عرف فخر الدين بيانيتش أن الحرب قادمة، فوظيفة لاعبي كرة القدم تفرض عليهم السفر في مختلف أنحاء بلدانهم.
كان شاباً يدافع عن ألوان درينا زفورينك الذي ينافس في دوري الدرجة الثالثة اليوغوسلافي، شعر فخر الدين خلال أسفاره بالتوترات السياسية والاجتماعية التي تعصف في يوغوسلافيا في بدايات تسعينيات القرن الماضي.
كان حينها أباً لطفلٍ وليدٍ، هو ميراليم. غريزة البقاء دفعته للتفكير بالخروج من البلاد قبل أن يقع الأسوأ – حربٌ لا تُبقي ولا تذر -.
حاول بيانيتش الأب الخروج من يوغوسلافيا بأي طريقة، وساعده أصدقاؤه في لوكسمبورغ على التواصل مع فريق شيفلانغ شبه المحترف، والذي قدَّم له بدوره عقداً جزئياً وساعده في العثور على وظيفةٍ تؤمن له تكاليف المعيشة.
كيف الخروج من يوغوسلافيا؟
لم تعد المشكلة في العثور على عمل، بل بات همّه إقناع مسؤولي درينا زفورينك بتسريحه حتى يتسنى له توقيع عقدٍ جديد، والحصول على أوراق العمل المطلوبة للسفر.
ذهب بيانيتش الأب للحديث مع سكرتير النادي مرتين، وفي المناسبتين عاد خالي الوفاض.
لم يعد أمام العائلة خيار سوى البقاء في يوغوسلافيا وتحمّل ويلات الحرب. لكن فاطمة (زوجة فخر الدين) قررت أن تحاول بنفسها، وحملت طفلهما بين يديها وتوجهت إلى النادي.
كان ميراليم بيانيتش صغيراً جداً على أن يدرك ما يحدث حوله، لكن رواية القصة صارت من تقاليد العائلة.
فيتذكر ما حدث قائلاً لصحيفة The Guardian البريطانية، "أرادت أمي أن نغادر البلاد بكل تأكيد، لكن النادي استمر في الرفض. ثم بدأت أنا في البكاء. أغضب هذا سكرتير النادي كثيراً ليقولوا أخيراً: حسناً، سوف نوافق من أجل هذا الطفل الصغير فقط".
آلاف البوسنيين قضوا على يد الصرب في زفورنيك
يبلغ هذا الطفل من العمر الآن 28 عاماً، ويُعد أهم لاعبي وسط يوفنتوس الإيطالي.
غيّر بكاؤه أمام مسؤولي نادي والده مشوار حياته وحياة عائلته إلى الأبد، فحرر أبويه اللذين اصطحباه إلى لوكسمبورغ، حيث ترعرع في أمانٍ، في الوقت الذي كان أمثاله من البوسنيين يُقتلون في مدينة زفورنيك، وكان الآلاف يُجبرون على الخروج من منازلهم.
زفورنيك التي تقع حالياً ضمن جمهورية صرب البوسنة التابعة لاتحاد البوسنة والهرسك، شهدت بين عامي 1992 و1995 فظائع لن ينساها تاريخ المدينة. ففي 19 مايو/أيار 1992، دخلت القوات والميليشيات الصربية المدينة، وقتلت آلاف البوسنيين المسلمين وهدمت وأحرقت مساجد زفورنيك.
دُفن الموتى في مقابر جماعية، فيما نُقل الباقون من مسلمين وكروات إلى معسكرات اعتقال ضمّت أبناء المدينة التي ينحدر منها بيانيتش والقرى المحيطة بها من غير الصرب.
عائلة مستقرة نجت من ويلات الحرب الأهلية
بينما كان يجلس على منضدةٍ في غرفة اجتماعاتٍ داخل المقر الجديد لنادي يوفنتوس في حي كونتيناسا بمدينة تورينو، اتسعت عينا ميراليم بيانيتش وهو يفكر في ما مرّ به أبواه، "كانا صغيران بعمر 20 و22 عاماً، وذهبا إلى هذا البلد الجديد حيث لا يتحدثان لغة أهله وبدون أي شيء: حقيبتان أو ثلاث حقائب".
وأضاف، "بدأ كلاهما من الصفر ودبرا أمورهما ليُكوِّنا أسرة سعيدة، ولا يزالان يعيشان هناك مع بعضهما بعد 27 عاماً. إنه شيءٌ جميلٌ. والآن يعيشان حياة جيدة حقاً في لوكسمبورغ، ولديّ أخت وأخ يترعرعان بصورة جيدة حقاً. قدَّم أبواي مثالاً حقيقياً من خلال ما نجحوا في تحقيقه دون أي شيء".
كان فخر الدين يعمل بالنهار وفاطمة بالليل، كي يكون أحدهما متاحاً دائماً لرعاية ابنهما. كان ذلك يعني بالنسبة لميراليم أن يمضي لحضور تدريبات فريقشيفلانغ في كل مساء.
