في البداية يجب توضيح الفرق بين المنفى والغربة، وذلك لنستطيع تفهم التحديات التي تواجهنا كآباء في المنفى مع أولادنا، وكيف أن حلولها وأساليب التعامل معها تختلف عن التحديات التي يواجهها الآباء المغتربون، الذين يستطيعون العودة إلى أوطانهم وقتما شاؤوا.
المنفى هو مكان قسري أُجبرت على البقاء فيه لأجل غير مسمى، لا تعرف متى ستلتقي بأهلك مرة أخرى، هل ستقضي معهم رمضان أو العيد؟ هل ستسمع كلمة خالو أو عمتو من أولاد إخوتك مباشرة وليس عبر مكالمات الفيديو المتقطعة؟ المنفى لم تذهب له بإرادتك، وإن كنت شخصاً محظوظاً جداً فقد تكون قد امتلكت اختيار بلد المنفى بنفسك.
ولا يعنى المنفى أن لك مصدر رزق أو أنك آمن تماماً، فقد تفقد أسباب إقامتك في أي وقت، أما الغربة فغالباً ما تكون بحثاً عن مصدر للرزق وجودة أفضل في الحياة، كونها اختيارية يجعل الإنسان يشعر بالأمان النفسي نسبياً؛ إذ إنه دائماً يقول: إذا حدث كذا سأعود غداً إلى بلدي.
افتقاد العائلة والأسرة
ابني ذو الـ8 سنوات لم يرَ أحداً من عائلته الكبرى، سواء جدته أم عمه، إلا لفترة قصيرة جداً، بينما تسألني ابنتي: كيف كان طعم اللعب مع بنات الخالة والأعمام؟ هل كنت أستطيع المبيت عند عماتي وخالاتي؟
أحرص دائماً على أن يتعرف أولادي على عائلتهم الكبيرة، لكن لا سبيل سوى مكالمات الفيديو تلك التي ينقطع فيها الإنترنت وتغيب الصورة ويتشوش الصوت.
يقارن أبنائي أنفسهم بزملائهم وأقرانهم الذين يزورون عائلاتهم في بلادهم الأم في الإجازات والأعياد، ويجتمعون معاً في المناسبات، أُخبرهم أن كل شخص يدفع ثمن اختياراته في الحياة، وأن الحياة ما هي إلا مجموعة من الاختيارات، وأنا اخترت طريقاً كان له ثمن أدفعه راضية حتى وأنا أتألم، وأني اخترت هذا الطريق من أجلهم من الأساس لأني تمنيت لهم الحياة في بلدهم الأم والحصول على الحرية والتعليم والرعاية الصحية وغيرها من الحقوق الآدمية الطبيعية.
أحاول أيضاً أن أكوّن مجتمعاً بديلاً للعائلة لأولادي من أسر مسلمة وعربية لهم أولاد في مثل أعمارهم، نقضي معهم الأوقات المميزة في الأعياد والمناسبات. لا يكفي هذا بالطبع، لكنه بعض من التعويض.
الأرض كلها وطن
عشنا في دولتين أوروبيتين، في البلدين لم أخبر أبنائي ولو تلميحاً أنهم أجانب، أخبرهم دائماً أنهم أهل البلد وكزملائهم تماماً لهم الحقوق نفسها وعليهم الواجبات نفسها، وأننا ندفع جميعاً الضرائب مقابل الخدمات التي نحصل عليها من التعليم وغيره، وأنه لا منة لأحد عليهم، وأنهم سيتعرضون للعنصرية وسيسمعون تلك الكلمة شاؤوا أم أبوا، ولكن تلك العنصرية موجودة في كل الأرض؛ لأن الله خلق البشر منهم من يحمل الخير ومنهم من يحمل الشر، وأن علينا أن نتعلم كيف ندافع عن أنفسنا ونتعامل مع الأشرار ولا نتخلى عن مبادئنا في الوقت نفسه.
وأن أرض الله كلها وطن، وأننا في رحلتنا القصيرة تلك في الأرض علينا أن نبحث عن مكان نعبد الله فيه بحرية ونعيش فيه بأمان ونحصل فيه على الرزق الكريم، أياً كان ذلك المكان. وأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك مكة التي وُلد فيها وأحبها وهاجر إلى المدينة، إلى حيث يعبد المسلمون الله بأمان، حتى لو تركوا بلدهم ومالهم وأهلهم.
