في حانةٍ مزيَّنة بتذكارات الكرة البريطانية بالعاصمة الروسية موسكو، كان أحد مشجعي النادي الروسي سيسكا موسكو سعيداً بطمأنة المشجعين الإنكليز الذين يخططون للسفر لحضور بطولة كأس العالم، المقامة هذا الصيف في روسيا. إذ قال كونستانتين -أو اختصاراً كوستيا- إنَّه يشكّك في أن تكون هناك أحداث عنف، لأن أشدّ مثيري الشغب الروس ضراوةً فقدوا رغبتهم في قتال مشجعي إنكلترا.
كوستيا، العضو في مجموعة المشجعين المثيرين للشغب لنادي سيسكا موسكو، تذكرَّ حادثة مهاجمة مشجعين روس لفريقٍ مُمثل للمشجعين الإنكليز في مرسيليا، باستخدام العنف المفرط، في يونيو/حزيران 2016، وقال إنَّ "الأمر أشبه بأن تكون متسلق جبال. فحالما تصل إلى القمة لا تعود إلى تسلقه مجدداً. لا جدوى من ضربهم مرةً أخرى. لذا لا يجب أن يكونوا خائفين من القدوم إلى موسكو، فلا شيء سيحدث"، بحسب تقرير نشرته The Observer البريطانية.
قال كوستيا إنَّه كان في مرسيليا أثناء بطولة أمم أوروبا 2016، لكنَّه لم يشارك في الهجوم. وأضاف أنَّ مشجعي روسيا لَطالما أرادوا التغلب على مشجعي إنكلترا، الذين كانت لهم مكانةٌ عزَّزتها الكتب والأفلام المعروفة، وأنَّها كانت مسألة متعلقة بالكبرياء والسمعة، كأنَّها منافسة على من هو "أقوى مثير شغب في العالم".
وختم كلامه قائلاً، إنَّ اشتباكات مرسيليا لم تكن سوى نصر أجوف، لأنَّ ما ترتب عليها أدى إلى اتخاذ الشرطة لإجراءاتٍ صارمة ضد مثيري الشغب الروس قبل كأس العالم.
لا يبدو أنَّ صيف عام 2018 يحمل بالفعل أكثرَ لحظات العالم سعادةً، لتتوجه عيونه نحو روسيا. بالنسبة لكثيرٍ من المشجعين الإنكليز أفسدت اشتباكات 2016 الحديثَ عن كأس العالم في موسكو، بالإضافة إلى حوادث التمييز العنصري، والعديد من النزاعات الدولية الكبرى، بدءاً من الصراع في أوكرانيا، وصولاً إلى مقتل العميل الروسي في مدينة سالزبري، الذي حمَّلت الحكومة البريطانية مسؤولية مقتله للكرملين.
قلَّصت التوترات الجيوسياسية، وتراجع قيمة الجنيه الإسترليني حجمَ السياحة البريطانية في روسيا. إذ صرَّحت مايا لوميدزي، المديرة التنفيذية لرابطة الشركات السياحية الروسية لصحيفة The Observer البريطانية، بأنَّ أعداد السياح البريطانيين تتناقص بمعدل 10% كل عام منذ 2014.
ووقعت حوادث جديدة في الشهر الفائت، إذ أفاد عددٌ من الصحفيين بسماع صيحات قردة موجّهة نحو العديد من لاعبي فرنسا السود، وهم عثمان ديمبيليه، ونغولو كانتيه، وبول بوغبا، أثناء مباراة ودية في سانت بطرسبرغ ضدّ روسيا، الأسبوع الفائت. وبدأ كلٌّ من الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) وروسيا تحقيقاتٍ حول الحادثة.
بالإضافة إلى ما حدث من سلوك مشجعي إنكلترا في الخارج. إذ اعتُقل 25 مشجعاً إنكليزياً بعد اشتباكاتٍ مع الشرطة في أمستردام، قبل المباراة الودية التي جمعت منتخب بلادهم بهولندا، الشهر الفائت، وألقى بعضهم زجاجات البيرة على الشرطة. يبدو الأمر برُمته متقلّباً. ولكنَّ الصحفيين الروس والمعلّقين، بل ومثيري الشغب يردون بسخرية عندما يُسألُون عن احتمالية وقوع أعمال عنف خطيرة، في شهر يونيو/حزيران القادم.
إذ قال ديمتري نافوشا، رئيس موقع Sports.ru المستقل، ذي السمعة الطيبة، في إشارةٍ إلى الشغب الذي حدث في مرسيليا: "مع الاحترام للشرطة الفرنسية، تحتوي الشرطة الروسية أحداثاً رياضية ضخمة بأعدادٍ أكبر بكثير من أفراد الشرطة، بالإضافة إلى أنَّهم أكثر صرامة".
