أسئلة كثيرة يطرحها الشارع العربي، عن حظوظ نجاح المصالحة، بعد توقيع الفصائل الفلسطينية، على إعلان الجزائر في مؤتمر "لمّ الشمل من أجل تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية".
جاء هذا الإعلان في جو احتفالي مهيب، بحضور القيادات العليا المدنية والعسكرية والمجتمع المدني والسلك الدبلوماسي، ما أعطى بلا شك نفساً جديداً للقضية الفلسطينية.
ولكن، وبالنظر إلى التجارب السابقة في موضوع المصالحة، تأتي الأسئلة الجادة والصريحة عن:
– خصوصية هذا الحدث في الجزائر، وحظوظ نجاح المصالحة مقارنة بما سبق؟
– وما قدرة الجزائر للتصدي لتحالف المطبعين، والمحافظة على هذا المولود من الإجهاض؟
– وما هي إمكانية الجزائر لمتابعة الملف، وتنفيذ بنود الإعلان التي تضمنت عدة نقاط أهمها:
- تعزيز وتطوير دور منظمة التحرير الفلسطينية. وتفعيل مؤسساتها.
- انتخاب المجلس الوطني الفلسطيني في الداخل والخارج خلال مدة أقصاها عام واحد.
- الإسراع بإجراء انتخابات عامة رئاسية وتشريعية في مدة أقصاها عام من تاريخ التوقيع.
وهي أسئلة تضرب في عمق القضية، بحكم مركزيتها في الأمة العربية والإسلامية، وتشابكها مع كبرى القضايا المطروحة على المستوى الدولي. فهي تمثل المستقبل الوجودي للكيان.
وبقراءة للواقع والعوامل المساعدة أو المثبطة لنجاح المصالحة على الصعيدين الدولي والداخلي للجزائر، يمكن الوصول إلى مقاربة تفيدنا في الحكم على خط السير العام للمصالحة، والذي يُبْقي على حظوظ النجاح، بغض النظر عن الصعوبات التي يمكن أن تلاقيها في الطريق.
خصوصية الجزائر.. المصالحات القديمة
وإذا استحضرنا المصالحات القديمة، من إعلان "مكة" سنة 2007 إلى إعلان "موسكو" سنة 2019، فإنه لا يمكن الاعتداد بها سلفاً، واعتبارها مقياساً لفشل أي مبادرة. بسبب أنها كانت كلها تحت سقف اتفاقية أوسلو، وبإشراف دول مُطبِّعة، أو مُتماهية مع التسوية، ومنحازة بشكل تام للسلطة، ومعادية لحركة المقاومة، وبمتابعة حثية من حلفاء للكيان.
بينما السلطة في الجزائر مُتَخَفِّفة من كل هاته الأعباء، فهي مناهضة للتطبيع، وغير متماهية مع حلفاء الكيان، في موضوع التسوية، أو بالأحرى "التصفية". والجزائر مساندة علناً للمقاومة التي تبيحها كل الشرائع، وتُقِرُّها القوانين الدولية.
وقد جاء انتقال الملف إلى الجزائر، كحدث تاريخي مهم، وفي ظرف حساس، وصلت فيه القضية إلى مراحلها الأخيرة، من التهديد بالتصفية النهائية من جهة الكيان، وبالمقابل التهديد بحرب شاملة من طرف المقاومة، وهي على كامل جهوزيتها، ولعل عدم انخراط حركة المقاومة في المعركة الأخيرة، وتَحَلِّيها بانضباط كبير، يرجع سببه لهذا الاستعداد لحرب شاملة قد تندلع في أي وقت.
القضية الفلسطينية تعود إلى حيث ترعرعت
فهو انتقال تاريخي منتظر، وعودة إلى الحضن الطبيعي حيث ولدت وترعرعت، فلا نستكثر على الجزائر إذا سميناها "أم الولد".
ففي الجزائر فُتِح أول مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية (فَتْح)، وفيها تم تدريب الفوج الأول في أكاديمية شرشال العسكرية، سنة 1964.
ودخلت القضية الفلسطينية الجمعية العامة للأمم المتحدة، سنة 1974، عندما كانت الجزائر تترأس دول عدم الانحياز، وألقى ياسر عرفات خطابه الأول فيها، عندما كان الرئيس الجزائري السابق "عبد العزيز بوتفليقة" يترأس الجلسة العامة للأمم المتحدة.
