بصيرة مكيافيللي
المرتزقة ليس فقط مصطلحاً معاصراً. إذ يُمارَس عمل الارتزاق، الذي يُوصَف بأنَّه "ثاني أقدم" مهنة في العالم، منذ العصور القديمة. فمن المعلوم أنَّ المصريين استخدموا المرتزقة في أولى المعارك المُسجَّلة، معركة مجدو (1469 قبل الميلاد). وعلى الرغم من أنَّ استخدام المرتزقة كان واسع النطاق طوال التاريخ، يمكن أن نرى معارضة لهم في العديد من الفترات التاريخية.
أشهر تلك المعارضات هي تعليقات مكيافيللي السلبية عن المرتزقة في كتابه "الأمير". يقول مكيافيللي إنَّ المرتزقة منافقون وجشعون في الحصول على المال وخونة، وإنَّ الحاكم لا يجب أبداً أن يستخدم المرتزقة.
هل تعري هذه الكلمات التي تعود إلى قرون، الوضع الذي تشهده روسيا هذه الأيام؟ كيف يكون المرتزقة خطرين لهذه الدرجة؟
الفائدة الحقيقية للمرتزقة
يمكن تعريف المرتزقة بأنَّهم "عناصر أجنبية تشارك في صراع بدافع المال"، وتنظر بعض الدول والقادة والمسؤولين إليهم باعتبارهم مفيدين للغاية واعتمدوا عليهم طوال التاريخ، في حين ينظر إليهم آخرون باعتبارهم عنصراً ضاراً للغاية ويرون ضرورة حظر استخدامهم. يُوفِّر المرتزقة بشكل أساسي عنصر "تجنُّب الضحايا" للطرف الذي يشاركون إلى جانبه في الحرب، ما يعني أنَّهم يحدون من عدد الضحايا ويُخفِّفون العبء المالي للحرب. وهذه فوائد ملموسة لاستخدام الارتزاق. ويتمثَّل الجانب الخفي للمرتزقة في أنَّه يمكنهم مساعدة الحاكم في الإحجام عن مشاطرة السيادة التي يتمتع بها. فالحاكم الذي يعتمد على جيش المواطنين يمنح الجمهور أيضاً كلمة وتأثيراً كبيرين على قراراته. أمَّا الحاكم الذي يستخدم المرتزقة، فسيكون اهتمام الجمهور لديه في ما يتعلَّق بقرار خوض الحرب أقل بكثير، ومن ثم يكون تأثيرهم أقل بكثير. وبإمكاني أن أضرب لكم مثالاً شبيهاً. فإذا ما نظرنا إلى الغزو الأمريكي لفيتنام، الذي شنَّته الولايات المتحدة بقواتها، وغزو أفغانستان، الذي كانت 70% من القوات التي شاركت فيه مؤلفة من المرتزقة، يصبح ما أقوله ملموساً أكثر. ففي فيتنام، اتخذت العديد من المجموعات السياسية أو المدنية والأفراد، بل حتى الجنود، موقفاً ضد مسار الحرب، وهو ما وضع الولايات المتحدة في بعض الأحيان في موقف بالغ الصعوبة. تضيف هذه المواقف كثيراً من التروس الإضافية إلى آلية صنع القرار. لكن في أفغانستان، حيث كانت معظم القوات من المرتزقة، كان هذا نادراً للغاية. بالتالي، كانت الحكومة قادرة على المناورة بصورة أكثر حرية بكثير في عملية صنع القرار خلال الحرب.
