بإعلان فرع الأدب من جائزة نوبل فوز الفرنسية آني أرنو بالجائزة لعام 2022 يتحرك اسم -تواجد طويلاً في قوائم الترشيحات والمراهنات لكل عام- إلى الأعلى، فالمرأة البالغة من العمر 82 عاماً طرحت نفسها بقوة كمنافسة على الجائزة الأدبية الأهم عالمياً مع أسماء أخرى كخافيير مارياس، الذي مات العام الماضي، وميشيل ويلبيك وغيرهما.
وفي هذا الإعلان الذي طال انتظاره من كثيرين رجوع من الجائزة خطوة ناحية الجمهور والفضاء الأدبي، إذ عكفت الجائزة منذ عدة سنوات على اختيارات نخبوية بعيدة عن المتداول من أسماء في الفضاء الأدبي العالمي، ولعلنا نفترض أن تلك خطوة تصحيحية من الجائزة استناداً لسياقها التاريخي وأهدافها التي تنشد في الأساس التأثير الإيجابي في العالم والبشرية، ومن أين يأتي التأثير إذا لم يكن أدب الشخصية منتشراً عالمياً وله جمهوره العريض؟!
لمحة عن حياة آني أرنو
وُلدت آني أرنو في مدينة "ليلبون" الفرنسية في العام 1940م، ونشأت في كنف أسرة متواضعة، ودرست الآداب الحديثة واللغة الفرنسية، تزوّجت العام 1964م، وبعد 10 أعوام صدرت روايتها الأولى "الخزائن الفارغة"، وحينها كانت تشتغل بالتدريس قبل أن تتركه في العام 1977م وتتفرغ للكتابة، وانفصلت عن زوجها في العام 1980 ومعها منه طفلان.
تشكلت انطلاقة آني أرنو في مشروع كتابتها الخاص فيما يشبه التعامل مع المخطوطات لتحويلها إلى نص محقق متكامل، تمر خطة التعامل مع المخطوطات عبر مراحل عدة منها التضفير والنسج والتقميش وغيرها، وعلى هذا المنوال كانت آني أرنو تفعل ذلك باقتدار مع ذاكرتها البعيدة والقريبة، التي اهترأ منها ما اهترأ وذاب منها ما ذاب، كتابة آني أرنو ذاتية تحول الذكريات الشخصية إلى فن رفيع، يحضر الانطباع فيه بذات الأهمية التي للحدث.
التخييل الذاتي.. أداة الفن الجديدة
طورت آني أرنو أدوات كتابة جديدة ضمن تيار ما يعرف بالتخييل الذاتي، فكانت كمواطنتها، ناتالي ساروت، أمّاً لفن جديد، فكما ابتدرت ناتالي ساروت شرارة الرواية الجديدة في منتصف القرن العشرين، افتتحت آني أرنو فضاء التخييل الذاتي في الربع الأخير منه مع كتابها الساحة والذي تحكي فيه جزءاً من سيرتها الذاتية من خلال تيمة محددة، حيث استدعت فيه قصة صعودها في الفضاء الاجتماعي، وما ترتب عليه من بعدها عن أهلها والمشاعر المتعاقبة على ذلك.
الذات كفضاء مكثف للكتابة
اعتبرت آني أرنو أن مشروع كتابتها استنطاق الذات وجمع الذاكرة، فاستبدلت الرواية التقليدية القائمة على القصص المتخيلة برواية السيرة الذاتية القائمة على نوع من التخييل الذاتي واستجرار الذكريات الشخصية عبر تيمات محددة، في الاحتلال تمر سيرتها عبر موضوعة الغيرة، وفي الساحة تمر عبر المقابلة بين الصعود الاجتماعي والاغتراب.
وفي "امرأة" تتحدث عن العلاقة مع الأم، لا تذهب آني أرنو بعيداً، إنها تكتب من وحي تجربتها الخاصة بإيقاع منفتح، ولعلنا نعتبر هذا شقاً أدبياً مواوياً للأدب التخييلي الذي يتفاعل مع الأشياء الخارجية، وضمن ما يقول به عالم النفس كارل يونغ من انقسام الناس حسب الرؤى إلى صنفين أحدهما تتشكل رؤاه من تفاعله مع الأشياء الخارجية والآخر يستمد تلك الرؤى من الانعكاسات الداخلية للذات نستطيع أن نؤيد ما نذهب إليه هنا من توصيف لأهمية وحضور الكتابة الذاتية في العالم.
تكتب آني أرنو كتبها على شكل يوميات فائضة في قصة، دون كثير من الزخرفة الأسلوبية، معتمدة على وضوح اللغة، هي أيضا تهرب من الاستعارات الخارجية نحو وصف متقن للداخل والحميمي، ما يجعلها تنجح في تعرية الذات بعمق يصل إلى حد الهوس وعدم الاحتمال كما يظهر دائماً على أبطالها ورواتها.
نحو تاريخ حميمي
تعيد آني أرنو بتمكن نسج الأحداث القديمة واستجلاء حقيقة المشاعر والأفكار، في تيار متدفق من التأريخ للعاطفة، للذات الإنسانية وانطباعتها الجوانية البعيدة عن المعاش والاجتماعي، هنا يبرز دور جديد أو قديم يعاد إحياؤه بالأحرى، ونوع من العلاقة المتأججة بين الرواية والتاريخ، بمعنى أوضح تترك آني أرنو مساحة للذات كي تكتب تاريخها بنفسها.
كتابة أرنو بسيطة وواضحة، ولا تلجأ للتعقيد أو الإحالة الاستعارية، كتابة تعالج الأشياء كما تبدو، كي تستطيع الذات أخذ مساحتها المناسبة.
ومن الأمور الأساسية في تلك الكتابة الوعي بأن اللحظات الأكثر حميمية في الحياة تحكمها دائماً الظروف التي تحدث فيها، وأن التحقيق في الذات سيتضمن أيضاً التحقيق في التاريخ.
هل هو أدب ذلك الذي تكتب؟
يرفض الكثير من النقاد والقراء تسمية ما تقدمه آني أرنو من كتابة ذاتية بالأدب، كونه خالٍ تماماً من الاستعارة والغموض الأدبي، ويتسم بالمباشرة والذاتية، فهل سيأتي إعلان منحها الجائزة ليمنح هذا النوع أحقيته في الحضور الأدبي جماهيرياً على الأقل؟
هذا ما سيكشف عنه قابل الأيام..
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.