سأحاول جاهداً في هذا المقال أن أتجرد من جزائريتي مؤقتاً، قدر ما أستطيع، لأتناول موضوع السجال السياسي والتراشق الإعلامي والجماهيري في مختلف المنابر السياسية ووسائط التواصل الاجتماعي بين الجارتين؛ الجزائر والمغرب.
فلقد تصاعد التراشق في الفترة الماضية بشكل كبير، وسط أصوات قليلة خافتة، تحمل نوايا طيبة، تدعو إلى تجاوز الخلافات وتطبيع العلاقات بين المغرب والجزائر، وعودة العلاقات بين الشعبين.
تتعامل تلك الأصوات مع المسألة الجزائرية- المغربية ببعض التهاون، وكأن الأمر برمته قد ينتهي بجرة قلم من الجزائر أو الرباط، وكأن الخلاف قابل للحل بمجرد صدور قرار سياسي يتخذه المغرب أو الجزائر دون طرح وحل الملفات العالقة منذ عشرات السنين.
على رأس تلك الملفات، ملف "الصحراء الغربية" وضبط الحدود وتهريب وتجارة المخدرات، وهي قضايا تراكمت وتعقدت من وجهة نظر الطرفين على حد سواء، وبلغت درجة من الانسداد يصعب فك رموزه على الأقل في الوقت الحالي.
لكن، ورغم كل ذلك، ليس مقبولاً بأي حال من الأحوال، أن يبلغ "التراشق" المتبادل درجة تمس الكرامة والشرف قبل السيادة، يصعب أثرها تجاوز التداعيات مهما كانت النوايا.
قراءة في تطبيع العلاقات بين المغرب والجزائر
من جانبها، تقول الجزائر إنها أغلقت الحدود والأجواء وقطعت العلاقات مع المغرب، بسبب ما اعتبرته رد فعل على تصرفات معادية من جانب الرباط.
ما زاد الأمر تعقيداً هو تطبيع العلاقات المغربية- الإسرائيلية، وإقامة علاقات عسكرية وأمنية بين الرباط وتل أبيب ترى فيها الجزائر تهديداً لأمنها.
في حين يعتبر الجانب المغربي أن موقف الجزائر من قضية "الصحراء الغربية" والذي لم يتغير منذ سبعينيات القرن الماضي هو سبب تدهور العلاقات بين البلدين.
ومع ذلك، لا يتردد المغرب في الدعوة إلى فتح الحدود والأجواء في كل مناسبة، فهو المتضرر الأكبر منذ إغلاقها قبل حوالي ثلاثة عقود. حتى إن ملك المغرب يدعو في معظم خرجاته الإعلامية إلى فتح الحدود، وكأن مسألة الحدود هي أم المشاكل. علماً أن سببها يعود إلى اتهام المغرب للجزائر بتنفيذ "تفجيرات مراكش 1994" اتضح بعد التحقيقات المغربية أنها ليست من تنفيذ أيادٍ جزائرية، بل مغربية.
بلغ التصعيد بين البلدين، السنة الماضية، درجة قطع الجزائر للعلاقات الدبلوماسية وغلق الأجواء مع المغرب تجنباً للحرب على حد تعبير الرئيس الجزائري، منذ طالب المندوب المغربي بالأمم المتحدة إلى استقلال ما سماه الجانب المغربي "شعب القبائل"، وطالبت الجزائر باعتذار رسمي لم يصدر عن السلطات المغربية.
وتأجج الوضع مع مطالبة بعض الشخصيات الوطنية والدينية المغربية، غير الرسمية، بضرورة استعادة ما يوصف في المغرب بالمناطق الشرقية التي ضمتها فرنسا الاستعمارية إلى الجزائر في تقدير أصحابها، وهو ما اعتبرته الأصوات الرسمية الجزائرية استفزازاً يطيل من عمر الأزمة؛ لأنه لا يوجد أصلاً شعب قبائلي يطالب بالاستقلال في الجزائر. وإن وجد، فهو ليس شعباً، بل قطاع جزائري يناضل من أجل التغيير السياسي وضمان التوزيع العادل للحقوق والثروات، وحاله في ذلك حال سكان الريف المغربي، وهو الشأن الذي لم يسبق للجزائر وإن تدخلت فيه بشكل أو بآخر.
أما المغرب من جهته، فيتهم الجزائر بتهديد وحدته الترابية من خلال دعمها السياسي والعسكري والمادي لجبهة البوليساريو التي تعتبر المدافع الوحيد عن حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره منذ سبعينيات القرن الماضي.
