بعد السابع من أكتوبر، استيقظت أمريكا وأوروبا وإسرائيل على ضربة صادمة ومهينة ومركزة ولطمة في وجه البروباغندا الإعلامية للقوة الأسطورة التي لا تُقهر، كانت هذه الضربة قهراً وغماً وحزناً شديداً على سقوط إسرائيل في أكتوبر، وبعثرة كل المخططات الاستيطانية والاستعمارية وأوقفت التطبيع المجاني من الدول العربية لإسرائيل؛ وتوقفت الحياة بين عهد قد مضى وتاريخ تتم صياغته من جديد.
بعد الاستفاقة توافدت الزيارات على إسرائيل لنجدتها بعد أن دوَّت صرختها وأسمعت كل العالم عبر الميديا والإعلام الذي يتحكمون فيه؛ وظنوا أنه يمكن أن يستعيدوا شرفهم المهدور وكبرياءهم المنهزم عبر دعاياتهم الكاذبة وروايتهم الملفقة.
وجاء الدعم والمساندة اللامحدود للاحتلال الإسرائيلي من أوروبا وأمريكا وبريطانيا وبعض أذيالهم من حكام العرب، وحيث إن الضربات الجوية المتصاعدة لا تحسم معركة؛ كان لزاماً وجود معركة برية في اقتحام غزة.
ولكن بايدن حذَّر من وقوع الجيش الإسرائيلي في فخ فيتنام أو حرب الفلوجة الذي تمرغ في وحلهما الجيش الأمريكي، ومن هنا كانت الزيارة والاستشارة، وسعى المستشارون العسكريون الأمريكيون بقيادة غلين إلى تزويد القادة الإسرائيليين بالرؤى المستفادة خلال الحملات التي قادتها الولايات المتحدة في سوريا والعراق، للاستفادة منها في الحرب.
وغلين خبير بحرب المدن، وقاد بعضاً من أكثر المعارك دموية في الفلوجة، بين القوات الأمريكية والمقاتلين العراقيين، وقال قائد قوات مشاة البحرية الأمريكية، إريك سميث، أمام حشد من الصحفيين في واشنطن: "لا تخطئوا، ما حدث أو ما سوف يحدث في غزة هو قرار إسرائيلي بحت، نحن لا نخطط معهم".
يحاولون عبثاً نفي تهمة تورطهم في غزة رغم كل الشواهد تدل على إدارة المعركة من البنتاغون، ووصف المهمة الاستشارية للقادة العسكريين الأمريكيين في إسرائيل بأنها "تبادل عسكري محترف"، لكنه لم يكن تبادلاً عسكرياً محترفاً بقدر أنه كان تبادلاً عسكرياً مغروراً ومتعجرفاً، وكان لا بد من تأديبه مرة أخرى!
وأعلن الجيش الإسرائيلي أن خبراء أمريكيين لهم تجربة في حرب العراق وصلوا إلى إسرائيل لنقل خبراتهم، قبل هجوم بري وشيك على قطاع غزة، ولا تؤيد الولايات المتحدة وقف إطلاق النار في غزة؛ بل دعت على لسان المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي، إلى الاستعاضة عنها بـ"الهدنة الإنسانية المؤقتة" لإتاحة إيصال المساعدات الإنسانية الإغاثية والطبية.
وفي الحقيقة ليست هناك مساعدات طبية ولا إنسانية بقدر محاولة التخلص من العائق البشري بكل خسة ووضاعة وصمت ضمير العالم وارتفاع أعداد الضحايا والشهداء!
يبدو أن إسرائيل تنفذ كل النصائح العسكرية الأمريكية في حربها البرية على غزة، ففي العام 1969، تم سحب كل الطائرات التي عملت على قصف فيتنام الشمالية طوال الحرب وإحضارها للجنوب لقصف (كوتشي)، وانصب لهب طائرات B-52 على المنطقة وأحرقتها بالكامل، حيث كانت القذائف تخترق الأرض لعمق 20 متراً على الرغم من أن بعض الأنفاق لم يتجاوز عمقها الخمسة أمتار، وبعض الأنفاق تعرضت للخراب وبعضها الآخر دُمّر بشكل كامل.
طوال فترة الحرب، كانت الأنفاق داخل وحول (كوتشي) مصدراً للإحباط بالنسبة للجيش الأمريكي في سايغون، وكانت قوات الفييتكونغ متمكّنة جدّاً من المنطقة بحلول عام 1965، ساعدهم على ذلك كونهم أصحاب الأرض وهم أدرى بها، فجعلهم هذا أصحاب القرار المتعلق بتحديد زمان ومكان المعركة القادمة.
