في نهاية سبعينيات القرن الماضي انطلقت جموع المتظاهرين في شوارع إيران لتطيح بحكم الشاه، الذي مثّل ركيزة للأمن الأمريكي في الخليج، ولتنتقم مما حدث مع حكومة مصدق قبل 20 سنة من انقلاب مضاد على يد الاستخبارات الأمريكية والبريطانية. ورفع النظام الجديد شعارات تصدير الثورة ومناهضة الاستكبار العالمي، ولكنه سرعان ما اصطدم في عام 1980 بحرب ضروس مع العراق استمرت 8 سنوات أكلت الأخضر واليابس.
التمدد للخارج
ألقت التطورات الدولية والإقليمية بظلالها على إيران، وجاءت الفرصة الذهبية مع الغزو الأمريكي لأفغانستان في عام 2001، الذي أزال من خريطة التهديدات لفترة مؤقتة حركة طالبان التي كادت أن تخوض طهران ضدها حرباً في عام 1988 إثر مقتل عدد من الدبلوماسيين الإيرانيين في مدينة مزار الشريف عقب سيطرة طالبان عليها، ثم أطاح الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 بالنظام العراقي البعثي الخصم اللدود لإيران، وتخلصت طهران بذلك من تهديد آخر مجاور على يد الجيش الأمريكي دون أن تطلق طلقة واحدة.
سرعان ما دخلت الجماعات العراقية الشيعية المعارضة التي رعتها طهران إلى بغداد على ظهور الدبابات الأمريكية، وانكسر الحاجز الشرقي للعالم العربي، ثم جاءت الثورة في سوريا، لتتدخل إيران بجوار حليفها التاريخي في دمشق، وينفتح طريق بري ممتد من إيران إلى لبنان مروراً بالعراق وسوريا، كما قدمت طهران الدعم للحوثيين في اليمن الذي خضع قبل قرون للسيطرة الفارسية، حتى احتك كسرى عبر عامله على اليمن مع المسلمين في المدينة المنورة في عهد البعثة النبوية.
عبر عقود دعمت طهران حزب الله في لبنان وبعض الفصائل الفلسطينية وبالأخص في غزة ضمن مشروع أطلقت عليه "محور المقاومة"، ودخلت في صدام مع تل أبيب في عدة ساحات، وسط صراع تركّز على البرنامج النووي الإيراني الذي سعت إسرائيل لإعاقته بعدة طرق، بداية من تنفيذها هجمات سيبرانية على منشآت نووية إيرانية، وصولاً لاغتيال علماء نوويين إيرانيين في عقر دارهم. ثم جاء ترامب لينسحب من الاتفاق النووي الذي وقعه أوباما مع إيران، وليبدأ في تبني سياسة ضغط قصوى عبر فرض عقوبات مشددة على طهران، وصولاً لاغتيال عراب المشروع الإيراني بالمنطقة قائد فيلق القدس قاسم سليماني في مطلع عام 2020.
وظلت طهران تناور وتناوش، وصنعت لنفسها أذرعاً متقدمة وحلفاء في عدة دول بالمنطقة يلعبون دوراً في مناكفة خصومها، لكنها أخذت مؤخراً خطوة للأمام عبر انخراطها في ملف دولي معقد؛ حيث قدمت دعماً عسكرياً شمل طائرات مسيرة إلى روسيا، والتي استخدمتها في الحرب مع أوكرانيا، وهو ما وضع طهران كطرف في صراع دولي طاحن. ومنذ ذلك الحين بدأت تظهر لعبة شد أطراف داخل إيران ذاتها أخذت أشكالاً متنوعة.
صراع الأجيال
بالتزامن مع التمدد الخارجي، اتسعت رقعة التباعد الداخلي بين أصوليين وإصلاحيين في البداية، وهو ما تجلى في المظاهرات الخضراء عام 2009 اعتراضاً على فوز أحمدي نجاد بالرئاسة، مروراً بأحداث متعددة تشابك فيها السياسي بالاقتصادي بالاجتماعي بالحقوقي بالهوياتي، وهو ما تفجر خلال التظاهرات الحالية التي اندلعت عقب وفاة "مهسا أميني"، البالغة من العمر 22 عاماً، بعد توقيفها على يد دورية تابعة لشرطة الأخلاق بحجة عدم ارتدائها حجاباً لائقاً شرعاً. فالأجيال الشابة الجديدة لم تعاصر عهد الشاه، ولم تعد تحمل قيم الثورة وطموحاتها، وأصبحت أكثر احتكاكاً بالثقافات الأجنبية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبرز رفضها لنمط الحكم السلطوي، ولذا تركزت الاحتجاجات الأخيرة في تجمعات الشباب بالجامعات والمدارس والأماكن التجارية.
