في نفس الوقت الحالي، قبل 50 عاماً من الآن، وبالتحديد يوم 22 أكتوبر/تشرين الأول من عام 1969، جمع أوزفالدو زوبيلديا، مدرب نادي إستوديانتيس، فريقه في غرفة 704 من فندق "نوغارو" بمدينة بيونس آيريس لإلقاء محاضرته الأخيرة قبل انطلاق رحلتهم إلى ملعب لا بومبونيرا، فقد كانوا على موعد مع خوض مباراة ضد نادي ميلان على كأس القارات في تلك الأمسية.
ومع خسارتهم في إيطاليا بثلاثة أهداف دون مقابل، كانت مهمتهم شاقة، لكنها ليست مستحيلة على الإطلاق، فقبل دخوله مباشرة إلى الغرفة، أخبر مراسل مجلة El Gráfico الأرجنتينية عما ينوي قوله بالضبط، حيث قال: "أعتقد أن لدينا فرصة للنجاح بنسبة 20%؛ لكن سيكون الأمر أصعب كثيراً إن فقدنا تركيزنا، الأمر المهم هو أن نبقى هادئين، وأن نلعب جيداً، وأن نحاول الفوز بهذه المباراة حتى وإن عجزنا عن تعويض التأخير في النتيجة الإجمالية، لنقدر أنفسنا جيداً، ونمنع طرد أي منا. العبوا جيداً واخرجوا إلى الملعب بنية الفوز، لكن دون تهور".
أنصت فريقه المحتشد في الغرفة الضيقة باهتمام، وفكروا في الأمر جيداً، ثم ذهبوا إلى الاستاد ولعبوا بعنف شديد، لدرجة أن ثلاثة منهم انتهى بهم الحال خلف قضبان السجن.
لا يمكن أن يدعي زوبيلديا البراءة، فقد كان مدرباً تميل فرقه دائماً إلى العنف وأعمال الغدر المتعمدة، يقول خوان رامون فيرون، لاعب خط الوسط، إن إستوديانتيس كان يتلقى تقريراً قصيراً عن "عادات وشخصيات ونقاط ضعف، وحتى الحياة الخاصة لمنافسيه" ليتمكنوا بأفضل ما يمكن من دفعهم لارتكاب ما يؤدي إلى طردهم.
ومثل العديد من الفرق التي حققت نجاحاً خاصاً (مثل التيكي تاكا في هولندا وإسبانيا أو الكاتيناتشو في إيطاليا، التي كان نيريو روكو، مدرب ميلان، من أوائل مَن استخدموها)، حصل تكتيك الفريق الأرجنتيني على اسمه الذي منحوه إياه: إل أنتي فوتبول. ومن خلال استخدامه، وصلوا إلى أربعة نهائيات متتالية في كأس كوبا ليبرتادوريس، وفازوا بثلاثة منها، وهزموا مانشستر يونايتد في عام 1968 في إطار منافسات كأس القارات (وصفهم اللاعب الاسكتلندي بادي كريراند بـ "أقذر فريق واجهته على الإطلاق").
أصر زوبيلديا قائلاً: "لا يمكنك الفوز بكأس القارات باللعب بطريقة أنتي فوتبول". وتابع: "ما حدث مع إستوديانتيس بعد 1968 كان أننا تعبنا ونفدت قدرة اللاعبين على التحمل. وكان ثمة الكثير من الجولات والمباريات الودية، فأصيب الفريق بأكمله، وهذا هو سبب لجوء اللاعبين، الذي لم يملكوا القوة الجسدية الكافية للعب، إلى الحيل القذرة. ما يسمى أنتي فوتبول ليس استراتيجية، بل كان ضرورة".