الهوية
يسأل الصغير: من أي جنسية أنا؟ ولدت في فرنسا وعشت في ألمانيا وأتحدث العربية والألمانية، ولم أرَ مصر أبداً، ولكنكم تقولون إني مصري.. بينما تسأل ابنتي عن الحدود المسموحة لها والتي تختلف عن زميلاتها من البنات الأخريات، مثل حدود الملبس والمبيت عند الأصدقاء وحضور الحفلات المختلطة. أما ابني الأكبر والذي عانى في رحلة البحث عن هوية بين جنسيات مختلفة ولغات أم مختلفة ومعايشة أناس يحبهم ولهم عليه فضل من أديان مختلفة، صار تعريفه لنفسه بسيطاً جداً: أنا إنسان مسلم. وإذا سأل عن أي من التفاصيل الأخرى يرد على السائل إن ذلك ليس من شأنه.
أمٌّ في المنفى
أغبط كثيراً صديقاتي اللاتي يسكنّ بجوار أهلهن، أو يستطعن الاتصال بشخص قريب دون حرج في أي وقت ليلاً أو نهاراً طلباً للمساعدة، أذكر مواقف كثيرة تمنيت لو أن ألقي بعض مسؤولياتي على أحد من أهلي دون شعور بالحرج أو القلق، مواقف كثيرة كنت فيها وحدي، بين شعور الضعف والألم والخوف وقلة الحيلة وواجب المسئولية، وأن تكون مجبراً على تحمل الألم.
أذكر في ولادتي الأخيرة، عندما فاجأتني علامات الولادة في الواحدة ليلاً، كان علينا أن نصطحب ابني وابنتي معنا، ليناما أمام باب غرفة العمليات، فلا يوجد أحد يرعاهما وهما وحدهما بالمنزل، أذكر أني كنت أصرخ من شدة الألم فيذكّرني زوجي أن ابني يبكي مذعوراً لأني أتألم بشدة، فصار عليّ أن أكتم صرخاتي تلك.
أذكر في أحد الأيام التي احتجزت فيها في إحدى مستشفيات باريس أثناء حملي الثالث، وكان معي طفلاي، وأصرت المستشفى أن يأتي أي شخص قريب لي لاصطحابي، فقد كانت حالتي لا تسمح باستخدام المواصلات، وكان زوجي يعمل في مدينة أخرى، اتصلت بكل من أعرفهم لم يرد عليّ أحد، ولم أستطع مغادرة المشفى إلا بتعهد أني غادرت ضد إرادة الأطباء وفى حالة خطرة، ربما كانت صدفة سيئة، إلا أني شعرت يومها أنني غريبة ووحيدة.
رفاهية البكاء، والمرض
في الآونة الأخيرة مرضت مرضاً شديداً، تدهورت صحتي كل يوم عن سابقه، إلا أنني لا أملك غير الاستعانة بالله والاستناد على نفسي وما علّمته لأولادي من كيفية الاعتماد على أنفسهم، إلا أنهم ما زالوا أطفالاً.
كأمٍّ في المنفى يجب عليّ أن أكون قوية دوماً، أو على الأقل أن أظهر هكذا أمام أولادي، بينما أعاني من الألم عليّ الذهاب لإحضارهم من المدرسة أو الذهاب إلى مواعيد الأطباء.
من جانب آخر وخلال السنوات الـ9 العجاف من الأهل والوطن، تشعر أنك تشاهد العالم الذي اعتدت عليه من خلف شاشة، يتزوج الإخوة وينجبون، تكبر الأخت الصغيرة التي تركتها في الثانوية العامة لتصبح في أواخر العشرينيات، يتوفى بعض الأقارب والأصدقاء، في المنفى تبكي وحدك وتفرح وحدك، في 9 سنوات صرت عمة وخالة، ولم يرني أولاد أخي أو أختي أبداً..
أبناء المنفى أو المهجر
قناعتي التي أومن بها أن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن دوري كأم أن أربي أبنائي وأعلمهم وأوفر لهم حياة كريمة ما استطعت مع أبيهم، وأن نعينهم على الحفاظ على لغتهم ودينهم، وأن نعوضهم ما استطعنا عن الأهل والعائلة الكبيرة، وأن نتمنى لهم أن يحيوا حياة حرة كريمة بعيدة عن الظلم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.