إن شخصية الإنسان المعاصر قد تشوّهت كثيراً بسبب قيم الفردية والمادية والأنانية والشهرة الزائفة والانحلال الجنسي باسم الحرية والحداثة وما بعد الحداثة، وفي الوقت ذاته، نجد القيم الحقيقة والقيم الروحية والقيم الجمالية قد اضمحلت كثيراً في شخصيته.
إن القيم هي مجموعة الأحكام التي يصدرها الفرد لاستحسان أو لاستهجان موضوع سيكولوجي وسلوكي.
والقيم ترسم الحدود التي نسير خلالها لتحقيق الحاجات والرغبات والآمال؛ فمثلاً إشباع المعدة وسد فم الجوع رغبة فطرية عند كل البشر، فهل نحقق هذه الرغبة ونحصل على الطعام بمال حلال أم بمال أتي عن طريق السرقة أو الرشوة أو النصب أو الاحتيال؟ ركوب السيارة أمل يلاعب خيال الكثيرين، فهل نصل إلى هذا الأمل ونركب السيارة بمال شقينا فيه أم بمال أتى من طريق مشبوه؟ الشهرة مطلب لكثير من البشر حتى لا يكونوا هملاً، فهل تأتي الشهرة بجهد وعرق حقيقيين أم بطريق الانتهازية والوصول لأصحاب السلطة بطريق غير شريف؟
وطبق هذه القاعدة على كل مناحي الحياة…
والعلم الذي يهتم بالقيم هو علم "الأكسيولوجيا .(Axiologie) وهو العلم الذي يدرس علم القيم العليا والقيم المطلقة، ويدرس قيم الخير والشر. وهذا العلم مرتبط دائماً بقيم أساسية ثلاث؛ قيمة الحق وقيمة الخير، وقيمة الجمال.
(1)
وهنا نصل إلى معرفة بعض أنواع القيم الإسلامية والتي ينبغي أن نهتدي بهديها:
قيمة العدل:
قال تعالى في سورة النحل: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} الآية 90.
وفي سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} الآية 8.
قيمة الأمانة وتحمل المسؤولية:
قال تعالى في سورة الأحزاب: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} الآية 72.
قيمة التعقل وإعمال العقل:
قال تعالى في سورة البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} الآية 170.
قيمة الخير:
قال تعالى في سورة البقرة: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الآية 147.
قيمة الشورى:
قال تعالى في سورة الشورى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} الآية 38، ويكفي أن الشورى لها سورة باسمها في القرآن الكريم.
قيمة العمل:
قال تعالى في سورة التوبة: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} الآية 105.
قيمة الصدق
عن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا. وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً". رواه البخاري ومسلم.
قيمة المساواة
قال تعالى في الآية 13 من سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.
وقال الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم:
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ؟ قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ: قَالَ: ثُمَّ قَالَ: أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ، هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَبَلَّغْتُ؟ قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ"، رواه الأمام أحمد بن حنبل.
(2)
وهنا نصل إلى عرض أمثلة لبعض القيم المغلوطة في الإنسان المعاصر:
ما هي القيم والمبادئ لحقوق الإنسان في منظمة الأمم المتحدة والمجازر تترى في فلسطين والآلاف من المدنيين يقتلون بدم بارد منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى الآن؟
ما هي قيم الديمقراطية الغربية وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية وهم ما فتئوا يدعمون الحكام العسكريين والانقلابيين والديكتاتوريين؟
ما هي مجموعة القيم التي يحملها رجل الأعمال الذي يقوم بأعمال منافية للقيم والآداب في سبيل تحقيق ثروة كبيرة وبسرعة مثل تجارة المخدرات؟ سيكون معه أموال طائلة فعلاً، ولكن فهل هذه الأموال ستخلع عليه أي قيمة أو احترام؟
رجل الأعمال الذي يقوم بعلاقة زنا سياسي مع السلطة؛ يصرف على البلطجية من جيبه الخاص لكي يقمعوا المظاهرات والمعارضين والأحرار ويزوروا الانتخابات في مقابل أن يحتكر الحديد والصفيح، ما هي قيمته الحقيقية أمام نفسه مهما اشتهر واغتنى وكان من رجال الدولة والمرموقين؟
ما هي قيمة رجل الأعمال الذي يتاجر في الأفلام الهابطة والجنسية؟ وما هي قيم الذين يقومون بمثيل هذه العمال الهابطة؟
رجل الأعمال الذي يتهرب من الضرائب بعدما رشا فلة أو منزلاً لابن مسؤول كبير له شأن في الدولة، ما قيمته الحقيقية في المجتمع؟
والعجيب أن الدولة تجبي الضرائب من صاحب محل فول وطعمية بسيط وتترك هذا المجرم وأمثاله!
