“يوم مناسب جداً للموت”.. هل ينجح فنانون مصريون في إعادة دوستويفسكي للحياة؟

"إن كاتب هذه المذكرات، والمذكرات نفسها، بطبيعة الحال من صنع الخيال. ومع ذلك، وبالنظر إلى الظروف والأحوال التي بُني عليها مجتمعنا، فإنه ليس بالمستبعد على أشباه كاتب هذه المذكرات الوجود وحسب، وإنما ينبغي أن يكونوا قد وُجدوا بالفعل"

• دوستويفسكي

رواية الإنسان الصرصار أو رسائل من أعماق الأرض أو مذكرات من العالم السفلي، تعد من روائع الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي وأحد أفضل أعمال الأدب العالمي. نُشرت لأول مرة في روسيا عام 1864 ويستعيدها المخرج والكاتب محمد هلال في مسرحية "يوم مناسب جداً للموت" والتي تعرض على مسرح قصر ثقافة المنصورة ضمن فعاليات نوادي المسرح التجريبي.

ليست هذه هي المرة الأولى التي يمسرح فيها هلال شخصية روائية. في وقت سابق شاهدت عرض "أحدب دو سيال" من كتابته وإخراجه، وقد وظف فيه شخصية كوازيمودو من رائعة فيكتور هوغو "أحدب نوتردام"، جاعلاً منه شخصية تنتمي إلى الزمن الحالي ولا تقترب من قصة العمل الأصلي إلا في بعض التفاصيل الصغيرة. وقد حصلت المسرحية على المركز الأول في مهرجان إبداع هذا العام، كتابة هلال وإخراج أحمد السمان. 

ينتمي عرض "يوم مناسب جداً للموت" إلى مسرح الفصل الواحد وهو مقسم إلى ثلاثة أجزاء متساوية تقريباً في المدة الزمنية. ويعد هذا النوع الفني الخيار الأمثل لجذب جمهور العصر الحالي أو الخيار الوحيد لأسباب لا تتعلق بدرجة أساسية بالمتلقي، بل بالإمكانات المحدودة في يد الصانع. يعتمد هذا النوع الفني على آليات القصة القصيرة نفسها؛ وحدة الزمن والمكان والموضوع والتأثير، بجانب قلة الشخصيات وبساطة الديكور وثباته. تلتقط المسرحية لحظة مركزة، شديدة الكثافة يُنظر إليها من بؤرة حادة يتفجر فيها الصراع، وينتفي بداخلها كل استطراد. 

بساطة الأدوات مقارنة بالمسرحيات الطويلة يجعلها مناسبة تماماً لمسارح الهواة. لكنها تضع تحديات أمام المخرج والكاتب الذي يتحتم عليه عرض التجربة الإنسانية العميقة في مدة محدودة يتطور داخلها البطل إلى أن يحدث انقلاب في مصيره. 

عندما طرحت رواية دوستويفسكي في روسيا اعتبرها العديد من النقاد وثيقة أيديولوجية كتبت رداً على رواية "ما العمل؟" لنيكولاي تشيرنيشيفسكي والتي تروج للتفاؤل العقلاني ونبل روح التضحية بالنفس التي داعبت مثالية المثقفين الراديكاليين حينها. ما يهمنا من الإشارة السابقة هو أن الرواية لا تضمن قصة بالمعنى المعروف وإنما شخص يردد طوال الوقت "أنا مريض أنا حاقد". لذا وصفها البعض بأنها على أفضل حال، دراسة تلقي الضوء على عقل مضطرب. الإشارة السابقة توضح صعوبة تحويل نثر فلسفي يعتمد على تداعي الذاكرة إلى بلاغة صورة غير لسانية تغازل العين وتحدث أثراً نفسياً عن طريق الحركة، الضوء، الأزياء، الديكور، الموسيقى. إن تحويل مثل هذا النص يتطلب استنباط أفكاره والمعنى فيه لكي يجسد وفق آليات جديدة لا تحاكي حرفياً المصدر الأصلي. التجربة التي نتحدث عنها مختلفة عن الرواية؛ لكن شخصية ميشيل خرجت كما كتبها دوستويفسكي تحمل نفس الهموم والأفكار والسخط والمرض والسخرية ذاتها، نفس ذكريات الإذلال والحب. خرجت من الورق لحماً ودماً لكي تواجه كاتبها دوستويفسكي نفسه، الذي يبدو هنا أنه الإله وليس أقل من ذلك.

