تاريخيًا، يعتقد الكثيرون أن الدعم الألماني للاحتلال الإسرائيلي مرتبط بالشعور بالذنب الذي تحمله ألمانيا جراء المحرقة النازية. ومع ذلك، هناك دوافع أخرى وراء هذا الدعم. إذ لا يمكن إرجاع الأسباب الحقيقية التي تدفع السلطة التنفيذية في ألمانيا لقمع أي نقد لإسرائيل لعقدة الذنب فقط، خصوصاً بعد اعتراف محكمة العدل الدولية بالإبادة الجماعية في غزة. إذ تظهر معادلة صعبة، بل شبه المستحيلة، تسعى ألمانيا لتحقيقها في تعاملها مع تناقض سياستها وتوجهات المهاجرين العرب والمسلمين التي أصبحت محطة لهم، وبخاصة أولئك القادمين من الدول العربية.
إن الشعور بالذنب الذي تحمله ألمانيا بسبب ما اقترفته النازية يُعد من العوامل الرئيسية التي تدفعها لدعم إسرائيل، فهي ترى في هذا الدعم تعويضًا عن الجرائم التي ارتُكبت خلال الحرب العالمية الثانية. وقد بدأ هذا التعاون المادي والسياسي والعسكري باتفاقية لوكسمبورج في سبتمبر 1952، ومن حينها تستمر ألمانيا في دعم إسرائيل كجزء من استراتيجيتها أيضًا لتعزيز موقعها كحليف رئيسي في الشرق الأوسط. إذ تعد إسرائيل بالنسبة لأغلب الدول الغربية وليس ألمانيا فقط، رأس الحربة للرأسمالية الغربية في منطقة تعاني من التحديات والاضطرابات بسبب التدخلات الأجنبية، ومن خلال دعمها، تسهم ألمانيا في الحفاظ على توازن القوى بما يتماشى مع مصالح الغرب.
إذ ترى ألمانيا الاحتلال كشريكً استراتيجي مهم في الشرق الأوسط، خاصة في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية. وبالتالي تسعى ألمانيا من خلال دعمها للإبادة في غزة لتعزيز التعاون في مجالات البحث والتكنولوجيا مع الاحتلال، للاستدامة فرص تحقيق مصالح اقتصادية متبادلة.
بالإضافة إلى ذلك، تتشابك التجربة الألمانية في تجربة الإبادة الجماعية مع تاريخ الاحتلال في الصراعات والحروب، مما يشكل قواسم مشتركة بينهم. فعلى سبيل المثال، كانت ألمانيا مسؤولة عن إبادة شعب ناميبيا، حيث قُتل ما يقرب من ثلاثة أرباع السكان الناميبيين، بالإضافة إلى محاولات النازيين لإبادة اليهود. يمكن اعتبار الدعم الألماني لإسرائيل كاعتراف ضمني بدور مشترك في التعامل مع قضايا الإبادة والاضطهاد، على الرغم من أنها ليست ذات الصلة بشكل مباشر.
فتحاول ألمانيا بمنطق أعور، من خلال دعمها لإسرائيل، أن تُعزز صورتها أمام المجتمع الدولي كداعم لهذا المنطق الحضاري الاستعماري الذي يقام على جثث المواطنين الأصليين، وتُظهر هذا الدعم كوسيلة لمعالجة تركتها التاريخية السيئة. وبالتالي يمكن فهم هذه الجهود كمحاولة من ألمانيا لتعزيز التزامها بهذا الإرث الفكري الاستعماري الذي لم يتخلص منه الغرب إلى الآن.
لذلك، تفرض ألمانيا معادلة صعبة ومرهقة على المهاجرين العرب والمسلمين، إذ تطلب منهم قبول الدعم المطلق من ألمانيا للاحتلال رغم أن هذا الدعم قد يأتي على حساب بني جنسهم ودينهم. إذ تفرض على المهاجرين أن يتقبلو فكرة أن أموالهم من الضرائب تُستخدم لدعم سياسات الاحتلال الذي تسعى لإبادة مجتمعاتهم الأصلية.