كذلك ساهم تردي الوضع الاقتصادي في ظل العقوبات الغربية في حدوث تظاهرات فئوية متكررة للمعلمين ومتقاعدي الضمان الاجتماعي، الذين طالبوا بزيادة الحد الأدنى للأجور بنسبة 38% بدلاً من 10% قررتها الحكومة، فيما استقال خلال العام الحالي وزير العمل والرعاية الاجتماعية "حجت الله عبد الملكي"، لعدم قدرته على تلبية مطالب الموظفين، أما حالة الفقر فقد عبر عنها بهروز محبي نجم آبادي، عضو لجنة التخطيط والميزانية في البرلمان، حيث كشف أن 60% من الإيرانيين يعيشون تحت خط الفقر.
على جانب آخر، تمثّل قضايا الفساد نقطة اشتعال إضافية، ففي يناير 2022 انتشر تسجيل صوتي للجنرال محمد علي جعفري قائد الحرس الثوري السابق، يتحدث خلاله مع مساعد المدير الاقتصادي للحرس عن الفساد في شركة "ياس" القابضة التابعة للحرس الثوري، ودور رئيس البرلمان الحالي محمد باقر قاليباف في ذلك الملف.
وفيما يتعلق بالصراعات بين النخبة الحاكمة، فيقبع مهدي نجل الرئيس السابق رفسنجاني داخل السجن بتهم فساد، فيما لحقت به شقيقته فائزة مؤخراً بتهمة دعمها للاحتجاجات، أما شقيقهما الثالث محسن فيثير الجدل حول وفاة والده غرقاً في حمام سباحة عام 2017، حيث يردد أن الأطباء أكدوا عدم وجود مياه في رئة الأب؛ ما يدحض قصة موته غرقاً، كما يقول إن أجهزة الأمن لم تسمح لهم بمشاهدة محتوى كاميرات المراقبة في مكان الوفاة، فإذا أضفنا لما سبق الغموض الذي يصاحب هوية وريث المرشد الذي يناهز 83 عاماً، تتجلى عدة مخاطر تحيط بالنظام الإيراني.
بؤر توتر داخلية، ولاعبون خارجيون
بجوار ما سبق، تواجه إيران مشاكل في التعامل مع الأقليات العرقية مثل الأكراد في الغرب، والبلوش في بلوشستان، والعرب في الأهواز، وتنشط جماعات مسلحة في تلك المناطق تحظى بحاضنة شعبية يؤججها شعور بالظلم والتهميش، وهو ما يجعلها بمثابة بؤر توتر يمكن لأطراف دولية وإقليمية أن توظفها لتوتير الداخل الإيراني، مثلما يبرز في حالة جماعة مجاهدي خلق التي تتمركز حالياً في ألبانيا، وتحظى بدعم أمريكي وغربي وإسرائيلي وسعودي.
خلال الأسبوع الأخير من أكتوبر الماضي، شهدت إيران تصعيداً عبر أشكال متنوعة، فأعداد غفيرة تجمعت لإحياء أربعينية مهسا أميني في مسقط رأسها غربي إيران، فيما شهدت مدينة شيراز هجوماً دموياً على ضريح "شاه جِراغ" أسفر عن مقتل 15 شخصاً، وإصابة عشرات آخرين، وكذلك شهدت 5 محافظات متباعدة جغرافياً هجمات مسلحة بلغت أوجها بقتل العقيد مهدي ملاشاهي من الحرس الثوري في بلوشستان، وضابط آخر من الحرس برتبة رائد في طهران، فضلاً عن مقتل نحو 5 آخرين من عناصر الحرس الثوري والباسيج في محافظات متفرقة، وبالإضافة لذلك لعب الإعلام الفارسي الممول سعودياً مثل شبكة إيران إنترناشيونال دوراً بارزاً في تغطية الاحتجاجات داخل إيران، وهو ما دفع قائد الحرس الثوري حسين سلامي للتهديد علناً بالانتقام من خصوم إيران وبالأخص السعودية، فيما أشارت صحيفة وول ستريت جورنال إلى رفع الرياض والقوات الأمريكية بالسعودية درجة التأهب في ضوء رصد معلومات عن هجمات إيرانية وشيكة.
وفي المحصلة جاء التمدد الإيراني للخارج على حساب مراعاة احتياجات الأجيال الجديدة في الداخل، كما أن الانخراط في الملف الأوكراني والتموضع ضمن التحالف مع روسيا وضع إيران كطرف في لعبة كبرى طاحنة ربما لا تملك الأدوات التي تمكنها من تجنب تداعياتها السلبية، كما أن عودة نتنياهو للحكم قد تمثل صداعاً إضافياً، وبالتالي يواجه النظام الإيراني تحديات داخلية وخارجية جوهرية قد تدفع باتجاه تقليص نفوذه الإقليمي. وكما أن للنظام الإيراني حلفاء في الخارج يستميتون للدفاع عنه، فله خصوم كثر يودون تصفية حسابهم معه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.