تحت سقف مجلس الأمن الدولي الصغير صوَّت الأعضاء على مشروع قرار وقف إطلاق النار بغزة خلال شهر رمضان الذي يحترمونه، وبالرغم من قبول المجلس للقرار فقد أعاد جيش الاحتلال الإسرائيلي قصف القطاع صباح اليوم التالي. إسرائيل لا تعبأ بمجلس الأمن ولا بقراراته، وبهذا فهي لا تعبأ أيضاً بمحكمة العدل الدولية؛ لذا يواصل نتنياهو مجازره، فهو خارج عن القانون، والحرب التي يخوضها لم تضع لها الإدارة الأمريكية أي خطوط حمراء؛ لذا قتل المدنيين مباح!
لم يعد بنيامين نتنياهو قادراً على إخفاء التوتر بينه وبين الإدارة الأمريكية، إذ العلاقة بينهما أصبحت قائمةً على المصالح المشتركة في المنطقة، وذلك ما جعل الإدارة الأمريكية تكشف عن امتعاضها من سياسة نتنياهو السيئة وطريقة إدارته للحرب. فالإدارة في واشطن لا توافق على خطة نتنياهو لاجتياح رفح، وكذلك تريد إتمام صفقة التبادل، وقبلها وقف إطلاق النار، لذا امتنعت أمريكا بمجلس الأمن الدولي عن التصويت على مشروع قرار وقف إطلاق النار، ولم تقابله بحق النقض (الفيتو).
وتل أبيب، تلك العاصمة القائمة فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة، تحاول التخلص من العباءة الأمريكية، وتسعى إلى إثبات استقلالها عن السياسة الأمريكية، لذا يسير نتنياهو في هذا الاتجاه، واليمين المتطرف يصفق له، وبن غفير وسموتريتش واليمين الراديكالي الإسرائيلي يدفعان به إلى مواصلة الحرب وتحرير الأسرى واجتياح رفح، والزمن نفد، ولم يستطع جيش الاحتلال تحرير أي أسير، فكأن حكومة الطوارئ قد انحلت أمام نتنياهو الذي يُشاهد أول استقالة وأول قرار معاً.
السياسة الأمريكية تهيمن عليها النزعة البراغماتية، والنظام الرأسمالي يعزز هذه النزعة، فأينما وجد النظام الرأسمالي وُجدت النزعة البراغماتية، والسياسة الأمريكية تنطلق من هذا المبدأ البراغماتي، وعلى ذلك المبدأ يعمل السياسي الأمريكي. فالساسة الأمريكان يتفاوضون على مصالحهم وفي سياساتهم الخارجية يدافعون عن مبادئهم البراغماتية. وأعتقد أن مجلس الأمن الدولي وأعضاءه الدائمين عقيدتهم واحدة فيما يخص المنفعة بينما اختلافهم في السياسة.
والعبارة التي تمت صياغتها في نص مشروع القرار الذي تم تمريره وقبوله بمجلس الأمن الدولي تؤكد حقيقة أن المجلس والأعضاء الدائمين فيه يبنون قراراتهم السياسية بناءً على مصالحهم، وسياساتهم لا تنطلق من فلسفة أخلاقية رصينة، بل فلسفة تغلب عليها فلسفة القوة والهيمنة، وهذا ما يفسر قرار وقف إطلاق النار خلال شهر رمضان، بعد خمسة أشهر من قتل الأطفال والنساء وتدمير المنازل والقضاء على حياة الفلسطينيين بغزة، والآن يوافقون على القرار بحجة رمضان.
ليس من العدل أن تكون القوة هي الأداة التي تفصل في النزاعات الدولية، وكذلك ليست الفضيلة هي من تمنح بناءً على مراكز القوة والعرق والدين والجغرافيا، فعندما تكون الدولة قويةً يكون لها الحق في الدفاع عن نفسها وأرضها وشعبها، وتكون لها حقوق تخول لها ذلك الدفاع، مع وضع العرق واللغة والمكان الجغرافي في الحسبان، بينما إذا كان الشعب أو الدولة لا يملكان تلك القوة المادية يكون التفاوض على حق الدفاع أمراً يقبل التصويت، ويخضع للنسبية، وهنا الإشكال.
مجلس الأمن الدولي يعمل وفقاً لمبدأ القوة، ومفهوم القوة بحد ذاته يُعتبر مفهوماً غربياً تأسست عليه الثقافة الغربية المعاصرة، وتعاطى معه فلاسفة العقد الاجتماعي منذ القرن السابع عشر الميلادي، إذ أكد هوبز على أن المعرفة تكمن في القوة، والدولة يجب أن تمتلك المعرفة لكي تصبح قوية، ويمكنها إخراج المجتمع من حالة الفوضى إلى الحالة المدنية وفقاً لفلسفته، وكذلك لوك يعزز مفهوم القوة، وفلاسفة التنوير الأوروبي عموماً متفقون على هذا المبدأ، وقد تغذّت النازية على فلسفة هوبز، وكذلك الدول الحديثة تعمل بمفهوم القوة الذي بدأ مع كتابات هوبز المبكرة في لوياثانه، وكذلك عند نيتشه.
ويمكن ربط مفهوم القوة الذي أوجد الدول الغربية بالتاريخ الإمبريالي والتوسع الاستيطاني خارج حدودها وثقافتها، فبدون مبدأ القوة لن تستطيع نشر ثقافتها ولغتها من خلال احتلالاتها للدول الأخرى، وهذا ما يفسر القوة التي جعلت من الدول الخمس بمجلس الأمن الدولي أعضاءً دائمين، إذ السياق التاريخي قد أوجد هذا المجلس الذي تأسس بعد الحرب الكبرى الثانية، وهذا يؤكد أن قوة الدول المنتصرة في تلك الحرب قد ساعدت على تأسيس مجلس الأمن الدولي وقتئذ.
ويبقى مجلس الأمن الدولي مجرد مجلس صغير لعالم كبير ومتنوع، هو في معناه أكبر قيمة من ذلك المجلس الصغير، وكذلك مساحة قطاع غزة، التي صوّت أعضاء المجلس الصغير على مشروع قرار وقف إطلاق النار فيها أوسع منه. وشهر رمضان الكريم هو من يمد كتائب القسام بالصبر والرحمة والقوة الإلهية، فتدفع بهم إلى النصر والمقاومة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.