كانت "حرب الأنفاق" نقطة تحول مهمة في تاريخ فيتنام، وقد ساعدت بشكل أساسي على حفظ وحدة فيتنام الشماليّة الداخليّة أكثر، مع السماح لهم بـ"القتال ليوم إضافي"، فساعدت على إطالة أمد الحرب وزيادة التكاليف والخسائر الأميركية حتى انسحابها في نهاية المطاف في عام 1972، والانتصار النهائي لجمهورية فيتنام في عام 1975، حيث جرّت أمريكا أذيال خيبتها بينما كان يحتفل الـ6000 فيتنامي الذين نجوا من تدمير الأنفاق من أصل 16000 مُقاتل كانوا هُناك.
وإذا استعرضنا ما أحدثه الجيش الأمريكي في الفلوجة يتبين لنا أن الخطة واحدة والإجرام واحد والإبادة متفق عليها.
وقد أكد مراسل لصحيفة "التايمز" البريطانية أن معركة الفلوجة خلال الغزو الأمريكي على العراق تعتبر أكبر المعارك الأمريكية الوحشية منذ حرب فيتنام وروى المراسل تجربته كصحفي مرافق مع القوات الأمريكية عام 2004 أثناء المعركة، وهي المعركة التي جرح فيها، وقال إن القوات الأمريكية قامت باجتياح المدينة وتدمير معظم مبانيها وتهجير سكانها، ويتذكر الصحفي ما جرى في الأيام الأولى منها، فقد كانت الفلوجة من أكثر كوابيس حرب المدن للجيش الأمريكي المحتل وكانت من أكثر المعارك التى خاضتها القوات الغازية كثافة منذ حرب فيتنام، وقال في تقرير نشره بالصحيفة إن المدينة التي كانت معقل المقاومة العراقية كانت تمثل للجنود كابوس حرب مدن.
فقد كان على الجيش الأمريكي والجيش الحكومي الرديء التدريب لخوض معارك شوارع وحتى من بيت لبيت من أجل البحث عن المقاتلين الذين تبقوا بعد رحيل القادة من أجل زرع المقاومة في أماكن أخرى. ويقول التقرير إن عملية تفتيش البيوت كانت الأكثر خطورة، خاصة أنها كانت تتم في الظلام بعد أن تم تدمير كل خطوط الكهرباء في المدينة، كما أن الجيش كان يخشى من عملية تفخيخ المنازل، وأن المقاتلين قاموا بوضع عبوات من غاز السيانيد الذي يؤدي للاختناق.
ويقول المراسل إن المعركة كانت مثيرة للدهشة؛ لأن الجيش لم يكن قادراً على تحديد مركز إطلاق النار، ويضيف أنه في صباح اليوم الذي بدأت فيه كتيبة الفرسان المدرعة بالتقدم نحو حي الجولان دخلوا مدرسة استخدمها المقاتلون مركز عمليات، لكنهم تركوها مع تقدم القوات الأمريكية، وكانت القنابل وأصوات الصواريخ في كل مكان وكل أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة.. وكل هذا كان يأتي من جانب المقاومة.
أما من جانب الأمريكيين فقد كانت هناك مروحيات كوبرا تطلق قنابلها على المناطق التي يتحصن فيها المقاتلون فيما كانت المدرعات والمصفحات والمدافع تقوم بهجماتها، وطائرات إف- 16 ترمي القنابل، وفي هذا اليوم الأول يقول هيدر إن شظية أصابت ذراعه ولم يعرف حتى اليوم ما هو سببها إن كانت قذيفة آر بي جي إم غير ذلك.
نفس الطيران الحربي الإسرائيلي الأمريكي هو من يدمر غزة على ساكنيها، متعمداً إزالة أحياء بكاملها من خارطة العمران، ويقول المراسل إن الجنود كانوا يحاولون البقاء أحياء وهم يتقدمون في مدينة المساجد.
نفس معاناة الجنود الإسرائيليين في مواجهة المقاومة الشبح الذين يشعرون معها بالعجز والتقزم والانهزامية التامة ولا يدركون من أين يخرج المجاهدون من تحت الركام أو من الأنفاق ثم يجهزون عليهم ثم يعودون في هدوء وسكينة!
وبرغم كل ما حدث للجيش الأمريكي في الفلوجة غير أنهم توحلوا في غزة بنفس القدر الذي تورطوا في الفلوجة، وتظل معركة الفلوجة التي دمر الجيش الأمريكي المحتل أحياء فيها، وتم فرض حصار عليها من أكثر المعارك غموضاً بين الأمريكيين والمقاومة التي خرجت من الفلوجة. وتم فرض حصار ونظام تفتيش على المدينة، فيما لا يزال الكثير من سكانها في عداد المهجرين داخل وطنهم.
بينما أعداد النازحين في الداخل الفلسطيني في غزة تقترب من مليونَي مواطن باحثين عن مكان آمن، ولكنهم لا يجدون لأنهم مستهدفون!
