كل إنسان يسير في رحلة الحياة مدفوعاً بالبحث عن السعادة، آملاً في تحقيق أحلامه، وطامحاً إلى نيل عفو الله ورحمته، حتى يأتي اليوم الذي يقف فيه أمام خالقه، ليعرف مكانه في الحياة الآخرة.
هذه الرحلة، مع قصرها، تتخللها لحظات حلوة ومرة، إذا لم يكن للشخص حلم يسعى لتحقيقه، أو هدف يستنزف الليالي في سبيله، أو طموح يبقيه مجتهداً لا يكلّ ولا يملّ، أو شغف يحلي تجارب السعي، فإنه سيجد نفسه بعيداً عن تذوق ملذات هذه المشاعر الغنية والمعقدة، مشاعر قد تكون لتجارب قاسية أحياناً، لكنها في جوهرها صحيّة للروح. الفشل يُعلّم الإنسان طعم النجاح، والسعي والجهد يجلبان لذة الإنجاز، واللحظات الصعبة من اليأس وفقدان الأمل تُسبغ على الرضا طعماً فريداً.
الرضا يُعد من أعظم مفاتيح السعادة وجنة الدنيا، وهو طريق السعداء الموقنين بقضاء الله وقدره. كما ورد عن نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، أن من ذاق طعم الإيمان حقاً هو من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً.
فالإنسان الذي يعيش بلا طموحات أو أحلام، يحرم نفسه من تجربة طيف واسع من المشاعر والأحاسيس التي تستحق أن يعيشها. إن الحياة بدون هذا السعي والأحلام تفتقر إلى العمق والمعنى الحقيقيين، ما يجعل السعي نحو الأهداف والطموحات جزءاً لا يتجزأ من تجربة الحياة الإنسانية الغنية والمُرضية.
الأحلام كثيرة، وكلما زاد طموحك في الدنيا وارتفع سقفه زادت أحلامك، وبذلت مزيداً من الجهد لتحقيقها.
والأحلام نوعان، إما دنيوية حيث الاستمتاع بملذات الدنيا ونعيمها "الزائل"، أو للآخرة، كما أنه من المفترض أن يكون للنوعين صلة وارتباط ببعضهما البعض، بحيث تكون لنيتك تحقيق أحلامك الدنيوية علاقة بأهم حلم، وهو الفوز بالجنة والاستمتاع بنعيمها الأبدي، وقبلها الفوز بلذة النظر لوجه الله الكريم.
وفي رحاب الأحلام، تلك التي تنساب بين الدنيا والآخرة، حيث يعانق الاستمتاع الروحي سفراً بين الأرض والسماء، تبرز رحلة الحج والعمرة كلوحة تجسد العبور الأبدي. لحظات تُوثق كأنك تقول: "ها أنا ذا، كنت هنا، عند بيت الله الحرام، أتلمس خطواتي نحو الآخرة".
في هذا الزمان، حيث تداعب الأحلام طموحات تمتد لتلامس السماء، يُصبح كل حلم ذا شجن، رحلة تتخطى حدود الزمان والمكان، تنسج من الأمل عباءة، ومن اليقين دليلاً. وبكل خطوة نحو الكعبة، تُخطّ الروح، تبحث عن ضياء في زحام الحياة، فنجد في العودة إلى الله ملاذاً وسكينة.
بلا شك تمثل رحلة الحج أو العمرة حلماً يتوق إليه قلوب جميع المؤمنين، رحلة تنبثق من رحله أمّنا هاجر، التي عَبَرت بإيمان لا يتزعزع الصحاري القفر مع طفلها إسماعيل. في تلك اللحظات كان إيمانها بأن الله لن يضيعها، حتى شهدت الأرض انفجار بئر زمزم، فجراً للحياة في وسط الجدب. وبسعيها بين الصفا والمروة انبثق الماء من تحت قدمَي طفلها الرضيع، لتنبعث الحياة في صحراء قاحلة، وتتحول تلك البقعة لمصدر شفاء وبركة، حيث يأتي إليها الناس من كل حدب وصوب.
وعند التأمل في الكعبة تستشعر لحظة بنائها، تلك اللحظة التي جمعت بين نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل في مهمة إلهية، لبناء الكعبة، بيت الله الحرام، يغمر النفس شعور عارم بالتواضع والرهبة. وبالصلاة خلف مقام إبراهيم، هاتان الركعتان اللتان تأتيان عقب الطواف لإتمام مناسك العمرة، تجد الروح تغوص في بحر من التساؤلات، متعجباً إن كان الله قد منحك حقاً شرف الوقوف والصلاة في هذا المكان المبارك، حيث وطئت قدما أبي الأنبياء وابنه.
