في خطاب شهده العالم بين أروقة الكرملين وصُناع السياسة الروسية والطبقة الأوليغارشية والرأسمالية والنخبة العسكرية في البلاد، أعلن بوتين ما توقعه الجميع بالتصديق على الاستفتاء الذي أقامه الروس في أربع مقاطعات أوكرانية على تماس مع الحدود الروسية في أقصى الشرق وهي لوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون، وبمقتضى هذا الإعلان تُصبح هذه الأراضي روسية بصورة رسمية، وأن أي هجوم عليها سيعتبره الروس هجوماً على روسيا منذ هذه اللحظة، تماماً مثل الاستفتاء الذي أقامه بوتين في العام 2014م لضم شبه جزيرة القرم الاستراتيجية، وما تبع ذلك الإعلان بالسيطرة على أهم المناطق الاستراتيجية في شمال البحر الأسود، بل السيطرة على أهم قطع الأسطول البحري الأوكراني التي أعلنت الانضمام طواعية للبحرية الروسية.
على أن كل خطابات بوتين منذ بداية إعلانه الحرب على أوكرانيا في فبراير/شباط الماضي 2022م، وحتى خطاب 30 سبتمبر/أيلول الذي أعلن فيه رسمياً عن ضم هذه المناطق للدولة الروسية الفيدرالية، كانت في حقيقة الأمر تتناول أبعاداً أعمق من مجرد التصورات والمجريات السياسية للأحداث الآنية، فضلاً عن تجاهلها شبه الكلي للاستراتيجيات العسكرية التي تنتهجها بلاده في هذه الحرب. لقد حرص ولا يزال بوتين على كشف الأبعاد الفكرية والأخلاقية ورؤية روسيا الجديدة التي وصفها الرئيس الأمريكي جو بايدن بـ"الإمبريالية الروسية"، فقد بدأت الإمبريالية الأمريكية مع هذه التطورات تشعر بأن ثمة قطباً جديداً إمبريالياً في الساحة العالمية له خطاب ورؤية وحركة على الأرض تناكف الرؤية الغربية، وترى فيها المهدد الأخطر لمستقبل الحضارات والأديان والأخلاق والقيم، بل وإنسانية الإنسان وتعريفه.
على مستوى الإرث التاريخي الذي ينطلق منه بوتين والذي يؤمن به إيماناً عميقاً يرى أن تاريخ الأمة الروسية كلٌّ لا يتجزأ، فتاريخ القيصرية الأرثوذكسية الروسية لا يتعارض مع تاريخ الاتحاد السوفييتي الشيوعي اللهم إلا من الناحية الأيديولوجية، لكن كلا النموذجين السياسي والتاريخي كان توسعياً إمبريالياً، وكان يتعارض مع الغرب حين يرى في هذا الغرب مهدداً له، وكان يتحالف معه حين كان يتفق مع القوى الغربية على وجود عدو مشترك مثل العثمانيين في حقب تاريخية مختلفة، لكن الثابت في تاريخ الاستراتيجية الروسية في تاريخها الطويل أنه كان إمبريالياً توسُّعياً، وهذا ما عبّر عنه بوتين بقوله: "لقد حافظ أجدادنا منذ يكاتيرينا العظمى على تلك المناطق وقاتل من أجل هذه المناطق أجدادنا في الحرب العالمية الثانية". ولهذا دائماً ما نراه يلقي باللوم بل النقد الشديد الذي يصل إلى حد الاتهام، على "النخبة السوفييتية الحاكمة" التي سمحت بتفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991م، فتلك اللحظة في نظره التي استسلم فيها الروس باستقلال وانفصال دول وسط آسيا والقوقاز والكثير من دول البلقان ووسط أوروبا عن روسيا، كانت ذروة انتصار الغرب على المشروع الروسي.
لكن بعيداً عن الاستراتيجية الروسية السياسية والإمبريالية التوسعية التي ترى في استعادة أراضي الاتحاد السوفييتي السابق أهدافاً ثابتة تحققها وفق تكتيكات وتوقيتات مناسبة، فقد رأينا حروب بوتين في القوقاز والتي انتهت بالسيطرة على الشيشان وداغستان وأوسيتيا، ثم بالسيطرة على القرم، ثم الآن بضم الجمهوريات أو المقاطعات الأوكرانية الأربع التي جعلت بحر آزوف الآن بحراً روسيّاً خالصاً، كما ستجعل الروس- إن نجحوا في السيطرة المطلقة على هذه المناطق- سادة على شمال البحر الأسود، كل هذا في غضون الأعوام العشرين الماضية فقط، لكن بعيداً عن كل هذا، فإن الأُطر الفكرية الأخرى في خطابات بوتين تبين لنا بوضوح لا شك فيه، أنه ينطلق من مشروع فكري وأخلاقي وقيمي تُمليه عليه الأرثوذكسية التي باتت تأخذ حيزاً كبيراً في العقل الاستراتيجي الروسي منذ اعتلاء بوتين لرئاسة الدولة في عام 2000 وحتى يومنا هذا، وسيكون لها تأثيرها الأعمق في المستقبل أيضاً.