وبدأت معركة الفلوجة عندما تم قتل أربعة من الضباط الأمريكيين، وقدر الأمريكيون في حينه أن نصف منازل المدينة (39 ألفاً) تم تدميرها بشكل كامل، واستخدم الأمريكيون في العملية الفسفور الأبيض؛ حيث نفوا استخدامه في البداية ثم عادوا واعترفوا بأنهم استخدموه كسلاح للدفاع.
إن حجم الدمار في غزة وما تم تجريبه من أسلحة في غزة لم يسبق له مثيل في أي حرب عالمية سابقة، ولم يتبقّ من توصيف لحالة الحرب إلا أنها حرب عالمية ثالثة غير الإعلان الرسمي لها.
ومع استمرار المعارك، قال سام مورتيمر، وهو رقيب في قوات المارينز الأمريكية، لمراسل أخبار القناة 4: "إنهم لا يعرفون ما سيأتي – إن ما سيأتي هو الجحيم. وإذا كان هناك مدنيون داخل المدينة فهم في المكان الخطأ، في الوقت الخطأ".
إن تكرار سيناريو الفلوجة في غزة يبدو أنه جعل أمريكا تعتقد أنها سوف تحقق نصراً عسكرياً يرمم الوجه القبيح لأمريكا وأوروبا وإسرائيل في غزة؛ لكن جحيم غزة يبدو أنه أكثر ضراوة من جحيم الفلوجة. رغم تشابه المجازر الإنسانية في الحالتين، ويذكرنا هذا بصورة مرعبة باللغة التي استخدمت في تدمير فيتنام، حيث قتل ما بين مليونين إلى ثلاثة ملايين فيتنامي.
إن التضليل في أعداد الضحايا يأتي من صحيفة لطالما دأبت على الترويج من دون توقف للمزاعم التي شاعت قبل الحرب، وفبركت في "الأضابير المراوغة" للحكومة، بحكاياتها المخترعة عن أسلحة الدمار الشامل العراقية التي يمكن إطلاقها على جبل طارق في غضون 45 دقيقة، وأنها مزودة باليورانيوم الذي تم الحصول عليه من النيجر وعن صلات صدام حسين بالقاعدة.
نفس الرواية الإسرائيلية الكاذبة، ومحاولة شيطنة المقاومة الإسلامية حماس؛ لتشكيل تحالف دولي رسمي للتغطية على المجازر ضد الإنسانية وشرعنتها؛ لكنها لم تفلح في ذلك، وخسرت الحرب الإعلامية.
إن المجازر التي ارتكبها الجيش الأمريكي واللامبالاة السياسية والإعلامية بعمليات الذبح الجماعي التي ترتكب في بلدان العالم الثالث تصدم المرء دائماً. ومرّة أخرى، فإن الوضع الحالي يرجّع أصداء فيتنام.
وفي الفلوجة أورد د. سامي الجميلي، وهو طبيب في المستشفى الرئيسي في البلدة، في تقريره ما يلي: "لا يوجد في الفلوجة جرّاح واحد، وهناك العشرات من المصابين المدنيين يرقدون في منازلهم ولا نستطيع الوصول إليهم أو نقلهم، لقد مات للتو بين يديّ طفل في الثالثة عشرة من عمره".
وفي غزة يتم تكذيب كل الأرقام التي تصدر عن وزارة الصحة في غزة، والتشكيك في أعداد الضحايا والشهداء؛ للتخفيف من حدة الضغط الإعلامي والشعبي، وعدم معارضة حرب الإبادة الجماعية، واستهداف القطاع الطبي بالتدمير الكامل لإعاقته عن أداء مهمته الإنسانية، باتفاق إقليمي دولي وأممي!
وكما في فيتنام، فلن يتوقف الذبح إلا عندما ينهض أصحاب الضمائر الحية ومَن في قلوبهم رأفة ورحمة في بريطانيا وأمريكا، وينتزعون البراثن التي أنشبتها في العراق حكوماتهم النهمة للدولارات.
تُرى هل ينتظر العالم إلى حين صحوة أصحاب الضمائر الحية ومن في قلوبهم رأفة ورحمة في بريطانيا وأمريكا؟! هل سيأتي توقف تلك الحرب ممن يديرها؟
أم ستجبره الخسارة العسكرية في الميدان وفقدان أعز ما يملكون من ضباط النخبة والجنود على التوقف عن ذلك المسار المدمر؟
ومن تتابع الحكايات المثبتة في التاريخ والواردة من فيتنام والفلوجة، يتضح أن أصحاب الأرض هم المنتصرون في النهاية، مهما بالغ المحتل في أعمال إبادة ومجازر وجرائم حرب؛ سينتهون لنفس المصير وخزي النهاية!
لعل الغباء السياسي والعسكري يقودهم إلى حافة الانهيار والاستسلام في النهاية!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.