فعلى سبيل المثال، ليس من الغريب في روسيا أن يقف يوم المباراة أكثر من ألف من شرطة الشغب -الذين يُسمَّون بالعامية "رواد الفضاء" بسبب الخوذ الثقيلة التي يرتدونها- متراصّين على طول الطريق الواصل بين المترو وأقرب استاد لكرة القدم. ويُمنَع بيع الكحول في أحياءٍ بأكملها.
وأشار العديدون ممن تحدثوا إلى صحيفة The Observer إلى مباريات مانشستر يونايتد وليفربول، التي خلت -نسبياً- من أحداث العنف أثناء دوري أبطال أوروبا في روسيا، الخريف الماضي. (هناك شائعات بأنَّ مشجعي سيسكا موسكو قد يحضرون مباراة الأسبوع المقبل ضد أرسنال بقمصانٍ مكتوب عليها "جولة نوفيتشوك 2018: يُتبَع"، في إشارةً إلى هجوم غاز نوفيتشوك الذي استهدف العميل الروسي السابق سيرغي سكريبال في سالزبري بالمملكة المتحدة هذا العام. لكنَّ الشرطة قد لا تعتبر هذا الأمر جريمةً تُبرِّر الاعتقال).
وقال فيكتور غوسيف، وهو معلق رياضي شهير سيقوم بتغطية المباريات، في يونيو/حزيران: "هناك الكثير من الجدل السياسي قبل البطولة، لكنِّي أظن أنَّه حالما تبدأ المباريات، ستعود هذه الأمور إلى خلفية الأحداث".
مضى أكثر من عقد منذ أعلنت روسيا نيتها الترشح لاستضافة بطولة كأس العالم 2018. وألقى فلاديمير بوتين خطاباً نادراً بالإنكليزية عام 2010، قال فيه إنَّ اختيار دولته لاستضافة كأس العالم عام 2018 هو "شرفٌ عظيم". كان رئيس روسيا في ذلك الوقت هو ديمتري ميدفيديف، وكانت دولته تتعافى من الأزمة المالية التي حدثت في 2008، وبلوغ أسعار النفط أكثر من 70 دولاراً في المتوسط للبرميل الواحد. وقال نافوشا إنَّ قرار استضافة كأس العالم قد اتُّخذ "قبل وقتٍ طويل من مرحلة المواجهات الشائكة مع الغرب".
لكنَّ الكثير تغيَّر بعد ثماني سنوات، فالعلاقات بين لندن وموسكو تشهد أسوأ حالاتها منذ الحرب الباردة، بالإضافة إلى أنَّ بوتين فقد رَويّته في التعامل مع الغرب، ولا يبدو أنَّ نجاح تنظيم كأس العالم قد يغير شيئاً من هذا الوضع.
البطولة هي إلى حدٍّ ما أثرٌ لماضٍ خلا، ماضٍ أكثر براءة، عندما كان بوتين لا يزال يعتقد أنَّ روسيا تستطيع التودُّد للغرب عبر تنظيم أحداث رياضية ناجحة، ومن ثم تُقبَل ضمن نادي الأمم العظمى في المقابل. ولكن يبدو من الواضح أنَّ هذا الأمر لم يعد يثير اهتمامه.
لكنَّ البطولة ستُقام في موعدها، وسيستضيف 12 استاداً في 11 مدينة مباريات هذا الصيف، من ضمنها وجهاتٌ غير معروفة بكثرة بين السياح، مثل مدينتي سارانسك وروستوف. وبالنظر إلى ما يتعلق بالبنية التحتية، تُعدّ المحاولة جديرة بالاحترام أكثر من الألعاب الأولمبية الشتوية التي كلَّفت الحكومة ما يُقدَّر بـ50 بليون دولار. في الواقع، يمكن أن تكون البنى التحتية -مع وجود بعض الاستادات غير الجاهزة رغم أنَّها من المقرر أن تستضيف مبارياتٍ بعد 3 أشهر- موضوعاً شديد الحساسية، فالمسؤولون الروس لا يزالون ينتفضون عندما يتذكرون انتقادات الصحفيين الأجانب لاستعدادات دورة الألعاب الأولمبية الشتوية 2014، (أثارت صورة لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" تُظهِر حماماً واحداً بمرحاضين غضباً خاصاً).
ستظهر بطولة كأس العالم أيضاً سيطرةً ناجحة على مساحات روسيا الشاسعة، وإحدى أكثر المشكلات المعتادة، وهي وسائل النقل، وقد تحمل قيمةً رمزية كذلك.