أشرق وجهه عندما تحدث مراسل The Guardian باولو بانديني، عن مساعدته لوالده في تجهيز حقيبة التدريبات؛ وهي مهمة قد يتخيل بعض الأطفال أنها روتينيةٌ ومملةٌ، لكن صوته وهو يروي عن هذه المهمة يجعلها تبدو كأنها أعظم شرفٍ يمكن أن يحظى به المرء في العالم.
يقول ميراليم، "كان أبي لاعب ارتكاز، مثلي، وكان جيداً أيضاً. عندما شاهدته وهو يلعب، على مرِّ سنين عمري، استطعت أن أرى أنه عرف حقاً كيف يلعب. لم تكن لديه الفرص ليزدهر ويحظى بمسيرة مهنية رائعة كالتي حظيت بها، لكنه فعل ما استطاع. كان هدفه على كل حال أن يغادر بلداً كانت عائلته تواجه خطراً فيه. كرة القدم لم تكن الشيء الأهم".
من لوكسمبورغ إلى تورينو.. مروراً بفرنسا!
حقق بيانيتش الابن تقدماً كبيراً في مسيرته ليبدأ في أشبال فريقشيفلانغ وينتقل بعد ذلك إلى نادي ميتز الفرنسي، ثم إلى نادي ليون الفرنسي، ثم إلى نادي روما الإيطالي، والآن يشكل ميراليم بيانيتش إحدى ركائز فريق "السيدة العجوز".
صار لقبه في إيطاليا Il Pianista (عازف البيانو)، بالرغم من أن حضوره في المستطيل الأخضر أشبه بأداء قائد الأوركسترا، إذ ينظم اللعب من منتصف الملعب ليساعد باقي "العازفين" من حوله على التألق.
يقول ميراليم، "لست شخصاً قادراً على تنفيذ 10 تمويهات من فوق الكرة للمراوغة، أو ركل الكرة بكعب القدم، فلست مهتماً بهذا كثيراً. إنني أحب بالبساطة في اللعب؛ لأن هذا هو الشيء الذي يجعل هذه الرياضة جميلة. وأبسط الأشياء تكون الأصعب في الغالب. لا يستطيع الجميع القيام بها".
ويضيف اللاعب البوسني، "كنت محظوظاً بأن أرى لاعبين من أمثال زين الدين زيدان، وتشافي هيرنانديز، وإنييستا، وآندريا بيرلو عن كثب. وجميعهم يجعل الأمور بسيطةً من أجل فريقه. ويجعلون فريقهم كله يلعب جيداً بأشياءٍ قليلةٍ لا تُلاحَظ دائماً. إنهم يفكرون في ما يحدث ويتخذون خطواتٍ ليُسَهِلوا الأمور على زملائهم من حولهم".
بيانيتش: كريستيانو رونالدو أصبح أكثر نضجاً
في حديثه لبانديني مراسل The Guardian، يستحضر مراوغات النجم البرتغالي كريستيانو رونالدو، الذي التحق بصفوف يوفنتوس في صيف 2018.
يقول ميراليم بيانيتش، "إذا نظرت إلى رونالدو عندما كان في مانشستر يونايتد، ثم إلى رونالدو الذي صار أفضل لاعب كرة قدم في العالم، يمكنك أن ترى أن طريقة لعبه قد تغيرت. صارت طريقة لعبه أكثر واقعية".
ويضيف، "قرأت كثيراً من الأشياء التي قالها رونالدو عن بول سكولز وكيف كان يتدرب. الجميع يتحدثون عن سكولز على أنه كان استثنائياً، لكن ليس لأنه كان يقوم بأمورٍ خرقاء، بل من خلال تبسيط الأمور، مَنَحَ خصوصيةً لنفسه. أعتقد أن رونالدو تعلم من لاعبين مثل ذلك".
يرفض تقليد تسديدة جونينيو برنامبوكانو!
لدى ميراليم بعض اللاعبين الاستثنائيين من زملائه للتعلم منهم. وربما أكثرهم تأثيراً كان البرازيلي جونينيو برنامبوكانو، الذي اعتبره كثيرون أفضل منفذٍ للركلات الحرة في تاريخ الساحرة المستديرة.
لعب بيانيتش بجوار برنامبوكانو لعام واحد في صفوف ليون الفرنسي، وحمل رقم القميص 8 خلفاً له، ولا يزالان على اتصال دائم.
كتب آندريا بيرلو في سيرته الذاتية عن هوسه بركلة اللاعب البرازيلي التي وصفها بـ Maledetta (الملعونة)، "إنها ركلة يمكن أن تعلو الحائط البشري الذي يشكله اللاعبون دون كثير من الدوران قبل أن تبدأ في الدوران بسرعة أكبر بكثير وتسكن الشباك بكل قوة"، غير أن هذا الأسلوب ليس ما جعل بيانيتش ينبهر بجونينيو برنامبوكانو.