تلك اللحظات الإيمانية تجعلك وكأنك شاهداً على قصة عظيمة، حكاية بناء الكعبة ورحلة إبراهيم عليه السلام، التي تحولت بفضل الاستسلام والطاعة لله إلى مناسك تعبر عن جوهر الإسلام، وتجسد ركنه الخامس. أدركت حينها كيف يصبح الحج، هذه الفريضة العظيمة، درساً في الإيمان والصبر والتسليم، محفوراً في قلب كل مسلم، تذكيراً بأن الله لا يضيع أجر المحسنين.
عندما تمضي نحو مدينة رسول الله لتشهد بعينيك قبر النبي وصحابته الأجلاء، وتُؤدي صلاتك في الأرض التي صلى عليها خير الأنام، تلك الأرض التي وُعِدت بأن تكون جزءاً من رياض الجنة، كما بشّر رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة"، يا له من كرم عظيم من الله لأمة محمد، هدايا إلهية تزيل الذنوب وتعظم في القلوب.
وأنت تقترب من المسجد النبوي بنحو خمسة كيلومترات، تمر بجبل أحد، ذاك الجبل الأشم الذي كان شاهداً على غزوة أحد، وجبل الرماة الذي يروي قصة التضحية والفداء. وتتخطى مروراً بمقابر شهداء أحد، فتتدفق في القلب مشاعر الامتنان لنعمة الإسلام التي جاءتنا سهلة، بدون معارك أو غزوات، في كنف الفطرة والسلام.
تلك الرحلة الروحية، التي تنساب فيها قصص الصحابة والأنبياء، تذكير بأن الإسلام، رغم سهولة انتشاره في قلوبنا اليوم، لم يكن انتشاره يوماً خالياً من التضحيات. انتشر بفضل دماء الشهداء من الصحابة والمرسلين، تضحيات جسام لكي تصلنا رسالة الإسلام صافية، نقية.
فيا له من شعور عظيم، الوقوف في تلك الأماكن المباركة، حيث تتجسد قصص الإيمان والصبر والتضحية. محظوظ هو من يحقق هذا الحلم، من يسير على الطريق الذي مشى عليه الأنبياء والصحابة، ويتنفس من روحانية هذه الأرض المقدسة، فتصبح الزيارة ليست مجرد رحلة، بل عودة إلى جذور الإيمان، تعزيز للروابط الروحية بين المؤمن وربه، وتجديد للعهد مع الله ورسوله.
وأنا، بفضل الله وكرمه، كنت من بين المحظوظين الذين زاروا بيت الله الحرام، لأداء مناسك العمرة، وتوجهت إلى مسجد رسول الله لألقي السلام عليه من داخل الروضة الشريفة. يا له من حلم لم أظن يوماً أنه سيتحقق، ولكنني الآن وبكل امتنان أتساءل: هل أنا حقاً كنت في يوم من الأيام من ضيوف الرحمن؟!
نعم، لقد حققت أحد أعظم أحلامي في الحياة، وهو زيارة بيت الله الحرام، وأداء مناسك العمرة، الأمر الذي زرع في قلبي الأمل نحو رحلة أعظم وهي أداء فريضة الحج.
رحلتي نحو تحقيق مناسك العمرة لم تكن مفروشة بالورود؛ فقد كان طريقاً محفوفاً بالتحديات والصبر. لسنوات عديدة ظل حلم زيارة بيت الله الحرام ينمو في قلبي، حيث كنت أرفع يدي بالدعاء في صلواتي، متمنياً من الله تحقيق هذا الحلم. حتى خطّت يدي مقالاً في سبتمبر الماضي، تخيلت فيه زيارتي لهذه الأماكن المقدسة، معبراً عن أمنيتي بأن أصبح واحداً من ضيوف الرحمن، وأن أشهد الكعبة بأم عيني، لا من الصور.
وقد استجاب الله لدعائي، فقد كانت الزيارة أكثر مما تخيلت أو كتبت. وجدت نفسي واقفاً أمام الكعبة، أتأمل بعيني المجردة هذا المشهد الإيماني العظيم، محققاً بذلك واحداً من أكثر الأحلام إلحاحاً في قلبي. هذه التجربة لم تكن مجرد زيارة؛ بل كانت رحلة روحانية عميقة، جسَّدت لي معنى الصبر والدعاء والإيمان بقضاء الله وقدره.
