عندما اجتاحت حشود الجماهير شوارع باريس كي تحتفل بتأهل فرنسا إلى المباراة النهائية بعد فوزها في مباراة نصف النهائي التي أُقيمت مساء الثلاثاء 10 يوليو/تموز، انتشرت هنا وهناك صور لأشخاص يرتدون قميص المنتخب الفرنسي الذي يعود إلى بطولة كأس العالم التي أُقيمت في فرنسا عام 1998.
تبدو هذه القمصان أوسع من نظيراتها التي تباع الآن، وذات لون أزرق أزهى، وبخطٍ أحمر وياقةٍ بيضاء. ويظهر على ظهور القمصان أسماء لاعبي جيل أقدم (زيدان، وتورام، وهنري) فازوا في ذلك العام باللقب الأول والوحيد الذي حققته فرنسا في بطولات كأس العالم. يبدو بعضهم حافظ على القميص بحرصٍ داخل خزانته لعشرين عاماً، وربما أخرجه مرة أو مرتين في انتظار ليلةٍ كهذه.
ولمَّا كانت فرنسا طرفاً في المباراة النهائية التي تنطلق يوم الأحد 15 يوليو/تموز، يسود شعور بأن كل محادثة تقريباً تجد طريقها بطريقة ما عائدةً إلى قرنٍ آخر، وما إذا كان ما حدث عام 1998 سوف يتكرَّر.
أُسِّسَت بطولات كأس العالم لتخلق حلقات من الذاكرة والأمل
لم يكن نجم هجوم المنتخب الفرنسي، كيليان مبابي، وُلِد من الأساس، وكذلك لم يكن قد وُلِد عديدٌ ممن احتفلوا ليلة الثلاثاء. إلا أنهم ترعرعوا على الإنصات، مراراً وتكراراً، إلى أشياءٍ تتعلَّق بهذه الأيام، التي أوشكت أن تبدو كما لو أنها بعيدة المنال ولا يمكن تكرارها.
إذ إن اللحظات التي اشتهرت لدى الجيل الأصغر بخروج الناس خلالها إلى الشوارع، كانت أوقات حداد، لاسيما في أعقاب الهجمات الإرهابية التي ضربت باريس في نوفمبر/تشرين الثاني 2015. كان "استاد دو فرانس"، الذي شهد فوز المنتخب الفرنسي بنهائي كأس العالم 1998 والذي كان يستضيف مباراةً ودية يوم الهجوم، على قائمة أهداف هذه العملية الإرهابية. أُحبِطَت محاولة تفجير الاستاد، لكن تلك الليلة تطارد اللحظة الآنية، والرغبة في وقت احتفالي وتشاركي في شوارع باريس.
أُسِّسَت بطولات كأس العالم لتخلق حلقات من الذاكرة والأمل. وتقدم بنية قابلة للتنبؤ تخلق مساحةً لما هو غير قابلٍ للتنبؤ، فتخلق تسلسلات زمنية مُحيِّرة. وصلت إنكلترا إلى الدور نصف النهائي لأول مرة منذ 28 عاماً، وكانت تأمل بأن تصل إلى المباراة النهائية لأول مرة منذ 52 عاماً، ثم عانقت كرةٌ للمنتخب الكرواتي شباك حارس مرمى المنتخب الإنكليزي، ليتبدَّد معها هذا الحلم. تبدو الأرقام، بطريقةٍ ما، مبتذلة. إلا أنها تُطرَح ضمن الحقائق في صحبة أحزان عميقة؛ لأن وقت الانتظار قد يمتد لأعمارٍ كاملة، بل وفي أغلب الأحوال لما هو أطول من ذلك.
قصة كأس العالم 1998 أسطورة فرنسية
تحمل طبقات الذاكرة النشطة الآن في فرنسا قوةً خاصة. أصبحت قصة كأس العالم 1998 أسطورةً الآن: فريقٌ مُكوَّن من مجموعةٍ مُتنوِّعةٍ من الشخصيات -لاعب ذو أصول إسبانية باسكية يدعى بيسنتي ليزارازو، ولاعب آخر من جزر غوادلوب يُدعى ليليان تورام، وابن مهاجرين جزائريين يدعى زين الدين زيدان، وابن من أبناء شعب الكاناك من المنطقة الفرنسية المسماة كاليدونيا الجديدة واسمه كريستيان كاريمبو، ولاعبون آخرون- قدَّم لعباً مبتهجاً أحرز به النصر. أحرز زيدان هدفين بمرمى البرازيل في المباراة النهائية.
تحقَّق ذلك الفوز في فرنسا في الثاني عشر من يوليو/تموز، وطغت الاحتفالات التي استمرت ثلاثة أيام على عطلة العيد الوطني الفرنسي "يوم الباستيل". فالمقاربة الوحيدة التي يمكن لأيِّ شخصٍ أن يجدها كانت تحرير باريس عام 1944؛ بسبب الشعور ببداية نحو مستقبل أكثر إشراقاً، وكيف أن كل الناس جاءوا من جميع الطبقات والخلفيات ليندمجوا سوياً ويختلطوا في الشوارع.
قبل عامين من ذلك، هاجم زعيم اليمين الفرنسي المتطرف جان ماري لوبان اللاعبين، وادعى أن كثيراً منهم كانوا "أجانب" واشتكى من أن بعضهم لم يردد النشيد الوطني الفرنسي "لامارسييز" قبل المباريات، مشيراً إلى أنهم لا يحبون فرنسا حقاً. ردَّ اللاعبون بكلماتٍ قوية، لكن الأقوى كان الفوز بكأس العالم 1998.
