تداولت الشعوب قديماً مجموعة من الحكايات؛ منها ما هو حقيقي وواقعي ومنها المزيف والمتخيل، وغالباً ما يشار إلى هذه المرويات بكلمة "أسطورة" ويسميها البعض "خرافة"، غير واعٍ بالاختلاف بين المفهومين، فالأسطورة خليط بين الحقيقة والخيال، بينما الخرافة خيال محض.
ورغم أن العلم الحديث قد استطاع إلى حد كبير، القضاء على الخرافة، فإن الإنسان ما زال يؤمن ببعضها، ومن أشهر الخرافات التي تنتشر في عصرنا الحاضر، ويصدقها بعض الناس، خرافة "عدالة الغرب".
في حوار يجريه سقراط وينقله لنا أفلاطون في جمهوريته، يسأل سقراط عن العدالة، فيقول بوليمارخوس أحد محاوريه: "العدالة مساعدة الأصدقاء والإضرار بالأعداء". فيعلق سقراط قائلاً: "بدلاً من أن نكتفي بالقول إن العدل إسداء الخير لأصدقائنا وإلحاق الشر بأعدائنا، يجدر بنا أن نضيف إلى ذلك أن من العدل إسداء الخير لأصدقائنا إن كانوا أخياراً وإلحاق الأذى بأعدائنا إن كانوا أشراراً"، فما معنى قولة سقراط؟
إذا تمعنّا في تعليق سقراط، فسنجد أن الحكيم يقصد أن العدالة تعني أن نقيس الأمور كل الأمور وحتى الأشخاص بميزان العدل، لا بميزان الهوى والعاطفة؛ لكون الميزان لا يحمل الضغائن ولا يعرف المحاباة ولا يجيد التملق، فالكل في نظره أوزان فالسكر كالقمح والرجل كالمرأة والقاضي كالمتهم، لا فرق بينهما.
هكذا يجب أن نكون نحن، وحين نوضع في موقف يحتاج الفصل والحكم توجَّب علينا حينذاك أن نستخدم العقل والمنطق لا العاطفة والأحاسيس، فوحده العقل من يضفي الشرعية على أحكامنا وقراراتنا.
إن سقراط يقصد أن الحق حق والباطل باطل، وأن محاربة الأعداء واجبة إن كانوا فعلاً أعداء ومساعدة الأصدقاء لا مناص منها، إن كانوا فعلاً أصدقاء، فقد يحدث أن نقاتل عدواً في جوهره ليس بعدو، وأن نمد يد العون لصديق ظالم، وبهذا نكون قد أسأنا لأنفسنا وللعدالة، وتنعكس أحكامنا على مجتمعنا وتمس العالم من حولنا.
يحضرني هنا قصة حدثت مع سيدنا عمر بن خطاب: "ذُكِرَ أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ- رضي الله عنه- قال لرجلٍ (وهو أبو مريمَ السلوليُّ): واللهِ لا أحبُّكَ حتى تحبَّ الأرضُ الدمَ، قالَ: أفتمْنعُني حقّاً؟ قال: لا، قال: فلا بأسَ؛ إنما يأسفُ على الحبِّ النساءُ".
صدق الرجل ورضي الله عنه سيدنا عمر حين أقره بذلك، فالتشبيه هنا بالمرأة لا يعني انتقاصاً منها، إنما ذكر ما فيها من رقة المشاعر ورهافة الإحساس، وتقديم للقلب على العقل غالباً، فتراها تغضب فتلعن وتزمجر وقد تفارق الحبيب وتظلم القريب دون أن تعقل وإرضاءً للنفس ولو على الحق، ولهذا تقول العرب: "التسرع حيض الرجال"، وكيف يأتي التسرع إن لم تكن العاطفة وهو سيان.