وفي الجزائر تم الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية عام 1988، والتي تم الاعتراف بها، بأكثر من 100 دولة.
ولم تتخلّ جزائر ما قبل الثورة وما بعدها عن القضية الفلسطينية، من أيام "عمر راسم" سنة 1909 الذي أصدر مقاله الشهير بعنوان "احتلال فلسطين، داركوا يا مسلمين"، الذي تنبأ فيه باحتلال فلسطين قبل وعد بلفور بـ8 سنوات، إلى قول الرئيس الحالي "عبد المجيد تبون" بأن "فلسطين قضية مقدسة وهي أم القضايا وهي قضية وطنية بالنسبة للجزائر"، مروراً بمقولة الراحل "هواري بومدين" "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة"، وما زال النشيد الوحيد الذي يرافق النشيد الوطني في الثكنات العسكرية هو النشيد الفلسطيني، والعَلَم الفلسطيني هو الوحيد الذي يرافق العلم الجزائري، توأمان متلازمان.
كل هذا الزخم التاريخي يعطي للمصالحة نفساً جديداً، ومصداقية عالية، واحتمال قدرة الجزائر على تَحَمُّل ضغوط حلف المطبعين. ويتوقف هذا على قدرة الجزائر وحلفائها أيضاً على جعل الملف الفلسطيني حجر أساس في موضوع الصراع الدولي القائم. ويمكن أن يصبح ملف القضية الفلسطينية، أداة لتعبئة شعوب الأمة تستفيد منه حلفاء الجزائر خارج حلف الناتو.
الهرولة نحو التطبيع
أما موضوع التطبيع فقد كان موقف الجزائر تلقائياً وحاسماً، وبِلُغة التهكم حين وصفت التطبيع من البداية بـ"الهرولة"، وتصَدَّت للتهديدات، بخطوات عملية فاجأت الرأي العام العربي والمحلي، فلم تكتف باستقبال الفصائل الفلسطينية، وجلوس قيادات المقاومة على منصة الاستعراض العسكري، بل تسلمت الملف الفلسطيني بالجملة من تحت الركام. ونفضت عليه الغبار، في تحول تاريخي، وحققت في ظرف قياسي "إعلان الجزائر" للمّ الشمل، في حفل استعراضي كبير. رغم المحاولات الحثيثة لإجهاضه، من طرف دول لطالما عبثت بهذا الملف، وشكل هذا نقطة ارتكاز قوية للسلطة الجزائرية في اجتماع جامعة الدول العربية الذي سينعقد متزامناً مع عيد الثورة أول نوفمبر/تشرين الثاني في الجزائر.
مقومات نجاح المصالحة
فقد جاء هذا الحدث في ظرف حساس، فرضه واقع داخلي ما بعد الحراك، والسلطة تمر باختبار حقيقي على مصداقيتها في إطار الجزائر الجديدة. وقد نالت بهذا الملف الجائزة من الأحزاب والمجتمع المدني. فالشعب يريد جزائر جديدة وقوية، في إطار التوجه العربي الإسلامي، وحماية قضايا الأمة. ومفروض على السلطة أن تأخذ خطوات مثل هذه لتستعيد ثقة الشعب الجزائري، وهي في حاجة إلى فرصة كافية لإحداث إصلاحات داخلية عميقة، مثل موضوع استقلال القرار، والتحرر من التبعية السياسية والاقتصادية عن فرنسا، وقد تقدمت فيه الجزائر بخطوات رزينة، في إطار استرداد السيادة، ووضع أسس جديدة للاقتصاد الوطني.
وهذا يؤهلها للعب دور في هاته المصالحة بكامل استقلالية قرارها، وبالزخم الشعبي الكبير الذي يميز الشعب الجزائري في وقوفه مع القضية الفلسطينية، وهو يمثل عامل وحدة وتماسك بين أفراد الشعب. فملف المصالحة رهان رابح في كل الأحوال.
على الصعيد الدولي
فقد جاء هذا الانتقال التاريخي للقضية في سياق التحولات الكبيرة الجارية بعد حرب أوكرانيا، في وقت نشطت فيه الدبلوماسية الجزائرية، وأخذت مكانها المناسب مع حلفائها التقليديين من دول المركز، وأصبحت تمثل مركز الثقل العربي والإفريقي، ودولة محورية من بين الدول الممانعة والمقاومة للتطبيع.