حسناً، ربما في تلك الليلة من أكتوبر/تشرين الأول 1969، كانت الأجواء المخيمة على ملعب لا بومبونيرا محمومةً، لدرجة أن ميلان قلل من فترة الإحماء بسبب مستوى الإساءة الذي كان يتلقاها. ثم بدأت المباراة وبدأ العنف. في الشوط الأول من المباراة أسقط حارس مرمى إستوديانتيس، ألبيرتو خوسيه بوليتي، مهاجم ميلان بيرينو براتي، على الأرض -وكان ذلك عند خط الوسط حينما حصل أصحاب الأرض على ضربة ركنية- ثم خرج براتي من المباراة بعد تلقيه ضربة بالرأس من رامون سواريز.
بعد ذلك بوقت قصير، أحرز ريفيرا -الذي تلقى ضربة وهو ملقى على الأرض من إدواردو مانيرا- هدفاً ليمنح ناديه ميلان تقدماً إجمالياً بنتيجة 4 مقابل 0، وهو ما هيج خصومهم بدرجة أكبر. عاد إستوديانتيس في تلك الليلة ليتقدم بهدفين مقابل هدف واحد، قبل أن يتدخل سواريز بعد وقت قصير من الاستراحة بإساءة أخرى.
وبحسب مجلة La Stampa الإيطالية: "بعد إهانة نيستور كومبان بشكل رهيب والبصق عليه، لَكم سواريز خصمه بوحشية في أنفه". تكوم كومبان على أرض الملعب، وغطت الدماء وجهه، ثم حُمل على النقالة، لكن تبيّن فيما بعد أن هذا لم يكن أقصى ما ستصل إليه تلك الأمسية.
فبعد المزيد من الأخطاء الوحشية وعدم تسجيل أي أهداف أخرى، انتهت المباراة، وعاد اللاعبون إلى غرفة تبديل الملابس، فيما كان بعضهم يسدد لكمات إضافية إلى الضيوف طوال الطريق. بوجهه المتورم وكرات الصوف القطني المحشوة في فتحتي أنفه لإيقاف النزيف، خرج كومبان ليصطحب مدرب الفريق.
ولكن بينما كان يمشي في طريقه في ساحة انتظار السيارات، شوهد محاطاً بستة أشخاص غير مألوفين، أخذوه عنوة في سيارة خضراء من دون لوحة. قفز أحد المعجبين على مقدمة السيارة محاولاً منعها من المغادرة، لكن الشرطة جذبته إلى الخلف وضربته. في تلك اللحظة، تخيل نادي ميلان أن ليلته المليئة بالجدل والارتباك اقتربت من نهايتها، لكنها كانت قد بدأت للتو.
كان كومبان قد ولد في الأرجنتين، وعكفت وسائل الإعلام المحلية قبل المباراة على تصويره خائناً، ولاسيما بالنظر إلى أنه لم يؤد الخدمة العسكرية الوطنية. ووجه إليه القاضي في مقاطعة سانتا في، مسقط رأسه، تهمة التجسس في عام 1963، وبدأت تكهنات كثيرة بأنه قد يكون معتقلاً وتُوَجه إليه تهم متعلقة بالفرار من الخدمة العسكرية.
وهو مصدر قلق حقيقي أدى إلى رفض الكثير من لاعبي كرة القدم المولودين في الأرجنتين العودة إلى بلادهم. لكن كومبان كان قد خدم في الجيش الفرنسي، وبموجب اتفاقية بين البلدين لم يكن عليه أي التزام تجاه مسقط رأسه. غير أن هذا لم يثنِ شرطة بيونس آيريس عن اختطافه.
في الساعات الأولى من صباح الخميس، طاف الصحفيون الإيطاليون مراكز الشرطة في المدينة بحثاً عن اللاعب المفقود. وفي الثانية صباحاً، حُدد مكان اللاعب. ولكن بعد مرور 45 دقيقة، نُقل في سيارة أخرى إلى مكان آخر، وهذه المرة كان مكانه السجن العسكري. وفي الساعة 3:30.