تُفتح الستارة في منزل ميشيل، شخص بائس، محطم، غاضب، ومكتئب. يقرر كتابة مذكراته ودافعه الضغينة، لأنه عاجز عن الانتقام ولا يمكنه تقبُّل الإذلال الذي تعرض له في حياته. تسكنه هواجس، وأسئلة، وشكوك حول الإنسان ومكانته في العالم. يعترف بأنه تصرف في الحياة كديكتاتور عدواني استغل سلطته البيروقراطية كمسؤول حكومي في إذلال كل من يطلب مساعدته، لقد ضغط بعنف بقدمه على جروح المحتاجين. شخص حقير لا يمكن للمشاهد التعاطف مع ما يقوله فقد كان يسبب الأزمات للآخرين بدافع النكاية والعند فقط، فهو يحتقر الناس جميعاً ومن ضمنهم نفسه، التي لا يتورع عن إيذائها بالسكوت عن الألم الشديد في كبده برفض زيارة الطبيب. لقاؤه التالي مع بعض زملائه القدامى الذين يحتقرهم بشدة بسبب تفاهتهم وغبائهم. إنه يكره زفيركوف بشكل خاص، لكنه عندما يعلم برحيله عن المدينة، يشارك الثلاثة الآخرين تقديم هدية له وعلى الرغم من محاولتهم إرجاعه عن قراره فإنه يشاركهم ما يسمونه "النفاق الاجتماعي". لا يطلب ميشيل التعاطف، لكن بالتأكيد يمكننا جميعاً مشاركته غضبه وكرهه للضابط رمز السلطة الذي صفعه على وجهه. 

لا تساهم أي من شخصيات أصدقائه في تحريك الأحداث، والعلاقات الأساسية يقيمها ميشيل مع دوستويفسكي الذي يجلس على مكتبه أسفل المسرح يخلق بقلمه ما يتحرك أمامنا، وبجانبه صرصار محبوس داخل برطمان زجاجي. 

يموت ميشيل في نهاية العرض بعد أن تطارده الخادمة وتضربه عدة ضربات فتسحقه. الخادمة الثرثارة، علاقتها مع ميشيل غير مفهومة، لأنه لا يعرفها ويطلب منها أكثر من مرةٍ أن تخبره بهويتها. وجودها مهم، يخفف قليلاً من جو المسرحية السوداوي، لأنها تنتزع الضحك من عالم مأساوي وعنيف وغير عادل، ونغماته تبدو غريبة وحادة ووحشية. هذه الأوصاف جميعها تليق بعالمنا أيضاً. وهي نقطة يشدد المخرج على إظهارها أولاً بالديكور الذي يحاكي شكل مرايا في وجه الجمهور، كما أنه في المشهد الختامي عندما يتحول الجميع إلى صراصير، يضع الممثلون صناديق من المرايا على رؤوسهم، تلك وجوههم أسفلها لكن ما تنظر إليه وتراه هو صورتك أنت كمشاهد، إضافة إلى الملابس، فالملابس عصرية كالتي نرتديها في الواقع. والشخصيات في أحد المشاهد تُخرج هواتفها وتلتقط صوراً لشخصية- اللاأحد- في مشهد هو الأقوى داخل المسرحية. حيث يلقي الممثل خطاباً عدوانياً حول العبارات الفارغة التي تتحكم في عصرنا، ويتساءل عن طبيعة الحضارة التي ارتُكبت أفظع المذابح باسمها، وعن العالم الذي أصبح فيه الإنسان مخلوقاً حقيراً ومثيراً للشفقة يخون نفسه ولا يدرك ذلك حتى.

الموضوعات التي تناولها دوستويفسكي هي الشتلات التي نما فيها نباتنا الفاسد في العصر الحالي. المرة الأولى التي قرأته كرهته ليس بسبب ضعف أو عدم تقبل له كروائي فهذا جنون، ولكن لأنه مرعب ومؤلم لدرجة يصعب احتمالها. إذا جرّدنا الإنسان من ادعاءاته عن نفسه يمكننا اعتباره حشرة ضخمة تفكر، وهذا شيء مرعب أيضاً.