والجزائر تاريخياً تشكل مع حلفائها كتلة تصويتية في الأمم المتحدة، ويُشْهد لها بالقدرة على التعبئة في المحافل الدولية، خصوصاً في موضوع القضية الفلسطينية.
عبر عنها "سفير الكيان" على النقل المباشر، في إحدى الجلسات العامة التي تم التصويت فيها على حل الدولتين عندما قال: "لو أن الجزائر قالت بأن الكرة الأرضية مسطحة الشكل لصوتت الأمم المتحدة بنسبة 166 مقابل 6".
والجزائر تحظى بتحالفات تاريخية قوية مع دول كبرى مثل روسيا التي تمتد لأكثر من 60 سنة، وتستمد ثباتها وقوتها، من عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ولا تقبل تدخل غيرها في شؤونها الداخلية، وتعقد الصفقات الكبيرة في مجالي السلاح والطاقة مع روسيا دون تدخل في الشأن الداخلي.
وهذا الذي مَكَّن للعلاقة مع روسيا لتصل إلى مستوى "الشراكة الاستراتيجية المعمقة"، والتي تمت صياغتها في اجتماع "اللجنة الحكومية المشتركة الجزائرية الروسية" حول "التعاون العسكري والتقني"، في الزيارة الأخيرة لرئيس الهيئة الفيدرالية الروسية للتعاون العسكري، "دميتري شوغاييف"، كان هذا في مارس/آذار 2022.
فبين الجزائر وروسيا تحالف استراتيجي عميق، وعلاقات جيوسياسية يديرها الطرفان بحسابات دقيقة، خصوصاً في المجال العسكري والطاقوي.
بينما أمريكا والدول الغربية عموماً، تشترط التماهي في موضوع العلاقة مع الكيان، والجزائر تختلف معها في هذا الملف بالخصوص، وفي عدة ملفات منها الملف السوري والمالي والليبي والصحراوي، وقد أبطلت الولايات المتحدة صفقة أسلحة سنة 2018م بسبب رفض الجزائر للشروط.
وكذلك الصين التي أدركت مبكراً أهمية إفريقيا والجزائر، خصوصاً عندما سارعت بالاعتراف بالحكومة المؤقتة التي أعلنتها جبهة التحرير الوطني عام 1958م، وباركت مطالب الثورة في وقت مبكر.
والصين اليوم تضع يدها على أكبر ميناء في الجزائر وهو ميناء "الحمدانية" بشرشال بتكلفة تصل إلى 6 ملايين دولار، في إطار مبادرة طريق الحرير "الحزام والطريق"، لتصبح الجزائر نقطة ربط بين أوروبا وإفريقيا، وبوابة مهمة لدول غرب إفريقيا، لإغراق الأسواق الإفريقية، وهذا ضمن خطة التعاون الجزائرية الصينية 2019-2023م، وسيتضاعف حجم التبادل الاقتصادي الذي يتجاوز اليوم 9 مليارات دولار.
أما على الصعيد الأوربي فإن الجزائر هي المَوَرِّد الرئيسي للغاز بالنسبة لإيطاليا وإسبانيا، وأكبر مُصدِّر للطاقة للاتحاد الأوروبي بعد روسيا والنرويج.
وهي تمثل المورد البديل بعد توقف الغاز الروسي، والدول الأوربية تخطب ود الجزائر خصوصاً بعد الأزمة الإسبانية الجزائرية.
وفي هذا الموضوع الشائك، تشترط الجزائر تأسيس شراكة استراتيجية وعقود طويلة الأجل للاستثمار في هذا المجال، وليس إيجاد حل لمشكلة طارئة، من أجل شتاء ساخن.
والجزائر تملك استقلالية قرارها، بعيداً عن أي ضغط أو تدخل خارجي، ولن تمنعها العلاقة مع روسيا من إعادة بعث ملف التعاون الطاقوي مع أوروبا على أسس جديدة، في ما يخدم مصلحتها.
وهذا يؤهل الجزائر لتكون مركزاً استراتيجياً، تتلاقى فيه مصالح الدول الكبرى، وهذا يعطي حماية خاصة للجزائر ضد الكيان وحلفائه، من دول الناتو ويرفع كثيراً من الضغط.
ولا شك أن تحركات الجزائر تجاه المصالحة، لم تكن ارتجالا أو اندفاعاً، وإنما هي في إطار ترتيبات واتفاقات وضمانات كافية من الحلفاء.