في هذا السياق، تنفذ ألمانيا سياسة متقدمة في قمع أي انتقادات تجاه إسرائيل داخل ألمانيا، مستخدمة أساليب غير مباشرة تهدف إلى إسكات أي معارضة. إذ تقوم السلطات، أحيانًا تحت غطاء القانون، بتهديد المهاجرين بالترحيل، والفصل من العمل، وسحب الامتيازات. وتتم ضخ هذه الضغوطات والتهديدات بشكل خبيث عبر وسائل الإعلام والتلفزيون، مما يجعل من الصعب على المتضررين الطعن في هذه السياسات قضائياً. بسبب البيروقراطية المعقدة وتكاليف التقاضي العالية، يجد الكثيرون أنفسهم مجبرين على الصمت أو الانسحاب من النشاطات السياسية والاجتماعية.
ورغم هذا القمع للمهاجرين الداعمين للقضية الفلسطينية، تسعى ألمانيا أيضاً إلى استخدام نفوذها الاقتصادي والسياسي بشكل استراتيجي. إذ تسعى لتوطيد التعاون مع الدول العربية بشكل أكبر حيث تراها كسوق كبير لأكثر من 400 مليون إنسان لإستيراد منتجاتها. فالإنتاج الألماني يعتمد على هذا السوق الكبير، وتدرك الحكومة أن مقاطعته قد تؤثر بشكل كبير على اقتصاد البلاد. في نفس الوقت، تسعى ألمانيا إلى الحفاظ على صورة إيجابية في العالم العربي، مما يساهم في دفع الشباب إلى تعلم اللغة الألمانية والحلم بالهجرة إليها. لهذا، تنفق ألمانيا مبالغ طائلة لنشر الثقافة واللغة الألمانية في العالم العربي، مما يعكس سعيها لتحقيق معادلة معقدة عبر النفاق والتلاعب والقمع الداخلي.
ففي نفس الوقت ألمانيا تشارك حتى الآن بملايين الدولارات في دعم السياسات الإسرائيلية التي تؤدي إلى الإبادة الجماعية في فلسطين، خاصة في قطاع غزة. بالإضافة لذلك، تنصب ألمانيا أفخاخًا قانونية ضد كل من يعارض هذا الدعم أو ينتقد الإبادة الجماعية. تستغل ألمانيا كل فرصة لمحاسبة المعارضين لها باستخدام قوانين تُطبق بشكل غير عادل، والتي تبدو وكأنها معدة فقط للاستهلاك المحلي. بينما هذه القوانين تطبق بشكل صارم على معارضي إسرائيل داخل ألمانيا، فإنها نادراً ما تُطبق على السياسات الألمانية الخارجية، مما يعكس تناقضًا صارخًا بين القوانين والتطبيق الفعلي.
تعتري القوانين الألمانية الصارمة المتعلقة بدعم إسرائيل، وإدماجها ضمن ملف الأمن القومي الألماني، فخاخ وكوارث متعددة تتمثل في استغلالها لتصفية حسابات شخصية.بعض الموظفين في السلطة التنفيذية، والذين قد ينتمون إلى أحزاب يمينية متطرفة أو يحملون مشاعر معادية للأجانب، يستغلون هذه القوانين كأداة للانتقام من الأجانب. المثير هنا أن هؤلاء المستغلين، قد يكونون أنفسهم معادين للسامية، لكنهم يستغلون القوانين لتصفية حساباتهم الشخصية مع الأقليات العربية والإسلامية في البلاد، مما يعزز فداحة التناقضات والتمييز في تطبيق هذه القوانين.
باختصار، ينبع الدعم الألماني لإسرائيل من مزيج معقد من العوامل التاريخية والجيوسياسية والاقتصادية. هذا الدعم لا يقتصر على مجرد شعور بالذنب التاريخي، بل يشمل اعتبارات أوسع تتعلق بالمصالح الاستراتيجية والاقتصادية لألمانيا، مما يدل على تعدد الأبعاد في العلاقات الألمانية مع الاحتلال والأهداف والأخلاق الاستعمارية المتبادلة التي تحرك هذا التحالف.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.