قدَّم سقراط معنى واضحاً للعدالة، العدالة هي "الخيار للأخيار والشر للأشرار". لكن ألا يجب أن نعترض على هذا؟! ألا يجب أن نقول إن العدالة تعني أن نطبق العدل على الجميع وألا نعامل الأشرار بالمثل وأن نحاول إسداء الخير لهم عوض الشر؛ ونقترب منهم عوض محاربتهم. قد يبدو هذا الرأي مثالياً للغاية؛ لكون العلاقة التي تجمعنا مع أعدائنا لن تكون يوماً علاقة إنسانية، بل علاقة نزاع وحرب لا صوت يعلو فيها على صوت السيف. لكن هل نحن متأكدون من مدى نجاعة هذه السياسة؟ هل نحن جادون في محاربة الأعداء وكراهيتهم؟ ما الذي جنته البشرية من الكراهية والمعاملة بالمثل؟
إن المتأمل في حالنا ليصل إلى ما أرنو إليه "لن نبني العدالة بالكراهية بل بالحب". عالم مبني على الكراهية والحقد لن تسوده العدالة ولو بقينا مليون سنة نحارب بعضنا البعض فلا أحد سينتصر. قد يبدو الأمر غربياً نوعاً "ما تفعل مع الشر إن لم تحاربه؟"، هكذا سيقول القائل. ليس لدي إجابة واضحة، لكني وبناءً على تصوراتي وقراءتي للواقع أرى أن محاربة الشر لا تزيده إلا قوة وأن الحديث عن القضاء على الشر لا يزيد عالمنا إلا شراً، ويكفي أن نشير إلى أن محاولة القضاء على النظام "البعثي الشرير" -حسب التصور الأمريكي- في العراق، كلفنا مليوني قتيل وآلاف الجرحى ومئات المفقودين، وجعلنا نتعايش مع أفظع سجون العالم "سجن أبو غريب" ونشاهد الصور لسجناء تنهشهم الكلاب، وآخرين مجردي الملابس يعبث بهم جندي سادي.
حدث كل هذا باسم "الحرب العادلة"، ومع ذلك لم تقض "أمريكا الخير" كما تسمي نفسها على الشر، بل زادته قوة وبسطة في الجهد والعلم، فخرجت لنا تنظيم "د-اع-ش" من رماد الدمار كأنه طائر العنقاء الأسطوري.
يجرنا الحديث عن العدالة وعن تطبيقها، إلى موضوع جد حساس، موضوع الساعة ألا وهو "الحلم الأوروبي"، ألا ترى أن كل سكان العالم العربي يسعون جاهدين إلى الهجرة نحو بلاد العدل، متذكرين حسب رأيهم حادثة هجرة الصحابة نحو الحبشة، يركبون قوارب الموت ولسان حالهم "فلنذهب لأوروبا فإن فيها رؤساء لا يظلم عندهم أحد". فهل هم كذلك؟
منذ بضعة أيام اعترفت مملكة هولندا بقتل قواتها نحو "74 مدنياً عراقياً" في غارات لطيرانها، معللةً ذلك بمعلومات خاطئة؛ وقبل ذلك بكثيرٍ القوات الكاميرونية توقف مروحية محملة بأسلحة فرنسية كانت موجهة للتنظيم الإرهابي "بوكو حرام"؛ وقبل هذا وذاك تسبب البنك الدولي والدول المانحة للقروض في إغراق الصومال بالديون وإدخالها في دوامة من الحروب والصراعات.
يصرح ترامب منذ مدة قصيرة، بأنه يدعم حكام الدول التي يتظاهر فيها الشعب، قال إنه يقف في صف الحكومات لا الشعب، أي إنه يدعم عمليات القتل التي تحدث في العراق، ويشجع ما تقوم به السلطة المصرية من خطف وقتل وسحل للمعارضين وتشتيت للأسر وتهجير قسري للسكان، ويقف مع نبيه بري وميشال عون وحركة أمل وكل من هو ضد الشعب اللبناني الأبي الذي ملَّ الكذب والوعود الزائفة والطائفية المقيتة.
فهل يعقل أن نتحدث عن غرب عادل؟ لا أبداً، الغرب ليس عادلاً.
وهل الشر هو ما تراه أمريكا شراً؟ نعم، في عالم السياسة من يمتلك القوة يمتلك الحقيقة، وكمثال على ذلك يُقدَّم الأوكران كمدافعين عن السلم العالمي، ويتلقون الدعم من دول الغرب، ويسمح للأوربيين بالتطوع في الجيش الأوكراني، بينما ينظر إلى الفلسطينيين كمخربين وإرهابيين، ويضيق على تسليحهم، ويمنع تقديم المساعدة لـ"حماس" وغيرها من القوى المناضلة، ويعتبر كل من يدعمهم إر.هابياً!