يقول اللاعب البوسني، "بكل أمانة، ليس الفارق بين جونينيو واللاعبين الآخرين أنه استطاع تنفيذ ركلة Maledetta، بل لأن جونينيو عندما كان ينفذها، كانت الكرة تسكن الشباك عادةً. ولهذا كان جونينيو اللاعب رقم واحد في تنفيذ الركلات الحرة، لأنه كان واقعياً. كانت ركلاته الحرة تنتهي دائماً إما في الشباك أو تكون تمريرةً ناجحةً للتسديد".
رونالدو حرم بيانيتش من تسديد الركلات الحرة
أحرز بيانيتش 15 هدفاً من ركلات حرة مباشرة في الدوري الإيطالي منذ انضمامه إلى روما في 2011. غير أن فرصه صارت محدودة منذ انضمام رونالدو إلى الفريق. تقول القاعدة العامة غير الرسمية على ما يبدو، "أي لاعب يشعر أنه قادر على التسديد"، لكن النجم البرتغالي يبدو في الحالة المزاجية الجيدة في مناسبات كثيرة جداً حتى الآن.
وإذا كان بيانيتش غير سعيد بهذا الترتيب، فإنه يحاول أن يخفي هذا الشعور. إذ إنه يستمتع بكرة القدم، ويستمتع بالنجاح. لم يتمكن بيانيتش من الفوز بأي لقبٍ قبل انضمامه إلى يوفنتوس في 2016، لكنه فاز ببطولتي دوري متتاليتين في تورينو.
يقول اللاعب ابن الـ 28 عاماً، "أحب مشاهدة الفرق التي تلعب كرة قدم جيدة، أي كرة قدمٍ على الأرض، ومن قدمٍ إلى قدمٍ، وأن تلعب جيداً بطريقة جماعية. لعب فريق نابولي كرة قدم جميلة في السنوات الأخيرة. لكن إحراز لقب، أو كأس، والاحتفال به مع أصدقائك، هو ما يجعل المشجعين سعداء، وتلك هي المكافأة على العمل الشاق الذي تبذله. أي شيء يمكنك الاحتفاظ به".
ويضيف، "عندما تلعب جيداً ولا تكسب بشيء، فإنك تكون مرهقاً في النهاية. لقد فقدت شيئاً. لقد فقدت الوقت".
بيانيتش مؤمن بحظوظ يوفنتوس بدوري أبطال أوروبا
استعصى لقب دوري أبطال أوروبا على يوفنتوس في هذه الحقبة، إذ إن الفريق خسر مبارتين نهائيتين في 4 أعوام.
كان بيانيتش ضمن صفوف الفريق الذي خسر أمام ريال مدريد الإسباني في كارديف في النعام 2017 بنتيجة 4-1.
أحرز رونالدو هدفين في تلك المباراة، وقد جلب قدومه إلى تورينو تفائلاً بأن الـ "بيانكونيري" – وهو أحد الأسماء التي يشتهر بها نادي يوفنتوس -، قد يصعد أخيراً إلى منصة التتويج.
يختم بيانيتش، "كانت بطولة دوري أبطال أوروبا مهمة دائماً لنادي يوفنتوس. إنه هدفٌ لنا لنصل إليه في النهاية، أن نفوز بكل شيء. لدينا مميزات كبيرة ونؤمن بهذه المجموعة. لكنها خطوةٌ بخطوة. وهدفنا الأول أن نحصل على المركز الأول في المجموعة".
بيانيتش.. مسيرة رائعة مع يوفنتوس
يعد بيانيتش أحد أهم اللاعبين الذين أنجبتهم البوسنة والهرسك، إلى جانب مواطنه إدين دزيكو المحترف في صفوف روما الإيطالي.
نجوميته الحقيقة بدأت خلال رحلته مع روما بين عامي 2011 و2016، حيث شارك في 159 مباراة سجّل خلالها 27 هدفاً لنادي العاصمة الإيطالية.
وفي صيف 2016، قرر يوفنتوس شراء النجم البوسني. فلعب مع "السيدة العجوز" موسمين شارك فيهما بـ 116 مباراة، وهزّ الشباك في 18 مناسبة، ليحقق لقب الدوري الإيطالي مرتين، ولقب الكأس المحلية مرتين أيضاً، إلى جانب كأس السوبر الإيطالية مرةً واحدة.
أما على الصعيد الدولي، فشارك بيانيتش بـ 83 مباراة دوليةً مع منتخب البوسنة والهرسك، أحرز خلالها 12 هدفاً.
شارك "الأمير الصغير" كما يلقبه البوسنيون في كأس العالم 2014 بالبرازيل. لكن منتخبه خرج من الدور الأول.