مرت عليّ في حياتي القصيرةِ رمضاناتٌ كثيرة، بعضها مَرّ سريعاً بين لهفة اللقاء وجمال البدايات، وخشوعِ الأواخر، ودموع الختام، وبعضها تَرَك في النفس أثراً، ودامت ذكراه دهراً، فلا يُنسى أبداً.
"رمضان" الطفولة
لعله أكثر الرمضانات براءة وجمالاً وروعة وجلالاً؛ كنا نعود من سفرنا من إحدى دول الخليج، ونزور أقاربَنا وأهلَنا في مصر ـ كان ذلك في الثمانينيات ـ ونعيش هناك الأجواء الرمضانية المميَّزة، والتي تميز مصر عن غيرها بزينة الشوارع وبهجة استقبال الشهر الكريم في البيوت، والأكلات المميزة والحلويات اللذيذة.
وكم كنا ننبهر بجمال مصر وروعتها، فمِن نسيم بارد عليل في شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب الحارّيْن، وخضرة على مدِّ البصر، وماءِ عذب من "قُلّة" جدتي، التي كانت تتركها مغطاة في ندى الليل ليكون ماؤها فطور صائم، ورِيَّ عطشان، ولا أزال أتذكر تجمّعَنا الكبيرَ على الفطور، حيث أبي وأمي وجدّي وجدتي وعماتي وأولادُهن، ليكون طعام أمي بلذّته وجودته جامعاً لنا، والحبُّ والألفة واصلةً بيننا، فالكبير يطعم الصغير والضحكات الدافئة تتخلل تناول الطعام فتكون غذاء للجسد وشبعاً للروح ثم نقوم بعدها لصلاة التراويح.
"رمضان" في قريتي (منتصف التسعينيات)
بعد زواجي مَنّ الله عليّ بالسكنى في القرية بمحافظة الشرقية فترة من الزمان، قد تكون من أنشط فترات حياتي همة ودعوة، وعملاً مجتمعيّاً.
ومِن ذكرياتي أننا كنا نصلي في مسجد تابع للأوقاف، وكان إمامُ المسجد ـ عَمَلًا بأوامر أمن الدولة ـ يُضيّق علينا إذا جلسنا لتحفيظ القرآن، أو إلقاءِ بعضِ الدروس، ولكنّ الله مَنّ علينا بفضله وجوده، فجاء أحدُ أهل الخير وبنى مسجداً كبيراً في وسط القرية، ويقوم على إدارته بعض الأمناء الخيِّرين من أهل القرية، وكان فتحاً من الله مبيناً، وكان "رمضان" على الأبواب، فبدأنا بتهيئة المسجد، ودعوةِ الفتيات والنساء، وكان معظمهن من الفلاحات الأمّيات، ولكن فطرتهن النقية كانت سمة بارزة، دعوْتُهنّ مع أخواتي لصلاة التراويح، وكان الأمر غريباً لبعضهن؛ فالأغلب يظن أن الصلاة في المسجد مقصورة على الرجال، والكثير منهن لا تعرف كيفية صلاة الجماعة، فقد تقرأ إحداهن وتركع قبل الإمام، ولا زلت أتذكر إحداهن وهي تصلي بجواري، وبعد تكبيرة الإحرام التفتتْ إليَّ تسألني: هل هذا صوت الشيخ فلان، أم ليس هو؟! لم أجبها ـ بالطبع ـ وبدأنا رحلة في هذا الشهر لتعليم الصلاة والصيام في المسجد.
في نهاية الشهر الكريم وعدْتُهنّ بأن نقيم ليلة أو ليلتين في المسجد ونعتكف حتى الشروق، وكان الأمر مستغرباً، لكنهن تشجعن كثيراً.
بدأنا ليلتنا بعد صلاة العشاء وصلاة التراويح، ولك أن تتخيل صعوبةَ جذبِ انتباهِ حوالي 150 امرأة، أغلبهنّ أمّيّات لا يعرفْن القراءة والكتابة، فهذا أمر ليس باليسير، فكنا نعمد إلى الذِّكر الجماعيّ، كالاستغفار والتسبيح والذكر وسماع التلاوة، وبعض المواعظ والرقائق، ويَمُرّ الليلُ سريعاً، وبعدها يحين موعد السحور، ويَغْمُرك كَرَم "الشراقوة" المعهود، وتأتي "الصواني" من كل حدب وصوب، محملة بالخيرات، من فطير مِشَلْتِت، وقشطة بلدي، وجبن قَرِيش، وعسل، وغيرها من فضل الله، وأكاد أَجزم أن لذة تلك اللقيمات مازالت في فمي، لم يغيّر طعمَها إلا مرارةُ الأيام، وألَمُ الغربةِ، وتغيُّرُ الحال.