فصائل المقاومة
وبالنظر إلى التحركات الدبلوماسية لقيادة المقاومة، والتي تتحرك بكل استقلالية، وهي تقوم بفتح فضاءات جديدة، فإنها لم تَحِدْ عن خط السير الذي تسير فيه الجزائر، مع المحور الذي بدأ يتشكل، بمقابل دول الناتو حلفاء أوكرانيا بما فيهم الكيان المحتل. في إطار تصفير المشاكل، واليد المفتوحة، وعدم التدخل في شؤون الدول، فهي تقترب من روسيا إحدى دول المركز، وتعيد علاقاتها مع سوريا الحليف التاريخي، وتحافظ على علاقاتها مع إيران وهي سند عسكري في مواجهة أي ضربة شاملة يراد منها تصفية القضية عسكرياً، وتجعل من الجزائر نقطة ارتكاز قوية وحماية لخط المقاومة، في مواجهة الابتزاز السياسي لأصحاب مشاريع التسوية. وتحافظ على علاقات متينة مع كل الدول العربية والإسلامية.
ولا شك أن معركة سيف القدس أعطت للقضية قوة وزخماًٍ دبلوماسياًٍ للقضية الفلسطينية، حيث أصبحت تحتل مركزاً مهماً، ولها حضور مناسب على المسرح الإقليمي والدولي.
وقد كانت طيلة سنوات مضت، عبئاً على دول عربية خارت قواها، وفقدت بوصلتها وتقلصت أدوارها، ورُفِعت عنها بعض الرِّعاية والحماية، بعد ذهاب ترامب الذي لم يُكْمِل مهمته بالقوة والسرعة الكافيتين، وبقي هذا الملف متململاً بحماسة أقل ومكابرة أكبر من الكيان.
والملف الفلسطيني يشكل أحد الملفات الثقيلة التي يسعى كل طرف لتوظيفها، لما يمثل من أهمية في مركز الصراع الدولي.
السلطة الفلسطينية
فإنه في الوقت الذي وضعت فصائل المقاومة بكل ثقلها، ثقتها في الجزائر، وهي على اطمئنان بأن الجزائر لن تخذلها، وستظل آخر قلعة تدافع عن المقاومة، لأن ذلك متعلق بشرفها وتاريخها، ومواقفها الثابتة تجاه القضية. فإن السلطة ما زالت متململة وتتراجع حتى في آخر لحظات الإمضاء على إعلان الجزائر، وتضع الشروط التي لا تتعلق في حقيقتها بالحقوق الفلسطينية، بقدر ما تتعلق بالاتفاقيات الأمنية مع الكيان.
والذي أصبح ثابتاً أنه بمثل ما أن مبرر وجود حركة حماس هو المقاومة، ولا يمكن أن تحيد عنها شبراً واحداً، فإن مبرر وجود قيادة السلطة الحالية هو التنسيق الأمني، ولا يمكن أن تحيد عنه شبراً واحداً. ويمكن لها أن تلتف حول بنود الاتفاقات، وتسميم الأجواء، وهي تملك كثيراً من الأدوات والأوراق.
الخاتمة
وأخيراً نقول إن الرهان على مزاج السلطة أو غيرها، لا يخدم حظوظ نجاح المصالحة، بقدر ما يجب امتلاك أدوات ضغط فاعلة، والتحضير لسيناريوهات أخرى ضاغطة، خارج هذا الشكل من المصالحة بعناصره وأدواته.
فقد أصبح الأمن القومي الجزائري على حدود أرض فلسطين، عندما توسع النطاق الأمني للكيان إلى حدودنا الغربية. وهاته هي نقاط الاشتباك الجديدة بين الجزائر والكيان. التهديد مقابل التهديد.
ويمكن للجزائر أن تلجأ إلى طرق أخرى غير تقليدية، في دعم القضية الفلسطينية، والحفاظ على أمنها القومي، والدور الجديد الإقليمي والدولي لها.
وكما انطلقت الثورة الجزائرية بقيادة جماعية شبابية، دون مشاركة مباشرة للزعيم "مصالي الحاج"، وهو المناضل الكبير الملقب بـ"أبو الثورة"، كذلك يمكن للثورة الفلسطينية أن تندلع بيد قيادة شبابية جماعية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.