عندما بدأ العالم يتأثر بجائحة كورونا قبل 3 أشهر لم نكن نتصور أن يمتد تأثيرها إلى رمضان ليمر علينا الشهر المعظم هذه السنة بلا صلاة تراويح ولا تزاوُر ولا إفطارات جماعية. لكن الإنسان سرعان ما يتكيف مع أي وضع مهما كان، فمن كان يتخيّل أن سكان العالم يمكن أن يأتي يوم يعيشون فيه بهذا الشكل.. إغلاق شبه تام والبقاء في المنازل لشهور مع توقف الأعمال وحركة السفر والطيران.
على الصعيد الشخصي هذا هو العام السابع على التوالي الذي أقضي فيه شهر رمضان خارج وطني السودان، أتذكر وأنا أكتب هذه المقالة كيف أن الشهر الكريم متميز في قريتي الصغيرة بالسودان، "قبة الشيخ سلمان"، يبدأ من أداء صلاة الفجر بعد السحور الذي عادة ما يكون وجبةً خفيفة عبارة عن كأس من الحليب أو عصير الحلو مر الشهير مع قطع من الفواكه أو التمر.
بعد التاسعة صباحاً يمضي الناس إلى أعمالهم، وأكثر سكان قبة الشيخ سلمان يعملون بالزراعة، بينما يعمل بالتجارة والمهن الأخرى عدد قليل منهم. أما ربّات المنازل فيقبلن على أعمالهنّ من غسيل الصحون وترتيب البيوت والإعداد المبكر لوجبة الإفطار بمنتهى النشاط والحيوية بلا تذمر رغم المشقة والظروف القاسية.
مع قُرب وقت الإفطار، تدبّ الحيوية من جديد في منطقتنا الوادعة التي تقع على الشريط النيلي في محلية المتمّة عندما يعود الجميع من أعمالهم، فيقوم الصغار بفرش السجادات في الشوارع حيث يخرج جميع الرجال لتناول وجبة الإفطار على قارعة الطريق، وتلك عادة متوارثة منذ قديم الزمان في طول البلاد وعرضها، هدفها هو إكرام عابري السبيل الذين لم يدركهم الوقت للوصول إلى منازلهم وقت الإفطار.
وموقع اليوتيوب يعج بالمقاطع التي تبين قطع الأهالي في مناطق السودان المختلفة للطرق السريعة وإيقاف حركة المرور وقت الإفطار من أجل إكرام العابرين.
وفي قبة الشيخ سلمان يبقى الشباب والرجال والأطفال بعد تناول وجبة الإفطار وأداء صلاة المغرب على السجادات لفترة من الوقت، يتسامرون ويتبادلون الأخبار والأفكار في الشؤون العامة والخاصة مع احتسائهم القهوة والشاي. ثم يعود الجميع إلى منازلهم ليستعدوا لأداء صلاة العشاء والتراويح في المساجد.
بعد الصلاة يخرج البعض للتنزه والزيارات الاجتماعية إلى الحادية عشرة مساءً الساعة التي يبدأ فيها تناول وجبة العشاء، فالنظام الغذائي في السودان يختلف عما سواه. إذ إن الوجبات الرمضانية تقتصر في معظم دول المنطقة على وجبتي الإفطار والسحور بينما في السودان هناك 3 وجبات الإفطار والعشاء والسحور. ولكن كما ذكرت يكون السحور عبارة عن وجبة خفيفة لا تزيد عن تناول العصائر أو الحليب ونادراً ما تجد مواطناً سودانياً يتناول طعاماً دسماً وقت السحور.
في قبة الشيخ سلمان كنت أشاهد أحياناً بعد الإفطار برنامج "أغاني وأغاني" الذي يعده ويقدمه الشاعر والكاتب السر قدور، وبعد العصر أحاول مساعدة الوالدة في إعداد الفطور وغسيل الأطباق.. أقول ذلك ولا أخجل منه مطلقاً فقد فعلها من هو أفضل وأعظم مني.. نبينا وقدوتنا محمد عليه الصلاة والسلام.
ولا أنسى أيضاً حلقات التلاوة في مسجد أنصار السنة مع شيخنا ووالدنا سعد محمد علي متعه الله بالصحة والعافية فقد تعلّمنا منه الكثير.. تجويد القرآن ودروس الفقه والتوحيد. وكذلك لا يفوتني ذِكر أول مسجد في المنطقة، مسجد البادراب الذي كان يؤمه لسنوات طويلة الشيخ عثمان سلمان، خليفة الشيخ سلمان بن ياسر العوضي الذي أُطلق اسمه على قريتنا "قبة الشيخ سلمان". مع العلم أن كل أهالي القبّة هم "أبناء عمومة" وتربطهم صلات الرحم، جزء منهم مقيم في المنطقة وبعضهم منتشر في أرجاء وربوع الوطن الحبيب وبلاد المهجر.
خارج قبة سلمان كانت لي ذكريات جميلة في مناطق أخرى بالسودان، ففي عطبرة أمضيت عدة رمضانات مع صديقي أحمد قمر الدين ابن مدينة أبوحمد وأسرته الكريمة أيام الدراسة الجامعية. وفي الخرطوم كانت لي أيّام ما أحلاها مع ابن خالتي أحمد عبدالله حميدة في شقتنا بحي شمبات وهو لا يزال موجوداً هناك برفقته صديقنا المشترك مجتبى هواري. وهذا غيض من فيض ذكريات رمضانات سابقة في وطني الحبيب السودان.
أكتب إليكم هذه المقالة وقد اقترب وقت الإفطار، وهأنذا أجلس وحيداً مع تدابير العزل. أستذكر هذه اللحظات جمال الشهر الفضيل في مسقط رأسي ومحط هواي الأول.. ولكن هي الحياة والإنسان يتعود ويتأقلم مع كل الظروف كما ذكرت في هذه المقالة، إذ إنني استفدت جداً من أيام الشهر المبارك في إنجاز العديد من الأعمال إلى جانب الاطلاع والكتابة والبحث والتأمل.
جائحة كورونا حرمتنا التزاور ومشاركة الإفطار الرمضاني مع الأحبة، وأداء صلاة التراويح في جماعة، لكنها ليست نهاية المطاف فما زلنا والحمد لله بصحة وعافية تامة، يمكننا أن نعوّض ما فاتنا لاحقاً، ونستطيع كذلك أن نطمئن على أهلنا وأحبابنا يومياً. إلى أن تعود الحياة إلى طبيعتها ونتمكن من العودة إلى الديار.. هناك في قبة الشيخ سلمان!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.