بالتتبع السريع لعلاقة بوتين بالكنيسة الروسية على مدار السنوات العشرين الماضية سنجد رجلاً مؤمناً بمكانتها وعقيدتها، بل ودورها الاستراتيجي في العلاقات الدولية، وهو دور لعبه من قبله القياصرة حين اعتبروا موسكو قلعة وعاصمة الأرثوذكسية العالمية بعد سقوط القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية على يد العثمانيين في القرن الخامس عشر الميلادي، لذا فإن تأثير الكنيسة الأرثوذكسية على أرثوذكس المحيط الإقليمي في البلقان وتركيا واليونان وجنوب القوقاز في جورجيا وأرمينيا، بل وكذا في الشرق الأوسط بلبنان وسوريا وفلسطين يجب أن يعود كما كان سابقاً؛ فقد أعطى العثمانيون للروس حق حماية الأقليات الأرثوذكسية في الدولة العثمانية كما أعطوا الفرنسيين حق حماية الكاثوليك، وأعطوا الإنجليز حق حماية اليهود والبروتستانت، فيما عُرف في التاريخ العثماني بمسألة "الملل"، وهي أحد الأسباب الجوهرية في إسقاط الدولة العثمانية فيما بعد.
ودور الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في العلاقات الدولية يعني أول ما يعني صبغ الشرعية الدينية على أفعال النظام السياسي الروسي، والإيمان بعالمية الرسالة الأرثوذكسية التي يجب أن يعود تأثيرها في المحيط الإقليمي الروسي بجميع أنحاء البحر الأسود في الشمال والجنوب ثم في الشرق الأوسط ثم في باقي أنحاء العالم، ومن هذا السبيل نعرف لماذا وصف الرئيس الأمريكي جو بايدن خطاب بوتين الأخير بـ"الإمبريالية الروسية".
أبرز انتقادات بوتين للمشروع الفكري والثقافي الغربي الذي تقوم الإمبريالية الأمريكية والأوروبية عليه، وتدعو له، وتفسح له الطريق، مسائل الحرية الجنسية والشذوذ التي يرفضها بوتين رفضاً قاطعاً، ويعتبرها تدميراً للأمم والحضارات والدول، وعملية تخريب متعمدة لهيمنة الغرب واحتلاله الجديد والناعم للشعوب الأخرى، يتساءل مستنكراً: "الغرب أصبح يرفض الديانات والقيم والعادات. هل نريد نحن كشعب روسي أن يُسمّى الوالدين بـ(الوالد رقم 1) و(الوالد رقم 2) بدلاً من الأم والأب؟".
كما انتقد الإمبريالية الغربية التي تدعو إلى الديمقراطية ولكنها في واقع الحال ترسخ للديكتاتورية والأنظمة الاستبدادية، وهي أيضاً التي تدعو إلى الحرية ولكنها تجعلها عبودية، وضرب على ذلك أمثلة في إفريقيا وغيرها من الدول التي لا يزال الغرب يستبيحها حتى يومنا هذا، وينهبها ويستغل خيراتها لصالح تراكم الثروات لديه، تماماً كما يفعلون في أوكرانيا التي سمحوا بإخراج القمح منها لصالحهم هم، ولم يتركوا للشعوب الفقيرة إلا 5% فقط كما قال.
لكن بوتين لا يتكئ على التصورات الأرثوذكسية فقط في تدافعه أو صدامه مع الغرب وغير الغرب، ولكنه أيضاً يتكئ على فكر فلسفي روسي يستمد أفكاره الاستراتيجية من العقيدة الأرثوذكسية والتاريخ الروسي معاً، وأبرز من يمثّل هذه المعادلة اليوم هو الفيلسوف والاستراتيجي الروسي المعروف ألكسندر دوغين الذي حاولت المخابرات الأوكرانية اغتياله، وقتلت بدلاً منه ابنته منذ أسابيع، وقد لمح بوتين إليه في خطابه الأخير حين اتهم الغرب بمحاولة اغتيال الفلاسفة والفلسفة الروسية، ونحن حين نعود إلى ما خطّه دوغين في العديد من كُتبه ولقاءاته الإعلامية نراه يردد دائماً "أن روسيا لا معنى لها بدون إمبراطورية"، كما عقد لذلك الفصلَ الثالث من كتابه الشهير "مستقبل روسيا الجيوبولتيكي"، أو في لقائه الذي أثار جدلاً على قناة الجزيرة مباشر حين قال: "إما أن يقبل العالم روسيا وإما أنه لن يوجد عالم".