الموظف الذي يعقد الأمور أمام المواطنين لكي يدفعوا له (المعلوم)، هل يشعر باحترامه لنفسه؟
التاجر الذي يغش في تجارته؛ ما قيمته أمام نفسه؟
الكاتب الكبير الذي يروّج للظالمين والطغاة لأنه يريد الشهرة بأي شكل؛ فقَبِل أن يملي عليه "صول" الجريدة القومية الكبيرة الأوامر للكتابة في عهد الانقلاب. وافق على أن يقيد الشموع والبخور ويقدم القرابين في معبد السحت والعهر السياسي؛ أين هو احترامه لنفسه عندما ينام بالليل ويخلو لنفسه؟
الكاتب الذي يشار إليه بأنه عقيد الأدب العربي أو الإفرنجي أو الفارسي، هل تأتي قيمته من هذا اللقب وانتهى الأمر، أم تأتي قيمته من صقله الأدبي وموهبته الحقيقية وليست المزيفة؟
هل خلع لقب "لواء" على الموسيقار عبد الوهاب قد أعطاه أي قيمة؟ أم موهبته الفنية وتجديده وتجويده لعمله جعله موسيقار الأجيال؟
الديكتاتور السفاح الكبير الذي يمشي وهو خائف من كل شيء حتى وصل الخوف من ظله، ويقف في أي لقاء وهو ينز في عرقه، ويقلب الحروف في كثير من كلامه، هل خلع لقب "الدكر" و"الزعيم" و"المخلص" ووو…عليه سيجعله ذا قيمة؟!
الممثلة الساقطة التي يشار إليها بالبنان ويقال عنها بأنها طاقة فنية خلاقة، وهي في حقيقة الأمر لا تملك أي قيمة فنية سوى تقديم جسدها الرخيص للمنتج أو المخرج.
وما هي قيمة العدل والإنصاف عند القاضي الذي يطلق أحكاماً جزافاً من إعدامات وسجون لفترات طويلة وغرامات مالية رهيبة على الشرفاء والمعارضين لنظام الحكم الديكتاتوري؟
(3)
وهنا نصل إلى السؤال عن قيمة الإنسان الحقيقية
إن قيمة الإنسان تأتي من مجموعة القيم والأخلاق والمبادئ التي يسير على ضوئها. فلن تأتي قيمة حقيقية للإنسان من شهرة زائفة، ولن تأتي قيمته مما يقال عنا كذباً وزوراً، ولن تأتي من مال أو غنى، ولن تأتي من أي مظهر من المظاهر الكاذبة ولا من أي عرض زائل.
يقول المسيح عليه السلام: "ما فائدة أن تربح العالم وخسرت نفسك"؟
إن تعليم القيم فريضة ينبغي القيام بها دون كلل أو ملل، وغرس القيم يجب أن يبدأ من الروضة في البيت والمسجد والمدرسة؛ حتى يشب أطفالنا صالحين ويحملون القيم الحقيقية في أفكارهم ومشاعرهم وسلوكهم والتي ينبغي أن يحملها كل إنسان صالح محترم فاضل.
إن قيمتنا تنبع من داخلنا، من ضميرنا، من المبادئ التي نسير عليها، من أخلاقنا السامية، من الوقوف بجانب الحق والخير والجمال كما قال الفلاسفة، وأخيراً من ديننا الحنيف الذي حث على اجتناب الباطل والتمسك والتشبث بالحق.
إن تعليم القيم الفاضلة أمر حض عليه القرآن الكريم حيث ذكر الله -سبحانه وتعالى- في سورة الإسراء {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} آية 9.
وفي الحديث الشريف: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.