المتتبع للشأن الأمريكي في العلاقات الخارجية وقوّتها الناعمة، سيلاحظ مفارقات عجيبة في الخطاب السياسي للقوة العظمى، التي سيطرت على المشهد الدولي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في التسعينيات إلى يومنا هذا. ولتعزيز هذه المفارقات يتحدث الرئيس بايدن في القمة الثانية للديمقراطية عن نية بلاده إنفاق 690 مليون دولار لتعزيز الديمقراطية حول.
في الواقع كل الخطاب الأمريكي حول نشر الديمقراطية وحرية الرأي وغيره من القيم الليبرالية يموت على أبواب الواقع المرير الذي فرضته الدبابات الأمريكية في بلداننا. الأمريكيون أنفسهم من يروجون للفوضى الخلاّقة في الشرق الأوسط ويبدلون هذه الحقائق من خلال شعارات الحرية والديمقراطية.
إنّ فرط القوة التي امتلكتها الولايات المتحدة في أواخر التسعينيات (ويعود ذلك لغياب المنافس)، دفع هذا البلد إلى أن يتجاوز البحار ويغزو العراق وأفغانستان تحت مسمى ما يعرف بنظرية بوش لنشر الديمقراطية بالعنف، هذا المصطلح الذي يشير إليه باحث السياسات الخارجية المعروف "جوزيف ناي".
بعد سنوات من التدخل غير الشرعي وغير المبرر، ها هي الدول التي تدخلت فيها الولايات المتحدة تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة، فضلاً عن مقومات الديمقراطية والحرية. شعوبنا في الشرق الأوسط وإفريقيا ليست بحاجة إلى الديمقراطية بقدر ما هي بحاجة إلى المياه والطعام اللازمَين لإكمال الحياة.
في النموذج العراقي، إذا ما تخطينا أكاذيبهم حول وجود أسلحة دمار شامل لدى صدام حسين، فإننا نلاحظ أن الديمقراطية التي قاموا بنشرها هناك تقوم على نشر الفوضى والدموية والخراب والتشدد والإرهاب. هذه الحرب التي أيدها وبشدةٍ الرئيس الحالي جو بايدن. إن أول التحركات التي اتخذتها حكومة بوش آنذاك، هو إنهاء مظاهر الدولة وتقويض مؤسساتها لصالح الانقسام العشائري وفوضى السلاح.
في العام 2003، أمر الحاكم المدني للعراق آنذاك، بول بريمر، بحل الجيش العراقي بشكل كامل وتسريح جميع ضباطه. لقد جاءت الخطوة الأمريكية هذه لتحويل العراق إلى دولة فاشلة تحت الحماية الأمريكية. هذا الجيش الذي كان يحتل المرتبة الرابعة في التسعينيات، لم يستطع ترميم نفسه إلى اليوم، حيث يأتي في المرتبة الـ34 على العالم.
أسست الولايات المتحدة نظام المحاصصة الطائفية في العراق، ودفعت هذا البلد إلى الدخول في الفتنة الطائفية؛ للحفاظ على الفوضى بأقوى مستوياتها في العراق لاستنزافه وتحويله تابعاً لها. وهذا ما يظهر من خلال سيطرة الخزانة الأمريكية على قرارات البنك المركزي العراقي في كل خطوة ينوي اتخاذها.
في الملف الأفغاني، بعد عشرين عاماً من البروباغندا الأمريكية بأفغانستان، هربت الولايات المتحدة من هذا البلد بطريقة مفاجئة وفوضوية لتخلف وراءها مجتمعاً منقسماً فاقداً للمؤسسات الحكومية. تلقي الولايات المتحدة باللوم على طالبان في الوصول إلى هذه النتيجة إلا أن الواقع يشير إلى أن الولايات المتحدة صرفت بليوني (ألفي مليار) دولار على تعزيز الوضع الموجود. لم تشكل الولايات المتحدة على مدار عشرين عاماً أي قوى للجيش المحلي للصمود ولو لمدة أسبوعين. ما فعلته الولايات المتحدة هو أنها وظفت عشرات الجواسيس لها في هذا البلد. لا بل لا تزال الولايات المتحدة (حتى بعد انسحابها) تمارس سياسة تعزيز الانقسامات بين المجتمع الأفغاني، حيث تشير الأخبار القادمة من هناك إلى ظهور خلافات حادة في القيادة الحاكمة بأفغانستان واحتمالية حدوث انقلابات وتصفيات في صفوف الحركة، بالطبع جميع ما تقدم بدعم أمريكي مباشر.
بعيداً عن هذين الملفين، علينا الإشارة إلى أن أحد أهم مقومات الديمقراطية هو وجود قضاء مستقل يمارس سلطته دون ضغوط سياسية؛ للحفاظ على توازن ما يسمى بفصل السلطات وممارسة أعمالها بشكل حر. والسؤال هنا: هل تروّج الولايات المتحدة لاستقلالية القضاء على المستوى الدولي؟
للإجابة عن هذا السؤال علينا العودة إلى جرائم الحرب التي ارتكبتها الولايات المتحدة في كل من أفغانستان والعراق. هل قامت الولايات المتحدة بمعاقبة جنودها الذين قتلوا الشعب العراقي دون أدنى مبرر؟ بالطبع لا. ليس ذلك وحسب، بل أصدر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، عفواً عن أربعة عناصر من جنوده نفذوا مجزرة مروعة في العراق عام 2007 بعد أن أطلقوا النار على المارة في ساحة النسور بالعاصمة بغداد، وقتلوا 14 شخصاً. وأما عن أفغانستان، فقد أصدر الرئيس نفسه قراراً بفرض عقوبات على أعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، ووضع قيود إضافية على تأشيرة دخول موظفيها للأراضي الأمريكية؛ وذلك لوقف المحكمة عن التحقيق في جرائم حرب محتملة من قبل عناصر الجيش الأمريكي. والمهم هنا أن إدارة بايدن لم تتراجع عن هذه العقوبات، ولا تزال مصرة على دفن ملفات جرائم الحرب التي ارتكبتها القوات الأمريكية في أفغانستان إلى الأبد.
لا تأتي الديمقراطية من الفراغ ولا يمكن صناعتها عبر النقود، بل هي تقوم على مقومات متعلقة بالأسس التاريخية للبلدان وفصل السلطات ورغبة المجتمعات المحلية في الوصول إليها. إن آخر من يمكن أن يدّعي نشر الديمقراطية هو الولايات المتحدة؛ وذلك للجرائم التي ارتكبتها في العديد من البلدان تحت شعار نشر الديمقراطية، بل العكس ما تقوم به الولايات المتحدة من تقويض المؤسسات ومنع السلطات القضائية الدولية من التحقيق في جرائمها يعد تعطيلاً وتقويضاً للعملية الديمقراطية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.