خصخصة الحرب في العصور الحديثة
يمكننا القول إنَّ الشركات العسكرية الخاصة ظهرت في العصر الحديث عقب الحرب العالمية الثانية، خصوصاً في إفريقيا، وبالأساس في مرحلة بدأت فيها مسألة ظروف شن الحرب تصبح ضبابية على الساحة الدولية. يتوافق هذا مع فترة ما بعد الحرب الباردة، حين بدأت مناقشة مفاهيم مثل التدخل الإنساني بصورة أكثر انفتاحاً. وفيما أصبحت مسألة لماذا تُشنُّ الحرب، وليس مَن الذي يشن الحرب، أكثر أهمية، صار استخدام الشركات العسكرية الخاصة أكثر انتشاراً. هذا لأنَّ فاعلين آخرين بخلاف الدولة بدأوا في اكتساب أهمية، وكانت الدولة قبل ذلك مُحتكِرة لاستخدام العنف، وكانت هي الطرف الذي يشن الحروب في الفهم التقليدي. وخير مثال على هذا الوضع هو اقتراح الممثلة "ميا فارو" التدخل في الحرب من خلال التعاقد مع شركة Blackwater العسكرية الخاصة التي يقع مقرها في الولايات المتحدة من أجل إنهاء العنف في دارفور، بل أقدمت حتى على التعبير عن هذا الرأي على الساحة الدولية. ومع أنَّ الأمم المتحدة رفضت مقترح الممثلة الشهيرة، فإنَّه يمنحنا نظرة على مستقبل خصخصة الحرب: احتكار الدول لشن الحرب أصبح مسألةً ضبابية. وبناءً على ذلك، تواجه الدول أيضاً المشكلة المحتملة المتمثِّلة في شن الحرب باستخدام المرتزقة. ونرى اليوم هذا الاحتمال يتحقق.
ماذا تعني خطوة فاغنر؟
تختلف علاقة روسيا مع شركة فاغنر العسكرية الروسية الخاصة عن أي علاقة أخرى بين "دولة وشركة عسكرية خاصة". إذ تعمل روسيا مع فاغنر في مناطق عديدة، وتمثل فاغنر أيضاً الموقف السياسي الروسي في ساحة المعركة. وبهذا المعنى، ليس من الدقيق كثيراً أن نضع فاغنر في وضعية أي شركة عسكرية خاصة، لأنَّه كما ذكرتُ سلفاً، أكثر سمات المرتزقة قبولاً هي أنَّهم يقاتلون بدافع المال. وعكس هذا الوضع، من الممكن أن نرى في فاغنر ارتباطاً أيديولوجياً وسياسياً بالسلطة الروسية. ولذلك، وعلى الرغم من كون فاغنر تتقاضى أجراً مقابل القتال، سيكون من الدقيق أكثر أن نُقيِّمها بأسلوبها الفريد الخاص.
أعلن قائد فاغنر، بريغوجين، قبل أيام، الحرب على وزارة الدفاع الروسية ورئيس الأركان العامة، قائلاً إنَّه يتم تجاهل أرواح الجنود، وإنَّه لا توجد عدالة في الجيش، وإنَّ الجمهور تعرَّض للخداع خلال الحرب الأوكرانية، وقام بما وُصِفَ في روسيا بأنَّه محاولة انقلاب. سيطر بريغوجين على المقرات في المناطق التي يوجد بها ويقول إنَّه يهدف إلى الزحف نحو موسكو، لكن من المستحيل أن يسيطر على موسكو بقوة عسكرية لا تتجاوز 30 ألفاً. غير أنَّ هنالك نقطة أخرى مهمة هنا. فإذا ما نظرنا إلى خطاب بريغوجين، من الممكن القول إنَّ لديه موقفاً قومياً. فهو قلق بشأن سلامة الجيش، وهو ضد خداع الجمهور، وهو يفاقم الوضع القائم بالفعل في روسيا بقوله إنَّ الآلاف من الجنود ماتوا في مجريات الحرب الأوكرانية بسبب عدم كفاءة وسوء نوايا وزير الدفاع. ويمكن التفكير في أنَّ بريغوجين، من خلال هذا التحريض، يحاول بدء حركة "صحوة" وليس حملة عسكرية.
