سيد بن حضير (رضي الله عنه) صحابي، وكان زعيما للأوس في المدينة قبل إسلامه، وورث عن أبيه مكانته، حيث كان واحداً من كبار أشراف العرب في الجاهلية ومن مقاتليهم الأشداء، وقد ورث المكارم كابرا عن كابر، وكان صاحب فكر صافٍ، وشخصية مستقيمة قوية، وناصعة، ورأي ثاقب، وقد ذكر بعض المفسرين أنه كان سبباً في نزول آية التيمم.
وكان أسيد أحد النقباء الذين اختارهم الرسول ﷺ ليلة العقبة الثانية، فقد أسلم أسيد بعد بيعة العقبة الأولى، عندما بعث النبي ﷺ مصعب بن عمير (رضي الله عنه) إلى المدينة، فجلس هو وأسعد بن زرارة في بستان، وحولهما أناس يستمعون إليهما، وبينما هم كذلك، كان أسيد بن حضير (رضي الله عنه)، وسعد بن معاذ زعيما قومهما يتشاوران في أمر مصعب بن عمير الذي جاء يدعو إلى دين جديد.
فقال سعد لأسيد: انطلق إلى هذا الرجل، فازجره، فحمل أسيد حربته وذهب إليهما غضبان، وقال لهما: ما جاء بكما إلى حيِّنا (مدينتنا)، تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا، إذا كنتما تريدان الحياة. فقال له مصعب (رضي الله عنه): أَوَ تَجْلِس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره؟ فقال أسيد: لقد أنصفت، هاتِ ما عندك. فأخذ مصعب (رضي الله عنه) يكلمه عن الإسلام ورحمته وعدله، وراح يقرأ عليه آيات من القرآن، فأشرق وجه أسيد بالنور، وظهرت عليه بشاشة الإسلام حتى قال من حضروا هذا المجلس: والله لقد عرفنا في وجه أسيد الإسلام قبل أن يتكلم، عرفناه في إشراقه وتسهله.
ولم يكد مصعب (رضي الله عنه) ينتهي من حديثه حتى صاح أسيد (رضي الله عنه) قائلاً: ما أحسن هذا الكلام وأجمله، كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين؟ فقال له مصعب (رضي الله عنه): تطهّر بدنك وثوبك، وتشهد شهادة الحق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم تصلي.
فقام أسيد (رضي الله عنه) مسرعًا فاغتسل وتطهر ثم صلى ركعتين معلنًا إسلامه.
وعاد أسيد إلى سعد بن معاذ (رضي الله عنهما)، وما كاد يقترب من مجلسه، حتى قال سعد (رضي الله عنه) لمن حوله: أقسم، لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به، ثم قال له سعد: ماذا فعلت؟
فقال أسيد: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسًا، وقد نهيتهما.
فقالا لي: نفعل ما أحببت.
ثم قال أسيد (رضي الله عنه) لسعد بن معاذ: لقد سمعت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وهم يعلمون أنه ابن خالتك، فقام سعد غضبان وفي يده حربته، ولما وصل إلى مصعب وأسعد وجدهما جالسين مطمئنين، عندها أدرك أن هذه حيلة من أسيد لكي يحمله على السعي إلى مصعب لسماعه، واستمع سعد لكلام مصعب واقتنع به وأعلن إسلامه، ثم أخذ حربته، وذهب مع أسيد بن حضير (رضي الله عنهما) إلى قومهما يدعوانهم للإسلام، فأسلموا جميعًا.
وقد استقبل أسيد النبي ﷺ لما هاجر إلى المدينة خير استقبال، وظل أسيد (رضي الله عنه) يدافع عن الإسلام والمسلمين، فحينما قال عبد الله بن أبي بن سلول لمن حوله من المنافقين أثناء غزوة بني المصطلق: لقد أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير دياركم، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فقال أسيد (رضي الله عنه): فأنت والله يا رسول الله تخرجه منها إن شاء الله، هو والله الذليل، وأنت العزيز يا رسول الله، ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز (حبات يطرز بها التاج) ليتوجوه على المدينة ملكًا، فهو يرى أن الإسلام قد سلبه ملكًا.
وذات ليلة أخذ (رضي الله عنه) يقرأ القرآن، وفرسه مربوطة بجواره، فهاجت الفرس حتى كادت تقطع الحبل، وعلا صهيلها، فسكت عن القراءة فهدأت الفرس ولم تتحرك، فقرأ مرة ثانية فحدث للفرس ما حدث لها في المرة الأولى، وتكرر هذا المشهد عدة مرات، فسكت خوفًا منها على ابنه الصغير الذي كان ينام في مكان قريب منها، ثم نظر إلى السماء فإذا به يرى غمامة مثل الظلة في وسطها مصابيح مضيئة، وهي ترتفع إلى السماء.
فلما أصبح ذهب إلى الرسول ﷺ وحدثه بما رأى، فقال له النبي ﷺ: (تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم) [البخاري].
وعاش أسيد (رضي الله عنه) عابدًا قانتًا، باذلا روحه وماله في سبيل الله، وندم أسيد على تخلفه عن غزوة بدر، وقال: ظننت أنها العير، ولو ظننت أنه غزو ما تخلفت. [ابن سعد]، وقد جرح أسيد (رضي الله عنه) يوم أحد سبع جراحات، ولم يتخلف عن غزوة بعدها قط.
وبعد وفاة النبي ﷺ اجتمع فريق من الأنصار في سقيفة بني ساعدة على رأسهم سعد بن عبادة، وأعلنوا أحقيتهم بالخلافة، وطال الحوار، واشتد النقاش بينهم، فوقف أسيد بن حضير (رضي الله عنه) مخاطبًا الأنصار قائلاً: تعلمون أن رسول الله ﷺ ( كان من المهاجرين، فخليفته إذن ينبغي أن يكون من المهاجرين، ولقد كنا أنصار رسول الله ﷺ، وعلينا اليوم أن نكون أنصار خليفته.
وكان أبو بكر (رضي الله عنه) لا يقدم عليه أحدًا من الأنصار، تقول السيدة عائشة (رضي الله عنها): ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد منهم يلحق في الفضل، كلهم من بني عبد الأشهل: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعباد بن بشر. [ابن هشام].
وتوفي أسيد (رضي الله عنه) في عام (20 هـ)، وأصرَّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أن يحمل نعشه على كتفه، ودفنه الصحابة بالبقيع بعد أن صلوا عليه، ونظر عمر في وصيته، فوجد أن عليه أربعة آلاف دينار، فباع ثمار نخله (البلح أو التمر) أربع سنين بأربعة آلاف، وقضى دينه. [البخاري وابن سعد]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.