وبينما تعتبر الأمم المتحدة المسألة الصحراوية مسألة "تصفية استعمار"، تعتبر المغرب "الصحراء الغربية" أراضي مغربية، تسعى لمنح سكانها حكماً ذاتياً بعد أن كانت تطالب بإجراء استفتاء تقرير المصير، بينما تقول الجزائر إنها ليست طرفاً في القضية وليس لها أطماع توسعية، لكنها لم تخفِ يوماً تأييدها العلني لحق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، وكذلك مساندة ودعم جبهة البوليساريو، على غرار العديد من دول العالم.
التذمر المغربي مما يعتبره تهديداً جزائرياً للوحدة الترابية لم يمنعه أيضاً من المطالبة بإعادة تطبيع العلاقات بين المغرب والجزائر وفتح الحدود والأجواء، ولم يتبنّ مطالبات بعض الأصوات المغربية بضم الصحراء الشرقية الجزائرية لاحترامه وإقراره للحدود الموروثة عن الاستعمار، لكنه لم يمنع الشخصيات والمنظمات التي تنادي في كل فرصة بضرورة استرجاعها، ولم يمنع أطرافاً كثيرة محسوبة على النخبة من التهكم على الشعب الجزائري ورموزه ونظامه وجيشه، والتشكيك في تاريخ الجزائر. وهذا المسعى ليس حكراً على المغرب، بل لجأت إليه أطراف جزائرية محسوبة على النخبة، فتتهكم على نظام المخزن ورموزه وتذكر كل مرة بممارساته منذ عهد الاستعمار الفرنسي إلى بداية الاستقلال التي شهدت حرب الرمال سنة 1962.
رغم كل هذا الاحتقان، تتعالى بعض الأصوات العاقلة من هنا وهناك، تدعو إلى تطبيع العلاقات خاصة من الجانب المغربي الذي يتألم أكثر جراء عمليات غلق الحدود والأجواء وقطع العلاقات الدبلوماسية، لكن الأسئلة حول الماهية والكيفية، و(على حساب من؟) و(لصالح من؟)، تبقى مطروحة بلا أجوبة.
فهل سيشكل التطبيع نهاية لكل المشاكل، أم يجب إعادة فتح كل الملفات بنزاهة وحسن نية، بعد فتح القلوب والعقول والنفوس، بما في ذلك قضية "الصحراء الغربية" التي تعتبرها الجزائر مسألة تقرير مصير وتصفية استعمار يجب حلها عن طريق هيئة الأمم المتحدة باستشارة الشعب الصحراوي عن طريق ممثله جبهة البوليساريو، بينما إصرار الجانب المغربي على إقحام الطرف الجزائري في المفاوضات حول الوضع في "الصحراء الغربية" لن يحدث؛ لأنه يعتبر نفسه غير معنيّ بالقضية وليس له أطماع في الصحراء الغربية على حد تعبيره كل مرة.
بينما تعتبر المغرب الصحراء أراضي مغربية تسعى لإعطائها حكماً ذاتياً في إطار المملكة المغربية.
إذا صدقت النوايا..
المتشددون من هنا وهناك يعتقدون أن الأمر غير وارد، ويجب أن يستمر الوضع على ما هو عليه تجنباً للحرب؛ لأن النوايا ليست صادقة من الطرفين والأحقاد بين النظامين متجذرة بنفس القدر الذي تعتبر فيه العلاقات بين الشعبين عميقة ومتجذرة، لكن تتدهور كل يوم بسبب التراشق المتبادل في وسائط التواصل الاجتماعي.
أما إذا صدقت النوايا يوماً ما، فستكون المأمورية صعبة، تتطلب جهداً وصبراً وتنازلات كثيرة لن يقدمها الطرف الجزائري في الظرف الراهن؛ لأنه لو اشترط المغرب على الجزائر توقيف دعمه لجبهة البوليساريو لن يقبل الطرف الجزائري، لأن القضية مبدئية بالنسبة إليه، ولو طلب بالمقابل الطرف الجزائري من المغرب قطع علاقاته مع إسرائيل والتخلي عن نواياه التوسعية لن يقبل، وربما لن يقدر.
في انتظار حدوث المعجزة، يبقى الكف عن الأذى المتبادل بين الشعبين في وسائط التواصل الاجتماعي وابتعاد النظامين عن الاستفزاز المتبادل، هو أقل ما يمكن القيام به في الظرف الراهن.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.