إذ قال نافوشا: "أعتقد أنَّ الفكرة الرئيسية هي البرهنة على عظمة روسيا للعالم الخارجي والشعب الروسي".
أما فيما يتعلق بكرة القدم نفسها، فيتخذ الروس الحيطة في رهاناتهم. ربما كانت أعظم لحظة في تاريخ الكرة الروسية في العقد الماضي هي مباراة ربع نهائي بطولة أمم أوروبا 2008، عندما سجل فريقٌ من اللاعبين الروس الشباب، يضُم لاعب نادي أرسنال السابق أندريه أرشافين هدفين، في الدقائق الأخيرة من الوقت بدل الضائع، ليفوز بالمباراة المثيرة التي جمعته بهولندا. خرج آلاف المشجعين إلى شوارع سان بطرسبرغ من المقاهي والحانات يحتفلون، كما لو أنَّ روسيا فازت لتوّها بكأس العالم.
لم تتجاوز روسيا مرحلة المجموعات في تلك البطولة منذ ذلك الحين. وقال المُعلِّق الرياضي غوسيف، إنَّ جيل اللاعبين الشباب لم يُنتج بعد نجوماً جدداً، وإنَّ هذا هو أضعف جانب في روسيا منذ أن كان طفلاً.
وأضاف غوسيف أنَّ "الروس يُلقون مزحةً يسألون فيها أصدقاءهم عمَّن سيشجعون بعد مرحلة المجموعات". وقدَّر أنَّه عندما يتعلق الأمر بنوادي كرة القدم، يتابع حوالي 80% من المشجعين الدوري الإنكليزي الممتاز.
وبصرف النظر عن أحداث مرسيليا 2016، فهناك شيءٌ من التقدير في روسيا لثقافة إثارة الشغب البريطانية، أو للنسخة الأسطورية منها. على سبيل المثال، غالباً ما تُسمِّي مجموعات إثارة الشغب الروسية نفسها بأسماء إنكليزية.
وقال نافوشا: "أنا لا أعرف إذا ما كنتم تعرفون هذا الأمر في بريطانيا، لكنَّ الألتراس الروس، هؤلاء الذين لا يعترفون بالكرة دون مشاجرات، هؤلاء عبارة عن مُقلِّدين، أو هم رسمٌ ساخر لثقافة إثارة الشغب البريطانية". وقال كوستيا، مشجع كرة القدم الذي نشأ في كنف عائلة عسكرية قرب موسكو، وحضر أول مبارة لسيسكا موسكو قبل نحو عقدين من الزمن، إنَّ "ما يحدث يشبه سردية الرجل القوي في أفلام دوغي بريمسون، مثل Green Street أو The Football Factory.
وقال كوستيا، إنَّه قبل أن تُعزز الشرطة من وجودها، كان مشجعو سيسكا موسكو يجتمعون في أيام المباريات، ويجوبون شوارع المدينة "بحثاً عن أكبر مجموعة من مشجعي فريق سبارتاك موسكو ليشتبكوا معهم".
وأضاف أنَّ أغلب المعارك الآن يُخطَّط لها مسبقاً، وتُقام في الغابات، ويحضرها غالباً صنفٌ جديد من مثيري الشغب الروس، الذين يتجنَّبون شرب الكحول، ويتدربون على الفنون القتالية المختلطة أو أنواعٍ أخرى من القتال.
وقال كوستيا، الذي اعترف أنَّه لا يشترك في هذه المعارك: "القتال في الغابة ليس إثارةً للشغب. الأمر بالنسبة لي هو الذهاب إلى دولة أو مدينة أخرى، والشرب، والاستمتاع، وإذا كان هناك أشخاصٌ عدوانيون، نردُّ عليهم. هذا كل ما في الأمر".
وأضاف أنَّ الاشتباكات أصبحت أكثر خطورة، وقد تبقيك الخسارة في المستشفى لبضعة شهور. (صرَّحت الشرطة الفرنسية في 2016 بأنّ العنف أصبح "شبه عسكري تقريباً").
وتابع كوستيا قائلاً إنَّ رد الشرطة كان شرساً، إذ تلقى مثيرو الشغب المعروفون "زياراتٍ احتياطية"، وأُجبِرُوا على توقيع عقود بأنَّهم سيبقون بعيدين عن مثيري الشغب الآخرين. وقال آخرون إنَّ منازلهم قد فُتِّشَت، واعتُقِلَ آخرون. ووُصِفَ الأمر بأنَّه غير مسبوق.
وقال كوستيا متحدثاً عن الصيف القادم: "أظنّ أنَّه سيكون هادئاً. أريد حقاً أن يأتي المشجعون العاديون إلى روسيا، ويستمتعوا بثقافتنا والسفر".