علاقة كرة القدم والجماهير علاقة قوية طبيعية، كعلاقة الأم برضيعها، فلم يكن لسحر المستديرة أن يكتمل دون امتلاء مدرجات الملاعب بصانعي الآهات وقت التحسر على ضياع الفرص، وذارفي الدموع حزناً على سقوط فريقهم، والمرتفعة أصواتهم فرحاً بعد تسجيل هدف.
أولتراس، هوليغانز، أو مشجع عادي، كلهم يوحدهم لون فريقهم يوم المباراة، هتاف وتشجيع متواصلان طيلة التسعين دقيقة، يجسدان أبرز مظاهر الوفاء والانتماء اللامشروطين.
لَطالما تغنت الصحافة ووسائل الإعلام بجماهير اللعبة الشعبية الأولى في العالم، واصفةً إبداعاتهم في المدرجات بالمبهرة والمحفزة لأداء اللاعبين وسط رقعة الملعب، وأمطرتهم بعبارات الثناء والمديح على أدوارهم في مساندة أنديتهم والضغط على المنافس. في عرف السلطة الرابعة الجمهور مرادف للاعب رقم 12، لكن غياب المناصرين عن مسارح كرة القدم إثر التدابير الوقائية لمواجهة فيروس كورونا أظهر أن الجمهور هو اللاعب رقم واحد، وقطعة أساسية في أحجية الكرة، سواء تعلق الأمر بالجانب السيكولوجي المعنوي أو الجانب الاقتصادي المادي.
لم يكن أحد من متتبعي الكرة يوماً يتوقع أن يشاهد لاعبي ليفربول يمضون وحيدين على ملعب الأنفيلد، بعد تتويجهم بلقب الدوري الإنجليزي الغائب عنه طيلة ثلاثة عقود، أو يرى مباراة لبوكا جونيورز لا ينبهر فيها بمشاهد الجنون والعشق في مدرجات البومبونيرا، أو يسمع أصوات المدربين واللاعبين عوض صخب أولتراس "الوينرز" و"الجرين بويز" بملعب محمد الخامس.
فراغ المدرجات وصمتها جعل الملاعب تبدو كالبيوت المهجورة، وأتعب ذلك عقول المشاهدين وراء الشاشات، فسارعت القنوات الناقلة إلى تسخير التكنولوجيا لإعادة الحياة للمدرجات، فاستعانت بأصوات وصور جمهور افتراضية، وإخراج تلفزيوني يركز على المستطيل الأخضر أكثر من المعتاد. تقنية الجمهور الافتراضي لقيت استحساناً، بالنظر لتماشيها مع سياق المباريات، إذ كان القائمون على تطبيق التقنية يذيعون أصوات التصفيق بعد لقطة فنية رائعة أو هجمة منظمة، كما أذاعوا صافرات الاستهجان بعد رفض الحكم احتساب ضربة جزاء، لكن في الواقع لا شيء يمكنه أن يحل محل الجمهور أو يكون بنفس حرارته، ما هو آلي لا يمكن أن يعوض ما هو بشري، فالحضور الجماهيري ليس عبارة عن أصوات تعلو وتخفت أثناء مجريات المباراة.
تواجد 60 ألف مشجع أو ما يزيد عن ذلك يُلهب حماس اللاعبين، أحاسيس الفرح والغضب والحزن لن تستطيع التكنولوجيا إيصالها للفريق، ففي عديد من المناسبات التاريخية لكرة القدم كان الجمهور عاملاً أساساً في الفوز وشحذ الهمم، لنسج سيناريوهات جعلت العالم يعشق كرة القدم، فما أصبح يُعرف اليوم بالريمونتادا من الصعب تحقيقه لو لم يكن للجماهير هيبة وقيمة لا يمكن وصفها.
إلى جانب هذا فالأندية تكبدت خسائر مادية جسيمة، إثر غياب الجماهير التي تشكل دخلاً قارّاً ومهماً في اقتصاد الأندية.
لا يستطيع أحد التكهن بموعد عودة الفرجة إلى المدرجات العالمية، وعودة اللعبة إلى تشويقها الطبيعي، في ظل استمرار فيروس كورونا المستجد. لكن الأكيد أن عشاق الكرة صغاراً وكباراً اشتاقوا للإحساس بزلازل المدرجات على اختلاف ألوانها وانتماءاتها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.