بأي درجة يمكن احتمال هذا التحول الحشري؟ وكيف يمكننا الارتقاء فوق سخف الحياة المتمثل في المعاناة والموت الحتمي. "نسيج من الجنون، من التفاهة الطفولية، بل أحياناً حتى من الخبث والتعطش إلى التدمير الرهيب". أليس هذا الوصف الذي قدّمه كانط للتاريخ البشري ملائماً حتى اللحظة الحالية. هل الإنسان من الاعوجاج بحيث لا يمكنه صُنع مستقبل مستقيم؟ نحن حقاً عاجزون بشكل بائس، عندما ينقلب البرطمان الذي يحملنا بداخله، وتسقط الكراسي التي نجلس عليها بشكل مستقيم، هل سنختار البقاء في أماكننا مقلوبين على ظهورنا كما فعل الممثلون على خشبة المسرح؟ 

ينتمي العرض إلى المسرح العبثي، كما ذكرنا فالديكور بسيط جداً، غرفة قليلة التفاصيل، الزمن غير ذي أهمية، والحبكة معطلة. الحوار قوي ومترابط لكن يغلب عليه الهلوسة المناسبة للحالة التي وصفناها بالسقوط الحر، فالبطل يفقد عقله منذ البداية وكل ما يجري هلوسات في رأسه. لذا تتكرر الكلمات في الموقف الواحد، مما يوحي بالقلق والخوف والارتباك وأيضاً لغياب الحدود بين الوهم والحقيقة. أصدقاء ميشيل لو صمتوا لَما شعر أحد بفرق بين حديثهم وصمتهم. لا معنى للوجود الإنساني، لا معنى من أن تكون بطلاً أو حشرة، يقول ميشيل، فلا معقولية لأن نتحلى بأي أمل. يفتقر واقعنا إلى أدنى حدود الشرط الإنساني، ما الذي يمكنه التعبير عن الخوف والعزلة وعدم القدرة على بناء تواصل مع الآخر، تحلل القيم الإنسانية والعيش وسط مسوخ متعفنة، تحتقر الجمال وتحط من قيمة الحياة؟ كان مسرح العبث مهماً لأوروبا عقب الحرب العالمية الثانية فقد ظهر كنتيجة لحرب ومصائب لم تعد القدرة على التعبير بواقعية عنها ممكنة. واقعنا أيضاً يفتقر إلى أدنى المعايير المناسبة للعيش. ويحتاج لأساليب جديدة، ليس فقط لأن الأنماط القديمة لم تعد قادرة على التعبير وإنما لسبب آخر يتعلق بالرقابة المحكمة على كل وسائل التعبير الفني والتي يحتاج كل فنان يحترم ذاته ويريد تقديم شيء حقيقي ذي معنى، إلى أن يراوغ ويتحايل.

يقدم العرض أجساداً فارغة من وجودها الإنساني، عاجزة عن مقاومة المجهول واللاإنساني، خاضعة للكليات الجامدة، في عصر تتراكم فيه المعرفة الآلية الميكانيكية، السيادة الصماء بوصف هيدغر، فانتصار الكمي كلف الإنسان خسارة نضاله لأجل تحقيق الوجود الشخصي الحقيقي، مكتفياً بالتماهي مع الدور المعياري الذي حدد له. يتساءل شخصية اللاأحد "من سمى الأشياء بمسمياتها؟"، من ترك الحاضر لأجل مصطلحات مثل الخير العام، مجرى التاريخ، التنمية، التقدم، الوطن. الأسئلة التي يطرحها العرض تضع ذواتنا على محك الواقع لكنها لا تلتقط أشكالاً للتغير؛ فتنتهي دون إجابات وبالتالي نبقى على المحكِّ، داخل صمت مظلم بعد أن تنطفئ أنوار المسرح يبقى الجميع داخل جدار الوعي مثل ذبابة تتداعى في حالة سقوط حر، تتخبط حتى يغلق التابوت ليس على ميشيل وحده وإنما على كل الحاضرين.

يحاول هؤلاء الفنانون تحدي بنية مدمرة للإبداع وقاتلة للخيال والتجربة، بدون دعم مادي، وبدون مساعدة تُذكر اللهم إلا خشبة مسرح تاريخي آيل للسقوط. عبث. وعلى الرغم من ذلك يجب أن نتخيل سيزيف سعيداً.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net