للمسجد مكانة عظيمة في الإسلام، فهو ليس مبنى من طوب وسقف، بل دار عبادة ومدرسة وملتقى للمسلمين يتشاورون فيه في أمور دنياهم، ويتدارسون فيه دينهم، ويتعلمون فيه مكارم الأخلاق، وينشِّئون فيه أولادهم على حب الخير والالتزام وحسن معاملة الآخر. هذا هو مفهوم المسجد، أو هكذا يجب أن يكون، لأن المساجد في كثير من الدول الإسلامية لم تعد تؤدي إلا دور دار العبادة فقط، وأحياناً يكون هذا الدور منقوصاً نتيجة القرارات التي تُتخَذُ بشأن إغلاق المساجد كلياً أو جزئياً، ولكن ما شكل ودور ورمزية المسجد في الدول غير الإسلامية؟
كشأن كل شيء خارج حدود ثقافته، يعتبر دور المسجد في الدول ذات الأغلبية غير المسلمة دوراً مختلفاً عن المساجد في الدول الإسلامية. ففي هذه الدول يرمز المسجد لا لمبنى تُمارس فيه شعائر الدين الإسلامي، بل للدين نفسه، وبالتالي لا يكون المسلم في هذه الثقافات مسلماً واحداً بقدر ما هو رسول ثقافي عن دينه.
ليس المسجد في الدول غير الإسلامية داراً للعبادة فقط، بل نادياً إسلامياً يشمل مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم وتدريس اللغة العربية للأطفال والكبار من غير الجاليات العربية، ومركزاً إسلامياً لتوجيه المسلمين الجدد ورعايتهم روحياً واجتماعياً وربما مادياً، وملاذاً لكل مسلم انقطعت به السبيل أو لغير المسلمين الذين يطلبون المساعدة، وحلقة وصل بين المسلمين والسلطات المحلية (والفيدرالية، إن وجدت)، ومجموعة دعم للمسلمين ممن يواجهون مشكلات قانونية أو سياسية في غير أوطانهم، وبؤرة تلتقي فيها أعراق وثقافات شتى تحت راية دين واحد.
ربما لو قرأ أحد الفقرة السابقة وأرجع مفرداتها الحديثة لمفردات قديمة وطبق هذا الوصف على المسجد النبوي لوجده وصفاً مطابقاً في كثير من الوجوه، ولأدرك أننا قد دخلنا زمن الغربة التي تُتَاحُ فيه الحرية للمسلمين خارج الدول الإسلامية وتُضَيَّقُ فيه الحريات الدينية على المسلمين في الدول ذات الأغلبية المسلمة.
وقد يندفع قارئ ما ويقول: "لكن هذا لا يرتبط بشيء غير الشكل، إذ لا يمكن للمسلم أن يعارض سياسة الدول غير الإسلامية، ولا يغير من قوانينها لتُوافق شريعته". وهذا قول سليم، لكن هل يمكن للمسلم داخل الدول الإسلامية أن يغير شيئاً وفقاً لشريعته إن لم يكن هذا هو المعمول به من الأساس؟ للأسف الشديد، لقد وصلنا لمرحلة لا يحلم المسلم فيها إلا بإتاحة الحرية له لممارسة شعائر دينه بحرية، دون أن تطاله تهمة التشدد أو حتى الإرهاب، سواء أكان ذلك في دول إسلامية أو غير إسلامية.
ولعل الجيل الجديد الذي أمامنا خير شاهد على أن المساجد في الدول الإسلامية قد فقدت أو أُفْقِدَت دورها المنوط بها، ولعلني أتذكر أنه منذ عشرين سنة مضت كانت الوجوه في المساجد ترجح كفة الشباب دون الثلاثين من العمر، لكنها الآن ترجح كفة "الشعر الأبيض". فأين الشباب؟ ستجد أكثريتهم على المقاهي ونوادي البلايستيشن والطرقات وفي البيوت على شاشات متعددة.
لكن أليس الدين المعاملة؟ أليست المعاملة أهم من العبادة؟ نعم، لكن العبادة أكبر باب لحسن المعاملة لأنها تهذب النفس وتمهد الطريق لحسن المعاملة. ولعل من نافلة القول إن سوء معاملة البعض ممن يتعبدون ليست دليلاً على وجوب إهمال العبادة، وليست إلا استثناءً لا يُقَاس عليه.
أنهي هذه المقالة المتواضعة وأنا في مسجد بالولايات المتحدة الأمريكية وعلى مقربة من رجل سبعيني يحاول جاهداً قراءة بعض كلمات القرآن الكريم بمشقة بالغة، ومن خلفنا العشرات ممن تناولوا الإفطار في المسجد، وما زالوا منتظرين لصلاة العشاء والتراويح، ثم التهجد وتناول السحور قبل صلاة الفجر.
ويُعَدُّ الإفطار والسحور في مطبخ المسجد، أو تتبرع بهما بعض الأسر المسلمة، وهناك فريق خدمي كامل يجهز بعضه الطعام والشاي والقهوة والفاكهة والحلويات، وبعضه ينظم المرور خارج حرم المسجد وداخله، في حين يلعب الأطفال في محيط المسجد الكبير، ثم يدخلون المسجد للصلاة حيثما يحل وقتها.
هكذا هي المساجد خارج الدول الإسلامية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.