اعتُبِرَ الانتصار تبرئةً للفكرة، وأنه على وجه التحديد بفضل التعددية والسكان المهاجرين استطاعت فرنسا أن تكون قوية وظافرة. أذنت الاحتفالات في الشوارع بذلك الشعور المتعلق باحتمالية صحة تلك الفرضية، من خلال مزج جميع المجموعات في عناقٍ زاخرٍ بالحماس، فيتحدَّث العلم الفرنسي عن قصص لاعبين من أمثال زين الدين زيدان وليليان تورام باعتبارهم القصة الحقيقية للبلاد. وعلى مدار الأعوام التالية، استخدم تورام مكانته الرمزية ليتحدَّث ببلاغةٍ ضد العنصرية ومن أجل سياسات أكثر إنسانية وانفتاحاً بشأن المهاجرين، وهو العمل الذي قاده في نهاية المطاف إلى تأسيس جمعية ركَّزَت على التعليم المناهض للعنصرية.
2006 خسر زيدان بنطحة في صدر لاعب إيطالي
وفي عام 2006، وصل المنتخب الفرنسي بقيادة زيدان وتورام مرة أخرى إلى نهائي كأس العالم، ثم خسر بعد نطحة زيدان في صدر لاعب إيطالي وطرد الفرنسي من المباراة. صارت تلك النطحة صورة ساخرة عالمية ورمزاً أثار المحادثات الرائعة، وفي نهاية المطاف لم تفعل شيئاً سوى أنها عظَّمت من الهالة الأسطورية المحيطة بزيدان. إلا أن ألم الخسارة المحيط بتلك الليلة يطارد الجماهير الفرنسية نهاية هذا الأسبوع، محفزاً القلق من أن شيئاً مثلما حدث في تلك الليلة قد يحدث مرة أخرى.
وما يمثله الفريق -وما استمر أحياناً في أن يُعرِّضه لهجماتٍ عنصرية عنيفة- حقيقةً قهريةً بما تكون عليه فرنسا في الواقع. فالفريق، مثل الأمة، يشكل مفترق طرق عالمياً، ومكاناً تَشَكَّل عبر مئات السنين من التاريخ الاستعماري والهجرة. والحقيقة التاريخية، وهي أساس مستقبل البلاد، يُتغاضى عنها في الغالب، أو يجري التعامل معها من خلال خيالات رهاب الأجانب. فعلى أقل تقدير، يقاوم المنتخب الفرنسي هذه النزعة. ويُقدِّم في أوقات الانتصار فرصةً لمواجهة الحقيقة وصياغتها من جديد، عبر تبنيها ومعرفتها.
بيد أن هناك طريقة واحدة تجعل كأس العالم 2018 لا يمكن أبداً أن تكون مثل كأس العالم 1998. فهذه الأيام الخوالي كانت قبل 20 عاماً أكثر تجسيداً -أو حنيناً متبلوراً- نظراً إلى القدر القليل الذي استطاعت في نهاية المطاف أن تُغيِّر به فرنسا. وأيما تكون النفحة الطوباوية التي قدَّمتها، قدَّم العقدان التاليان لها بدلاً من ذلك كفاحات وصراعات أعمق وأكثف بشأن العرق والهجرة. وذلك الإقرار بحدود ما تقدر كرة القدم على تحقيقه سوف يطارد حتى أكثر الاحتفالات صخباً إذا فازت فرنسا اليوم الأحد.
غير أن النهاية لم تكتب بعد في الوقت الراهن. لذا دعونا نبحث عن بعض الإشارات: تواجه فرنسا كرواتيا مثلما واجهتها عام 1998 في نصف النهائي، لكنها ستكون مباراة نهائية هذه المرة. في تلك المباراة، أحرز المدافع ليليان تورام هدفين رائعين، وبعد إحرازه الهدف الثاني جثا على ركبتيه ووضع يداً على صدره والأخرى على فمه كهيئة شخص يفكر في شيء. تلك القصة، وتلك الصورة، التي طالما كانت رئيسية ضمن أسطورة 1998، يجري سردها الآن بإلحاح جديد؛ لأنها تقدم تعهداً بتحقيق فوز مشابه. توجد إشارة جيدة أخرى: الفوز الذي تحقق ضد بلجيكا في نصف النهائي كان بفضل هدف أحرزه مدافع آخر، وهو صامويل أومتيتي، وهو من كتب عنه فنسنت دولوك في الصحيفة الرياضية اليومية الفرنسية L'Équipe، إنه "حافظ على التقليد الفرنسي للمدافعين الذين يحرزون في نصف النهائي من بطولات كأس العالم كل 20 عاماً".
نحيا الآن وسط دوامةٍ من التاريخ، وتكرار للأحداث يصاحبه اختلاف. وتُشكِّل حدة اللحظة الراهنة، والأيام السابقة، ذلك المزيج من عدم معرفة ما سيكون عليه المنعطف التالي، وفي الوقت ذاته معرفة أن أيما سيحدث فإنه سوف يكون ملحمياً واستثنائياً. وكلُّ الأحداث التي قادت فرنسا إلى المباراة النهائية كانت مكتوبةً فعلياً بطريقةٍ ما. لكنها ستتخذ معنى مختلفاً، وستصبح أجزاءً من حكايةٍ رمزيةٍ جديدة إذا فازت فرنسا بكأس العالم مرة أخرى اليوم الأحد.