لطالما رسمت الأحلام لوحات خيالية عن ذهابي إلى الكعبة الشريفة، حيث تخيلت يدي تلامس جدرانها بلمسة مباشرة، وها هو الحلم يتجسد إلى واقع.
كانت صورة الطواف في مخيلتي تختلف عن واقعها، لكن الدهشة سرعان ما تحولت إلى استسلام عميق لأوامر الخالق. وحلم آخر يتحقق، حيث وجدت نفسي أصلي خلف إمام المسجد الحرام، صوته في تلاوة القرآن يغمرني بالسكينة والتدبر.
ورغم أنني تخيلت المطر ينزل وأنا أدعو أمام باب الكعبة، فإنني تفاجأت بالإمام يؤم صلاة الاستسقاء، وأنا أؤمّن خلفه بقلب خاشع. زيارتي لمسجد الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم كانت تتجاوز كل تخيلاتي.
كنت دائمة التمني لزيارة جبل أحد والصلاة في مسجد قباء قبل التوجه إلى مسجد النبي، كلها أحلام تحولت إلى واقع، كل خطوة في هذه الرحلة المباركة كانت تحمل في طياتها معاني لدي للإيمان والصبر والشوق.
يا الله، كم هو شعور رائع، تجربة أتمناها لكل من أحبَّ أن يعيشها. في هذه الرحلة لمست السماء بروحي، مؤمناً بأن كل حلم بالإيمان والدعاء يمكن أن يتحقق.
في رحلتي إلى بيت الله الحرام، كنت أبحر في بحر من المشاعر المتداخلة، مزيج من الخوف والرهبة، الاستغراب والدهشة رؤية هذا الجمع الغفير من البشر يتجمعون في نقطة واحدة على وجه الأرض، ثم يأتي الاستسلام لأمر الله، وكأن كل خطوة ونظرة ودعاء تعيد تشكيل روحي من جديد.
كانت رحلتي مليئة بالسكينة بحق، رغم الشقاء والتعب الذي يصاحبها أحياناً بسبب الإجراءات والنظم المفروضة على ضيوف الرحمن. هذه النظم التي رغم إدراكي لأهميتها في تنظيم الحشود والحفاظ على النظام، فإنها حرمتني من توديع الكعبة كما كنت أتمنى، ومن المكوث طوال اليوم في صحن الكعبة للتأمل في قداستها وتدبر حكمة الله في فريضة الحج.
لم أشعر بالشبع من النظر إلى الكعبة، أو الصلاة أمامها. الوصول إلى صحن الكعبة والصلاة هناك كان يتطلب جهداً كبيراً، بما في ذلك الوصول قبل ساعتين أو أكثر من موعد كل صلاة، والوقوف في طوابير طويلة، كل ذلك من أجل حجز مكان مناسب للصلاة أمام الكعبة، ثم الانتظار لأداء الصلاة.
كانت هذه التجربة تجسيداً للصبر والإيمان، حيث يتعلم المرء الرضا بقضاء الله وقدره، مع العلم بأن كل لحظة من الانتظار وكل صعوبة في الوصول إلى الكعبة لها قيمتها الروحانية الخاصة.
في رحاب المدينة المنورة، مدينة نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث السكينة تلفّ الأرواح، والطمأنينة تغمر القلوب، عشت لحظات من قمة السلام النفسي والاطمئنان. رغم قصر المدة التي قضيتها هناك، بضع ساعات فحسب، فإنها كانت كفيلة بأن تحفر في ذاكرتي أجمل اللحظات في حياتي.
اللحظة الأكثر سكينة كانت عندما دخلت الروضة الشريفة، بعد أن وفقني الله عز وجل وحالفني الحظ في حجز موعد لزيارتها. الحمد لله، الذي مكنني من بلوغ سلامي لهناك، ونقل سلام كل من أوصاني به عليه، من قلب الروضة الشريفة.
والآن، أرفع دعائي إلى البارئ، يا رب، اكتب لي زيارة بيتك الحرام ومسجد رسولك في أعوام عديدة ومديدة، وقدِّر لي حج بيتك الحرام قبل الممات. إن الأمنيات تتحقق، والأحلام تصير واقعاً بمزيد من السعي والطموح، والأخذ بالأسباب، والدعاء إلى الله، فهو القادر على كل شيء، ادعوه، سيستجيب لكم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.