هذه الأطروحات الفكرية التي يستمسك فيها دوغين بأصلين أساسيين يشكلان الفكر السياسي الروسي في عصر بوتين، هما الأرثوذكسية ذات العلاقات الدولية المهيمنة "الإمبريالية" باصطلاح الرئيس الأمريكي بايدن، وكذا التاريخ الروسي الذي يمتد لألف عام، وهو تاريخ هيمنت فيه روسيا على محيطها الأوراسي بشكل كبير لا سيما في مناطق وسط آسيا وسيبريا، ثم بحر قزوين والبحر الأسود، وأخيراً في القوقاز والبلقان، وقد أدرك أهمية هذه الاستراتيجيات وثباتها الإمبراطور الأشهر بطرس الأكبر (ت 1725م) حين كتب وصاياه السياسية التي تذكر أرباب السياسة الروسية من بعده بأهمية هذا الفكر الاستراتيجي وديمومته، وبوتين لا يخفي إعجابه ببطرس الأكبر.
أثار خطاب بوتين الذي أخذ في جزئه الأكبر نقداً ثقافياً لسياسات وأفكار الغرب التي تحتل الشعوب وتدمر ثقافاتها الداخلية وهويتها وقيمها وتاريخها، أثار في الصحافة الغربية ردود فعل متباينة، بعضها وصفت خطابه بـ"الصدام الحضاري"، بينما وصفه الرئيس الأمريكي بايدن بالخطاب "الإمبريالي"، كأن الولايات المتحدة تشعر لأول مرة منذ ثلاثين عاماً، بأن ثمة إمبريالية أخرى لها مشروع ذو جذور فكرية صُلبة يقف أمام توجهاتها وأطماعها الإمبريالية التي تجلت في سماحها لبريطانيا باحتلال جزر الفوكلاند، وفي المأساة الفلسطينية اليومية، وفي احتلالها للعراق وأفغانستان، وفي دعم الانقلابات العسكرية في المجالات الاستراتيجية الأمريكية، وفي إشعال الحروب الطائفية والعرقية في الشرق الأوسط، لأول مرة ترى في روسيا ومن قبلها الصين عدوين خطرين يهددان إمبرياليتها العالمية.
يمكننا أن نستدعي من جديدٍ كتاب "صدام الحضارات" لصامويل هنتنغتون الذي نُشر في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وهو يستشرف أسس الصراعات العالمية المستقبلية التي ستتجاوز في وجهة نظره صراع الدول القومية على المصالح الاقتصادية والسياسية، بل يرى أن مستقبل الصراعات العالمية سينطلق من التباينات الثقافية والحضارية، وهو ما نراه اليوم في خطاب بوتين الذي يعلن بوضوحٍ أن القيم الروسية التي تنطلق من المسيحية والإسلام واليهودية والبوذية وغيرها ستواجه هذه المخططات الغربية بقوة وحزم، وأن روسيا ستعيد السيطرة على ما فقده الاتحاد السوفييتي السابق، وأن المشروع الروسي لبوتين ومن سيأتي بعده سيتجاوز المشكلة الأوكرانية بمراحل إلى إعادة ترتيب النظام العالمي الجديد ليكون "متعدد الأقطاب"، وهو ما ينذر بزيادة وتيرة الصراعات واشتعالها.
بالطبع سنرى قدرة الإمكانيات الروسية العسكرية والاستراتيجية والسياسية والدبلوماسية على تحقيق هذه الأهداف الكبرى التي أعلن عنها بوتين بصراحة مطلقة، في مواجهة القوى الغربية التي لا تزال تملك من القوة والنفوذ العالمي والتكنولوجي ما يجعل آراء وأهداف بوتين مجرد "صرخات في الكرملين لا شأن لها بأرض الواقع" كما يصف الأمريكان، ولكن اللافت أن بوتين في السنوات العشرين الأخيرة قد أعاد تغيير المعادلة في القوقاز وشمال البحر الأسود وفي سوريا وإعادة تموضع النفوذ الروسي في مصر والجزائر وليبيا، بل وفي جنوب الصحراء في مالي وكذا في وسط إفريقيا وغيرها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.