أنا أدين بولعي بالأفلام لصديق مقرب لي، وهو الولع الثاني حيث يأتي بعد الكتب. وبين هذين الاهتمامين صلة قرابة، بالنسبة لي على الأقل، فأنا أبحث في كل فيلم عن الفكرة التي تقف خلفه، والفلسفة التي تؤطره. وليس بالضرورة أن تكونا هما فكرة كاتب الفيلم وفلسفته. فالفيلم، مثل الكتاب، عندما يخرج للعلن لا يعود مِلكاً حصرياً لصاحبه، وإنما يصبح "ملكية عامة"، إن صح التعبير. يخضع لتأويلات وتفسيرات مختلفة. وليس ثمة تفسير أو قراءة "صحيحة"، وإنما هناك قراءة جيدة وأخرى سيئة.
واهتمامي بنوعية الأفلام ذات المسحة الفكرية الفلسفية يجعلني أضع فيلم "The Truman Show" في أوائل قائمة أفلامي المفضلة.
في أثناء مشاهدتك الفيلم سيكون فكرك متحركاً على مستويَين متفاوتين. لا يختلفان جوهرياً في الحقيقة، ولكنهما يتحركان في دوائر مختلفة الاتساع. فأنت تتابع حياة موظف التأمينات "ترومان" (جيم كاري) وهو يقدم لك برنامجاً (أكبر برنامج قد تشاهده في حياتك من ناحية المكان وعدد العاملين فيه!). وكعادة البرامج التلفزيونية، فإن كل شيء مزيف ومفبرك هنا، ما عدا ترومان الذي لا يعرف بأمر البرنامج أصلاً. فقد تم اختيار ترومان منذ ولادته ليقدم هذا البرنامج (فهو تقديم إجباري إذاً!)، وهذه الفكرة (ماذا أقول؟ الشيطانية أم الإلهية!) هي من اختراع مخرج البرامج الداهية "كريستوف" (إيد هاريس) الذي اخترع حياة لا برنامجاً تلفزيونياً فقط! الاستوديو عبارة عن مدينة بحالها مزودة بآلاف الكاميرات الدقيقة -لا بد أن تكون دقيقة!- مهمتها هي مراقبة حياة ترومان على مدار 24 ساعة وعرضها في بث حي للعالم.
المستوى الأول الذي يمكنك أن تتحرك فيه هو هذا الزيف الذي تصنعه وسائل الإعلام من حولك. ليس على مستوى التمثيل فقط، إذا سلمنا بأن التمثيل يفعل ذلك أصلاً، ربما يكون ذلك على مستوى الممثل الذي يقوم بالتزييف لكن على مستوى المشاهد، فهو يرى أمامه مشاهد تُصوِّر مشاعر مختلفة على مستوى عالٍ من الحرفية والجودة، وإن كان هذا نسبياً بالتأكيد، ولكن لن نسلم للتمثيل بالبراءة بهذه السهولة من تهمة التزييف؛ وذلك أن خطورته إنما تكمن، ليس في تزييف المشاعر المراد عرضها، وإنما في خلق مشاعر وأحاسيس ليست نابعة حقيقة من ذات المشاهد نفسه. فهي مزيفة على مستوى أعمق إن صح التعبير، وذلك أنك ستتبناها على أساس أنها مشاعرك الخاصة. وقائمة هذه المشاعر المصبوبة في لا وعي المشاهد طويلة طولاً لا يسعنا معه سردها كلها. فمنها تصدير الأفكار والقيم الثقافية والدينية، ومنها كذلك خلق "الرجل/المرأة النموذجي/النموذجية" في وعي المشاهد. والعمق في التزييف هنا كامن في أن المُشاهد سيتبنى هذا المثال وتلك القيم، ويحاول الظهور بها للعلن، طامساً شخصيته وقِيمه وأفكاره هو، وفوق هذا سيظهر لنا بشكل أسوأ من الممثل؛ لأنه ليس ممثلاً محترفاً في الواقع!
المستوى الآخر، الذي يهمني حقيقة، هو مستوى أوسع من هذا، وقد دخلت فيه في اللحظة التي بدأت فيها فكرة الفيلم تتوضح بالنسبة لي، وتعمّق لدي هذا المستوى بالتدريج حتى آخر مشهد من الفيلم. في هذا المستوى تمثل المدينة/الاستوديو الوجود برمته، وترومان يمثل الإنسان. والتزييف الذي يحيط بها هنا، تزييف الناس، ليس هو تزييف وسائل الإعلام فقط؛ بل التزييف الذي تخلقه العادة (هل تعلمون أن العادة أكبر عامل للتزييف؟ فكِّروا في هذا فقط) تخلقه الأفكار والعادات التي تزرعها فينا الأسرة والمدرسة والمدينة، باختصار، المجتمع بكل قنواته النشطة. وترومان شخص هارب من كل هذا الزيف الذي لا يطاق.
من الجميل ملاحظة أن الحب كان هو العامل الذي كشف لترومان زيف الواقع الذي يعيش فيه. فقد وقعت سيلفيا (ناتاشا مكولن) في حبه، كما وقع هو في حبها، فلم تستطع تركه يقضي حياته في هذا العالم المزيف، فأفشت إليه السر الخطير، كاسرةً قواعد البرنامج الصارمة التي أخرجتها من طاقم الممثلين. وتَوْقه إلى هذه المرأة التي أحبها، إضافة طبعاً إلى اكتشافه عالمه المزيف، هو ما غذاه بعزم الخروج على عالمه. على هذا المستوى الثاني الذي نتحرك فيه الآن، يمكن أن نرى في سيلفيا توق الإنسان إلى المجهول، باعتبار المرأة تمثل "الآخر/المجهول" بالنسبة للرجل. وهنا تحضرني مقولة لدوستويفسكي: "الحب سينقذ العالم"، وإنقاذ العالم يسبقه، ضرورة، إنقاذ الإنسان.
ولمحة أخرى جميلة في الفيلم، هي في طريقة هروب ترومان. فقد كان لديه خوف مرعب من الماء (ليس ماء الشرب طبعاً!)؛ بسبب حادث وقع له في صباه، مات فيه أبوه غرقاً (موت مزيف؛ لأن الجميع يمثل حتى أبواه!). لكنه يتخطى خوفه ويركب قارباً شراعياً، ليصل إلى طرف العالم الذي تفصله المياه (تُذكِّرنا المياه هنا بالرحم الذي يفصل بين عالَمين!). وعندما يصل أخيراً إلى الحاجز الفاصل تظهر له بوابة العبور، وقبل أن يعبر يدور حوار معبر جداً بينه وبين كريستوف (المُخرج الذي نسيناه!).
كان كريستوف يحاول إثناءه عن عزمه على العبور: "لن تجد في الخارج عالماً أفضل من الذي اخترعته لك. الكذب ذاته، والخدع ذاتها!.. أنا أعرفك!". كان ترومان ينظر باتجاه الشمس ويأتيه الصوت من كل مكان. كان محاكاة لخطاب الإنسان مع الإله. يردُّ ترومان على المُخرج ودعواه بمعرفته: "لم تكن لديك قَط كاميرا في رأسي!".
ويقتحم الإنسان الباب إلى المجهول، وأمامه كان الظلام!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.