عاد مسؤولو ميلان أخيراً إلى فندقهم، حيث انهار أحدهم، وكان قد تلقّى ضرباً على رأسه بهراوة من أحد رجال الشرطة. وفي الساعة الرابعة صباحاً، اتُّهم كومبان رسمياً بالفرار من الخدمة العسكرية، وشرع مسؤولو نادي ميلان في جمع الأدلة لتبرئته، فقد كان اللاعب قد اتخذ احتياطاته بجلب شهادة أدائه الخدمة العسكرية ورسالة من القنصلية الفرنسية في ميلان.
وفي 10:30 صباحاً، سُمح لكومبان الذي بدا عليه الإرهاق والترنح بالتحدث باختصار إلى الصحفيين ("ظل سواريز يقول: سأكسر رجلك وظل يبصق على وجهي. لا أعلم بحق لماذا كان يُكنَّ لي هذه الكراهية"). وفي الظهيرة، وبعد تدخل خوان كارلوس أونغانيا، الرئيس الأرجنتيني، أُطلق سراحه ونُقل إلى المطار للانضمام إلى زملائه في رحلة العودة إلى الوطن.
شاهد أونغانيا المباراة التي أُذيعت أمام أعين العالم بأسره، وتحدث لاحقاً عن "المشهد المؤسف الذي ينتهك أخلاقيات الرياضة الأساسية". وبناءً على طلبه، أصدرت الشرطة أوامر اعتقال في حق بوليتي وسواريز ومانيرا، الذين سلموا أنفسهم في المساء. وتلقى الثلاثة أحكاماً بالسجن لمدة 30 يوماً ومُنعوا من لعب كرة القدم لوقت طويل.
أدت تلك المباراة إلى وصم سمعة الأرجنتين بالغدر، وما أسهم فيه أيضاً بالفعل مباراتها ضد إنجلترا في ربع نهائي كأس العالم 1966 ومباراة إستوديانتيس أمام اليونايتد. ولكن في الحقيقة، كان العنف المماثل مرضاً عالمياً.
فقد شاهد جواو سالدانها، المدير الفني لمنتخب البرازيل، مباراة الذهاب الأولى من المدرجات في ميلان، بينما كان في رحلة مطولة لاستكشاف المواهب في أوروبا، حيث رأى الكثير من الوحشية المماثلة، وقد أخبر صحيفة The Guardian البريطانية قائلاً: "الكاراتيه لعبة جيدة، اعتدت لعب الكاراتيه وأحبها، ولكن يجب ألا تُمارس بأحذية كرة القدم". وأضاف: "في مباراة رومانيا أمام البرتغال ويوغوسلافيا أمام بلجيكا، بدأت الركل عند السرة، ثم أتّجه أعلى فأعلى… فلِماذا نلعب إذا لم تعد المباراة خاصة بكرة قدم؟ وإذا وُضعت القوانين في القمامة وأصبح لدينا قانون الغاب بدلاً منه؟".
ومع ذلك، كانت الأرجنتين بارعة في هذا المزج بين كرة القدم والكاراتيه، والأسوأ لم يكن قد أتى بعد. فبعد 18 شهراً تقريباً من مباراة ميلان لعب نادٍ أرجنتيني آخر، وهو نادي بوكا جونيورز، ضد نادي كريستال من بيرو، في إطار منافسات كأس كوبا ليبرتادوريس.
وبعد دقيقتين من نهاية المباراة، اندلع عراك خلّف جمجمة وأنفاً مكسورين، وذاع مشهد لضرب لاعب لآخر بعصا راية الزاوية، وتوفيت والدة أحد البيروفيين بأزمة قلبية، بينما كانت تشاهد ابنها وهو يتعرض للضرب على شاشة التلفاز، وأشهر الحكم 19 بطاقة حمراء، وربما انتاب لاعبي ومسؤولي نادي ميلان آنذاك شعورٌ بأن كافة ما مروا به -مقارنة بهذا- كان لطفاً كبيراً في الحقيقة.