يُزيد المشاكل أكثر وأكثر. الأزمة المستمرة لأكثر من خمس سنوات وصلت إلى مرحلة أجبرت ميسي على أن يُدير ظهره لكل شيء: ناديه، زملائه، منزله، وخططه الشخصية.
عندما أخذ ميسي قراره سانده كارلوس بويول، وعبّر لويس سواريز عن دعمه بالتصفيق، بينما قال أرتورو فيدال إنك عندما تحاصر النمر فهو لا يستسلم، بل يُقاتل.
إنها الحرب والعداء على الملأ، وفي قلب المعمعة يقبع النادي، أو ما تبقى منه، نادٍ حتى أعظم رموزه قد تلطخ الآن، الصراع الآن داخلي، سيأخذ فيه الكل صفّاً، ليس هنالك سبيل للعودة، حتى إن نجح النادي بشكلٍ ما في إقناع ميسي بالبقاء فلن تعود الأمور لسابق عهدها أبداً.
البعض رأى خطوة ميسي وسيلة تهديد، في محاولة أخيرة منه لإحداث التغيير في رأس الهرم الإداري، إلا أن الأمور تخطّت الآن بارتوميو، الرئيس الذي لن يستقيل على أي حال، ففي ظل حاجته لإصلاح الفوضى المالية التي قد تصبح ديناً شخصياً عليه، بارتوميو حرفياً لا يُمكنه تحمل الاستقالة.
وبذلك تنتهي الأمور، كل شيء يتغير بالنسبة للجميع، ليس لأن ميسي راحل، بل لكيفية رحيله والضرر الذي سببه، حتى وإن حصل برشلونة على مال يكفيه لحل الأزمة المالية، وحتى إن بنى فريقاً حقق البطولات دونه، حتى وإن لم يُبل البلاء الحسن أينما كان ينوي الذهاب، وحتى وإن ندم على الرحيل، ومن ناحية ما، هو يعلم يقيناً أنه سيندم، حتى وإن تحقق كل ذلك ستظل هذه غصة لن تزول أبداً.
الأمر لا يتعلق بالموسم المقبل، بل بكل موسم، هذه اللحظة ستظل دائماً في التاريخ، ستظل دائماً اللحظة التي فقد فيها ميسي جزءاً من إرثه في برشلونة، ستظل لحظة تُثير الامتعاض، ستظل رمزاً للسقوط، رمزاً لفشلٍ في منتهى السوء، رمزاً لأزمةٍ أخذت في النهاية كل شيءٍ معها، حتى هو.
ستتذكر الجماهير دائماً أنه حينما اشتدت الأزمة على النادي قرر أفضل لاعبٍ ارتدى قميصه أن يرحل، بل وفعل ذلك من خلال خطاب. الخبر الذي كانوا يخشونه أكثر من أي احتمال آخر في تاريخ النادي بأكمله جاءهم عبر طلبية مسجلة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.