ومن أطرف ما أنهينا به ليلتَنا ـ في اعتكاف لية القدر ـ أن مجموعة النساء الكبيرات قلْنَ لي: يا أمَّ عمر، (معلش.. لا نستطيع الصومَ مِن غير ما نشرب الجوزة ـ الأرجيلة)! قلتُ لهنّ متعجِّبة: (والله لا يكون أبداً، تشربوا (جوزة) في المسجد؟! اتْفَضّلُوا خارجَ المسجد)، وكنا في الشتاء، فقلن لي: (حرام عليكِ، الجوّ شديد البرودة في الخارج)، فقلتُ لهنّ: (نار (الجوزة) ها تدَفِّيكم)!
وبعد انتهائنا من صلاة الفجر والأذكار، خَرَجْن فرِحاتٍ مسروراتٍ، ولن أنسى إحداهن وهي تقول لي بعفوية وسعادة: الحمد لله، الإسلام انتشر يا أم عمر.
"رمضان" في "رابعة" (2013)
وهو أحد الرمضانات المحورية في حياتي، فما عشت وما أظن أنني أعيش "رمضانَ" كرمضان رابعة، في ميدان الطُّهر والفضيلة والروحانية العالية، وبصحبة خيرةٍ من الناس، كان "رمضانَ" مختلفاً بصيامه وقيامه، طابور الحمامات والوضوء خشوع صلاته، مذاق الدعاء والتكبير، قنوت الفجر، البكاء في ليلة القدر.
لا أنسى أبداَ رشاشات الماء في الحر الشديد، بعد مسيرة طويلة لمسجد النور ذهاباً ومجيئاً، حتى كدنا نهلك مِن شدة العطَش.
وفي إحدى المرات عدنا ـ أنا وأخواتي ـ وقد ارتفعت حرارتُنا جداً، وكلُّ ما استطعنا فِعْلَه يومَها (هات ثلج يا رجب)، و"رجب" كان صاحب كافيه بجوار خيمتِنا التي كانت أمام مسجد رابعة مباشرة.
وكم مِن مَرّة تأَخَّر مَن سيحْضِر لنا طعامَ الإفطار في الطريق، فيعطيك هذا طبقاً من الحلوى، وذاك طبق محشيّ ـ وما أدراك ما المحشيّ ـ وأخرى تعزم عليك بأخذ طعامها الذي أعدّتْه، وتقول وهي دامعة: "مش قادرة اعتصم معاكم، فأرجوكم اقبلوا منّي هذا الجهد"!
"رمضان" وجائحة "كورونا" (2020)
ولعله أغرب الرمضانات التي مرت علينا جميعاً، سَمّيتُه "رمضان التبَصُّر والتعافي"؛ لعل الله أراد لنا بصيرة نستشعر بها نعَمَه، فترى ما اعتدت عليه بعين بصيرتك، وتتعافى فيه من غفلة نفسك، وتجاهل ما لديك.
لقد رأيتُ فيه أني أملك الكثير الذي قَلّ لله عليه شكري.
تعلمتُ أن البيت نعمة، والأهل ولقياهم نعمة، تَجَمّعٌ على طعام، أو فسحة في زحام، بل وحتى شجارهم وضجيجهم نعمة.
أبصرتُ جمال الكون، فأصبح عندي فرصة لرؤية القمر في اكتماله وانحسار نوره، والشمسِ وشروقها، وصفا الجوُّ فأبصرْتُ الجبل البعيد، وجمال البحيرة المتوارية.
عرفت جمال زيارة المريض والمسحِ على رأسه بحنان، لمّا حيل بين كل مريض وأهله فاعتزلوه، وفي الحَجْر تركوه، فلا صدرٌ حنون، ولا نظرةٌ بها الهمُّ يهون!
إنها نِعَمٌ تتلوها نِعَمٌ غفِلنا عنها، وشعرنا وكأنها صارت حقاً مضمونا لا يُنتزَع أبداً!
تأملت ملياً قولَه تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].
وأعدْتُ التفكير في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن أصبح منكم معافًى في جسده، آمِناً في سِرْبه [أي نفسه]، عنده قوتُ يومِه، فكأنما حِيزت له الدنيا" (رواه الترمذيّ وابن ماجه والبيهقي وابنُ حبان).
فيا ربَّنا سامِحْنا على تقصيرنا، ولا تحرمنا نِعَمَك بجهلنا وذنوبنا، وأَعِنّا على دوام شكرِك، ولا تحرمنا جميلَ ما عندك بقبيح أعمالِنا، واجعل رمضانَ هذه المرةَ تعافِياً لنا مِن غفلتنا، وبصيرةً بنِعمك وإحسانك، لك العُتْبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.