يُعَد مسار الحرب في أوكرانيا، والذي كان مثار تشكيك أيضاً من جانب المجتمع منذ بعض الوقت، أحد أكثر القضايا إثارة للقلق على أجندة البلاد. فالحرب لا تمضي وفق ما خطَّطت روسيا في أي جانب من الجوانب. فمن ناحية، توجد روسيا في سوريا، ومن ناحية أخرى، تواجه بوضوحٍ صعوبات في إدارة العملية بأوكرانيا. وفي إطار عمل يقابل بين ما يمكن عمله وما يتم عمله فعلاً، قد يُشكِّل ذلك تحدياً استراتيجياً –أو حتى خطأً- بالنسبة لروسيا. ومن ناحية أخرى، تشن روسيا حرباً "هجينة" بجيشها النظامي والمجموعات المرتزقة الأخرى، ومثلما ذكرتُ سلفاً، يكون للرأي العام تأثير كبير في عمليات صنع القرار. إذ يتسبَّب الضحايا الذين يسقطون في الحرب، التي يُمثِّل جيش المواطنين فيها محور العمل، في رد فعل جدي بالمجتمع. وهنا يكون تحرك بريغوجين منطقياً. لأنَّه على الرغم من وضوح فكرة أنَّ بريغوجين لن ينجح عسكرياً، فإنَّ هنالك إمكانية لحصوله على دعم اجتماعي، وبريغوجين يراهن على ذلك. وفي حال وجد بريغوجين هذا الدعم، حينها فقط يمكن أن نتحدث عن وجود "محاولة انقلابية" وتهديد حقيقي لروسيا. وما لم يحدث ذلك، فإنَّ الأمر ليس إلا تمرداً بسيطاً بانتظار أن يتم قمعه.
نقطة فاصلة في خصخصة الحرب
على الرغم من كون فاغنر شركة عسكرية خاصة غير تقليدية، فإنَّ هذه هي المرة الاولى في العصر الحديث التي تتخذ فيها شركة عسكرية خاصة موقفاً سياسياً. إضافة إلى ذلك، تعلن فاغنر بصورةٍ ما، من خلال تصريحها بأنَّها تهدف إلى السيطرة على موسكو، أنَّها تتطلَّع إلى الحكم. وهذه نقطة فاصلة في التاريخ العسكري الحديث. فبسبب سياق الانتماءات المُتغيِّرة للمرتزقة، واضطلاعهم بدور في الحكومة، نشهد خيانتهم لاتفاقاتهم –وهو ما حدث مراراً في العصور الوسطى- مجدداً وهي تحدث للمرة الأولى في العصر الحديث، ويُظهِر لنا هذا الوضع كم يمكن أن تكون العقود مع الشركات العسكرية الخاصة خطيرة. مع ذلك، هناك حاجة لتأكيد نقطة مهمة هنا. إذ كان رد فعل مكيافيللي تجاه المرتزقة، والذي ذكرتُه في بداية مقالي، خاصاً بإيطاليا. وكان السبب الأساسي لذلك هو أنَّ "كوندوتييرو"، أو المرتزقة في إيطاليا، أصبحوا طرفاً "محتكراً" للحروب في الدولة الإيطالية. وصار المرتزقة تهديداً بعدما أدركوا السلطة التي مُنِحَت لهم، وبالتالي أثاروا رد فعل مكيافيللياً. واليوم، تُعَد علاقة روسيا مع فاغنر شبيهة للغاية. ومع أنَّ فاغنر لم تكن القوة المُحتكِرة لتمثيل روسيا في ساحة المعركة، كانت روسيا مُعتمِدة على فاغنر في كثير من المناطق. وفي واقع الأمر، يُعَد تصريح بوتين بأنَّه سيتم العفو عن أفراد فاغنر بمجرد استسلامهم وعدم اتخاذ إجراءات قانونية بحقهم، مؤشراً على هذا الاعتماد. من ثَمَّ، يمكننا القول إنَّ اعتماد روسيا على فاغنر هو السبب الذي جعل فاغنر تتحول إلى تهديد. ومع أنَّني أعتقد أنّ بوتين سيتمكَّن من تجاوز هذه المشكلة، فإنَّ هذا الموقف سيهز على نحوٍ خطيرٍ الثقة بالشركات العسكرية الخاصة. وستبقى الشركات العسكرية والأمنية الخاصة موجودة في مسرح الحروب، لكن سيجري الحد من مكانتها بحرص وبدرجة أكبر بكثير.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.