لا تنسَ غضبك من الطغاة، لا تلتفت دائماً إلى أقوال أدعياء الحكمة الذين يرون أن الغضب شعور سيئ على الدوام، بالعكس فالغضب أحياناً يرقى إلى القداسة إذا وُضع في موضعه، ولا أرى أحداً أهلاً للغضب منه وعليه أكثر من ظالم ضيّق على الناس دنياهم، وغرّبهم في أوطانهم، وقتل أحرارهم وملأ منهم السجون والمعتقلات.
وهل تكون ثورات الشعوب على الطغاة إلا من الغضب؟ وهل يتم الانتقام للمظلوم من الظالم إلا بالغضب؟ وهل تقوم حروب استرداد الأرض والكرامة بين الدول والأمم إلا على الغضب؟ دعوني أقُل إنني هنا لا أمدح الغضب لأنني أحبه، ولكنني أمدحه لأنني أراه ضرورياً لاستمرار الحياة.
فلله در المتنبي عندما قال قديماً:
وَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ بِالعُلا ** مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ في مَوْضِعِ النَّدَى
فالحلم في موضع الغضب خور وجبن، والغضب في موضع الحلم رعونة وحماقة، فيجب على الإنسان السوي أن يحمل في جعبة مشاعره معظم أنواع ردود الفعل فيُخرج لكل موقف ما يناسبه.
المبالغة في ذم الغضب دون الإشارة إلى أن الغضب لله إذا انتهكت محارمه أو مست الكرامة أو العرض يعد من الفروض، يُخرج لنا أجيالاً جبانة مدجنة، ترى في أي نوع من الغضب طيشاً مذموماً وتهوراً غير محمود، يجب أن نفهمهم أن الإنسان يجب أن يتحكم في مشاعره، كما يتحكم البليغ في لسانه، فكما نعلّم أجيالنا الجديدة في المدارس أن تعريف البلاغة هو مناسبة المقال للمقام، فيجب أن نعلمهم أن يلبسوا لكل حالة لبوسها؛ إما نعيمها أو بؤسها، كما قال العربي في قديم الزمان.
والغضب يزيد في قداسته كلما ابتعد عن الأسباب الشخصية، أي كلما كان سبب الغضب أكثر تجرداً، وأقدس أنواعه هو الغضب لله إذا انتهكت محارمه، وهو دليل على قوة إيمان الشخص، ويقظة ضميره، وسلامة قواه النفسية، ونقص هذا النوع من الغضب يستوجب العلاج، ومراجعة القواعد التي بنى عليها الشخص إيمانه، ومن أكثر الأحاديث التي تبين صفة غضب الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما ذكرته الصديقة بنت الصديق أُمنا عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- من حال النبي صلى الله عليه وسلم، حين قالت: "ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئاً قط بيده ولا امرأة ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن يُنتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله عز وجل".
أما الغضب المذموم الذي أجمع الكل على كراهيته والنفور منه فهو الغضب للنفس، الذي كلما ابتعدت عنه النفس البشرية أصبحت أكثر سمواً وأكثر اقتراباً إلى الكمال الأخلاقي، وهذا هو الغضب الذي يجب أن نربي أبناءنا وأنفسنا قبلهم على الابتعاد عنه والتحلي بتجنبه، والغضب للنفس يصبح كبحه صعباً كلما زادت قوة الشخص على إنفاذه والتنفيس عنه؛ لذلك كان السابقون يعوذون من غضب السلطان، وتاريخنا يزخر بأمثلة على تجنب مثل هذا النوع من الغضب أعجبني منها هذا الموقف: "خطب سيدنا معاوية يوماً، فقال له رجل: كذبت. فنزل مغضباً فدخل منزله، ثم خرج عليهم تقطر لحيته ماءً، فصعد المنبر فقال: أيها الناس، إن الغَضَب من الشيطان، وإن الشيطان من النَّار، فإذا غضب أحدكم فليطفئه بالماء، ثم أخذ في الموضع الذي بلغه من خطبته". تخيّلوا معي رئيس جمهورية أو ملكاً يلقي خطاباً ثم يقاطعه أحد الجمهور قائلاً: كذبت، ماذا سيكون رد فعله؟
أخيراً أقول إن أُمَّتنا في وقتنا الراهن تحتاج لشحنات كبيرة من الغضب المحمود حتى تخرج من نفقها المظلم الذي لا تعرف له نهاية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.