في مونديال فرنسا 1998، وتحديداً بالدور ربع النهائي، ضرب المنتخب الكرواتي كل التوقعات وأسقط "الماكينات" الألمانية بثلاثية نظيفة في مباراة تاريخية، ليقضي تماماً على جيل ألماني تاريخي، لتدخل ألمانيا بعدها حالة من "التيه" الكروي حتى استطاعت بناء جيل جديد بدأ مع مونديال 2006.
وبعد مرور 20 عاماً بالتمام والكمال، ها هي كرواتيا تعود من جديد لتضرب هذه المرة "راقصي التانغو" في روسيا بلا رحمة وبالنتيجة ذاتها 3-0، لتجعل آمال ميسي ورفاقه في التأهل مرهونة بأقدام النيجيريين.
لكن هذا الجيل الأرجنتيني ورغم حيازته حفنة من نجوم العالم أمثال؛ ليونيل ميسي، باولو ديبالا، غونزالو هيغوايين، وسيرجيو أغويرو، فيبدو أنه قد وصل إلى محطته الأخيرة، وأنه لن يغادر مدينة سان بطرسبرغ إلا متجهاً نحو المطار عائداً إلى العاصمة بوينس آيرس محمَّلاً باللعنات بعد فشله المونديالي.
ما حدث في المباراة يتحمل فشله جميع القائمين على كرة القدم بالأرجنتين، بدءاً من اتحاد كرة القدم وسياسة "متجر الحلوى" التي يتبعها مع المواهب الشابة التي تذهب بعيداً عن البلاد منذ صغر سنها، ثم اختياراته "الغريبة" للمديرين الفنيين، الذين يفتقرون إلى الأسس الفنية التي قد تجعلهم قادرين على تطوير أداء المنتخب ووضع أسس تكتيكية واضحة لطريقة اللعب.
هم يعتمدون اعتماداً كاملاً على ليونيل ميسي، الذي تُصَبُّ عليه اللعنات في حالة الخسارة ويحتفى به وحده في حالة الفوز، وكأن كرة القدم قد تحولت إلى لعبة فردية مثل التنس، لاعب واحد هو من يتألق وهو من يخفق، في تجاهل تام وإهانة لباقي اللاعبين.
ما حدث كان يمكن توقعه منذ اللحظة التي أعلن فيها المدرب خورخي سامباولي عن التشكيلة الأساسية التي ستبدأ اللقاء، التي كان بها أسماء مثل؛ أكونا، إنزو بيريز، ميركادو، ميزا، العجوز ماسكيرانو، وحارس المرمى الكارثي ويلي كاباييرو، الذي أهدى الهدف الأول للمنتخب الكرواتي وكأنه في حصة تدريبية.
في أثناء مشاهدتك للمنتخب الأرجنتيني أمام المنتخب الكرواتي، يمكنك من الوهلة الأولى اكتشاف أن الكروات يلعبون بطريقة 4-2-3-1، بينما أتحدى أحدهم أن يكون قد اكتشف ما هي الطريقة التي يلعب بها المنتخب الأرجنتيني؛ إذ إن حالة العشوائية منتشرة في أركان الملعب كافة. لا تستطيع أن تكتشف من هو الظهير الأيمن، هل هو ميركادو أم سالفيو؟ من هم قلبا الدفاع ميركادو وأوتاميندي أم أوتاميندي وماسكيرانو؟ ما هو مركز ميسي؟ هل على الجناح الأيمن؟ أم صانع ألعاب في عمق الملعب؟
لا أحد يستطيع إجابة هذه الأسئلة وغيرها سوى السيد خورخي سامباولي، الذي يلعب بالنار منذ توليه مسؤولية منتخب "ألبيسيليستي"، ويبدو الآن أنه قد أحرق أكثر من نصف المسافة العائدة إلى الأرجنتين.
ما حدث في مباراة 20 من يونيو/حزيران 2018 أمام المنتخب الكرواتي؛ هو انتصار للمجموعة على الأفراد، للحاضر على التاريخ، وللعقل والتخطيط على الصوت العالي.