ينظر الجميع إلى بوتين كمجرم حرب وإلى روسيا كدولة مارقة، لكن الغرب اعتبر غزو العراق عملاً حضارياً، ووصف بوش بالبطل ونال الجيش الأمريكي الإطراء على أعماله في العراق، مع أن فضيحة سجن أبو غريب وحدها تكفي لرمي بوش في السجن لمليون سنة، وتم تأييد أعمال الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان، مع أن جنودها ارتكبوا أفظع الجرائم!
لا يجب أن نطلق على الدول الغربية لفظ "الدول العادلة"، فهذا منافٍ وغير منطقي ولا يصح بتاتاً. فهي دول ديمقراطية ورائعة متقدمة، لكنها ليست عادلة أبداً، فإنَّ عدلها ليس عدلاً لذاته، بل عدلٌ فرضته الأحداث التاريخية.
إن ما يحدث في كتالونيا وحدث في فرنسا اليوم، لخير دليل على هذا، إنّ عدل الدول الأوروبية ناجم عن معرفتها بقوة شعوبها؛ بحبهم للحرية؛ ومدى استعدادهم لإحراق بلدانهم طلباً لها، ولهذا نرى رؤساء هذه الدول يتعاملون بحذر شديد مع الملفات الاجتماعية التي من شأنها رفع نبضات الشارع.
لكنها تعامل العالم الثالث كما لو كان خادماً عند أعتابها وترى في شعوبها بهائم تساق لا أناس تفكر وتقرر، تعامل مواطني العالم الثالث بكل وحشية وقذارة، ضداً في العدالة التي تتغنى بها، ويتشدق بها أناس من بني جلدتنا وينكرها من ولد في هذه الدول أمثال "جون بول سارتر" الذي وقف في وجه فرنسا وكتب عن جرائمها في الجزائر، وكالأمريكي "نعوم تشوموسكي" الذي كرس قلمه لفضح ألاعيب الولايات المتحدة الأمريكية.
إن التاريخ لشاهد على هذا وما أنا بكاذب.
لقد كانت الدول الأوربية وما زالت حجر عثرة أمام تحرر بلدان العالم الثالث، فمن يحمي المستبدين؟ ألم تجتمع ميركل بالسيسي؟ من ينهب ثروات إفريقيا؟ ألم يسمع العالم للوزير اﻹيطالي الذي تحدث عن سرقة فرنسا لثروات إفريقيا؟ من يقصف المدنيين العزل؟ ألم نسمع صوت مدفعية الهاون وهي تقصف منازل اليمنيين والسوريين؟ من تدخل من أجل إجهاض الثورة السورية والمصرية والتونسية؟ ومن حرم الأفارقة من عسل قارتهم؟ من يدعم الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين العزل؟
بعض الأشخاص يعتبرون دولة مثل فرنسا نموذجاً حضارياً وإنسانياً، مع سجلها الفظيع في إفريقيا والذي لم يجف حبره بعد، بل ما زال التدوين قائماً في مالي ودول أخرى.
يقول أحدهم: "فرنسا آوتكم واستقبلتكم بعدما فررتم من بلدانكم!".
مثل هذا كمثل الخرفان تحب الراعي، لأنه يطعمها ويحميها، مع أن الراعي لا يفعل ذلك إلا لذبحها أو بيعها، فكل إنسان غير عقلاني في طرحه أقرب إلى البهيمية منه للإنسانية، بل منهم من تجاوز البهيمية في بهيميتها، ولهذا قال الله تعالى في كتابه العزيز: "أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إنهم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً"
لا يدرك هذا الشخص أن فرنسا ودول الغرب هي المتسبب الأول في كل مصائب إفريقيا والأمر لا يحتاج من الإنسان ذكاءً خارقاً ولا اطلاعاً معمقاً، فيكفي أن تمتلك عقلا وشخصية غير منبطحة لتدرك الحقيقة.
وختاماً، إن كان الغرب عادلاً مع مواطنيه فلا يعني أبداً أنه عادل، فالعدالة أبعد ما تكون عن السياسة الغربية، فهي والغرب خصمان لا يتفاهمان بينهما خلاف تاريخي وعقد يصعب حله حتى من أبرع علماء النفس، فالغربي سيظل مؤمناً بتفوقه على سائر الأمم، وهذا ما يعمي بصيرته ويضبب عليه الرؤية، فإذا اكتال على الناس يستوفي وإذا كالهم أو وازنهم يستسخر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.