استطاع زلاتكو داليتش، مدرب المنتخب الكرواتي، استخدام الأدوات التي يملكها ببراعة تامة؛ "المحرك" دائم الركض إيفان راكيتيتش والمايسترو لوكا مودريتش والرائع مارسيلو بروزوفيتش عمق الملعب لقطع خطوط الإمداد كافة عن ليونيل ميسي، لتفشل خطة سامباولي "مرِّر لميسي"، ويدخل المنتخب في حالة من الحيرة في الأمام، فلا أكونا أو ميزا قادر على اختراق الأطراف، ولا أغويرو قادر على مراوغة 4 لاعبين ثم إسكان الكرة في الشباك.
وهو ما جعل لاعبي الأرجنتين في الحالة الهجومية غير قادرين على فك شيفرات الدفاع الكرواتي. بتأمين الشق الدفاعي، أصبح المنتخب الكرواتي الآن مستعداً لمباغتة المنتخب الأرجنتيني على مستوى الهجوم. في هذا الشق، اعتمد داليتش على سرعات أنتي ريبيتش، إيفان بيريسيتش والمهاجم المميز ماريو ماندزوكيتش في استغلال بطء خافيير ماسكيرانو وإنزو بيريز وميركادو، مع قلة خبرة كل من سالفيو وتاغليفيكيو، وهو ما حدث في العديد من المرات التي استغل فيها بيريسيتش سرعته وتفوَّق على ميركادو أو تفوّق ريبيتش الدائم على سالفيو دفاعياً وهجومياً.
ومع ضعف مستوى حارس المرمى، اكتملت الكارثة، فأهدى كاباييرو الهدف الأول لريبيتش بسذاجة لا مثيل لها، ثم تألَّق المايسترو مُرسلاً لوحة فنية في شباك كاباييرو، ثم يقتل راكيتيتش كل الأحلام الوردية الأرجنتينية في العودة من بعيد، بتسجيله هدفاً ثالثاً، أقل ما يقال عنه إنه "مهين" لمنتخب بحجم الأرجنتين وأمام مرأى ومسمع الأسطورة دييغو مارادونا.
بعد الهدف الأول، حاول خورخي التدخل وأخرج أغويرو وأدخل هيغوايين، لكن هيهات هيهات، فالدفاعات الكرواتية كانت قادرة على احتواء المهاجم "الثقيل"، الذي لم يقدم سوى تسديدة يتيمة تهادت إلى أحضان الحارس. ثم تم إشراك باولو ديبالا؛ لحلحلة الدفاعات الكرواتية، لكن ذلك التبديل تم على حساب إنزو بيريز، لتحلحل الدفاعات الأرجنتينية تماماً بعد أن سيطر الكروات على وسط الملعب الخالي سوى من ماسكيرانو، الذي كان قد انتهى بدنياً بحلول النصف ساعة الأخير.
وبدلاً من إشراك صاحب الخبرات أنخيل دي ماريا في تلك الأوقات العصيبة، قرر سامباولي إشراك الشاب كريستيان بافون، ذي الـ 22 عاماً، على الرواق الأيمن، لكن اللاعب الشاب لم يعتد مثل هذه الأوقات العصيبة وليس لديه من الخبرة ما يؤهله للتعامل مع هذه المواقف.
في النهاية، انتصرت المجموعة على الأفراد، وانتصرت الحكمة على الصوت العالي، فهنيئاً للحصان الأسود، منتخب كرواتيا.
الجزء الرقمي والإحصائي
تشير إحصائيات موقع Who Scored المتخصص، أن المنتخب الكرواتي قد تفوق في جلّ الأرقام الإيجابية بينما تميزت الأرجنتين في الاستحواذ على كافة الأرقام السلبية عن جدارة واستحقاق. وأن راكيتيش نجم نادي برشلونة هو نجم المباراة، رغم أن ما قدمه لوكا مودريتش لا يقل بأي شكل من الأشكال عمّا قدمه إيفان راكيتيتش.
صارت الآن فرص المنتخب الأرجنتيني في التأهل مرهونة بأقدام غيره.
ففوز آيسلندا يعني ضرورة تسجيل 4 أهداف أو أكثر في مرمى المنتخب النيجيري في مباراة الجولة الثالثة، بينما فوز المنتخب النيجيري أو تعادله ستبث الروح من جديد في فرص المنتخب الأرجنتيني للصعود شريطة فوزه على نيجيريا في المباراة الأخيرة.
هذا يعني، أننا في ليلة ستصلي فيها بوينس آيرس من أجل المنتخب النيجيري علّه يأتي بما عجز عنه ميسي ورفاقه.