في ضوء توقعات لمؤسسات مالية دولية باحتمال تعثر مصر عن سداد أقساط ديونها الخارجية، ومع وجود أزمة نقص للعملات الأجنبية لديها، أدت إلى عجز بصافي الأصول الأجنبية تجاه غير المقيمين بحوالي 20 مليار دولار حتى يونيو/حزيران الماضي، والتي دفعتها للتشديد على الواردات السلعية، ومع طول فترة المفاوضات المصرية مع صندوق النقد المستمرة منذ شهر مارس/آذار الماضي، يظل السؤال: كيف تستطيع مصر سداد التزاماتها الخارجية من واردات سلعية وخدمية، ومدفوعات لفوائد الاستثمار الأجنبي والسياحة الخارجية، إلى جانب أقساط وفوائد الدين الخارجي التي ذكرت بيانات البنك المركزي بلوغها خلال العام الحالي 41.5 مليار دولار، موزعة ما بين 15.5 مليار دولار لالتزامات الدين الخارجي متوسط وطويل الأجل و26 مليار دولار لالتزامات الدين قصير الأجل.
بالإضافة لحاجة مصر إلي سداد 17.6 مليار دولار لأقساط وفوائد الدين الخارجي بالعام المقبل، بخلاف متطلبات الدين قصير الأجل التي لم تتحدد قيمتها بعد، وبلوغ متطلبات الدين متوسط وطويل الأجل وحدها في عام 2024 نحو 24 مليار دولار، وفي عام 2015 نحو 15 مليار دولار، وفي عام 2026 نحو 17 مليار دولار، بخلاف متطلبات الدين قصير الأجل بكل سنة من تلك السنوات المقبلة.
وفي ضوء زيادة الفجوة الدولارية المصرية عن 25 مليار دولار، فإن قرض صندوق النقد الدولي المرتقب مهما كبرت قيمته، فلن تصل إلى هذا الرقم، مما يجعلنا في حاجة إلى موارد أخرى مكمل لسد الفجوة الدولارية، وفي السابق كان يلجأ النظام إلى إصدار سندات بالأسواق الخارجية، لكن ارتفاع الفوائد الأمريكية والأوروبية والبريطانية وبغيرها من الدول، زاد من صعوبة إصدار سندات حالياً.
ديون دول الخليج تتخطى 35 مليار دولار
كما أن الفائدة الحقيقية السلبية، وتوقع خفض سعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار، وتوقع استمرار رفع الفائدة الأمريكية والأوروبية لمواجهة ارتفاع التضخم هناك، تَحُول دون عودة الأجانب لشراء أدوات الدين الحكومي المصري بالأجل القريب، ومن هنا يصبح الملاذ هو استمرار الاقتراض من دول الخليج خاصة بعد عودة قطر للمساهمة في إقراض مصر بالربع الأول من العام الحالي.
لكن قيمة القروض المصرية لدول الخليج تخطت 35 ملياراً من الدولارات موزعة ما بين 14.6 مليار دولار للإمارات، بخلاف قروض من بعض بنوكها، و11.8 مليار للسعودية، و5.9 مليار دولار للكويت، و3 مليارات دولار لقطر، و170 مليون دولار للبحرين حتى نهاية مارس/آذار الماضي.
كما ربط البعض بين عدم حضور ولي العهد السعودي لاجتماعٍ عقده الجنرال المصري (الرئيس عبد الفتاح السيسي) مؤخراً بمشاركة قيادات من الإمارات والأردن والعراق والبحرين، وبين وجود خلافات بين مصر والسعودية بسبب الموقف المصري من النظام السوري وعودته للجامعة العربية، وما قيل عن تململ النظام السعودي من إدمان النظام المصري للمعونات والاقتراض.
ولقد أشاد الرئيس والجنرال المصري أكثر من مرة بالدعم الخليجي لنظامه، سواء المادي أو السياسي، حيث سارعت دول الإمارات والسعودية والكويت بمجرد استيلاء الجيش على السلطة في الثالث من يوليو/حزيران 2013، بمد النظام المصري بالمشتقات البترولية والخام والمعونات المالية، حيث بلغت المعونات التي قدمتها السعودية بالعام المالي الأول للنظام المصري 6.6 مليار دولار، وقدمت الإمارات ما قيمته 4.4 مليار دولار، والكويت 671 مليون دولار بنفس العام.
وبالعام المالي التالي قدمت السعودية معونات بنحو 1.4 مليار دولار، والكويت 1 مليار دولار والإمارات 156 مليون دولار، لتصل معونات العامين الماليين إلى أكثر من 14 مليار دولار، لكن تراجع أسعار النفط بنهاية يونيو/حزيران 2014 حول مساندة الدول الثلاث للنظام المصري إلى صورة ودائع بالبنك المركزي المصري، تزيد من أرصدة احتياطياته من العملات الأجنبية، وتساعده على استيراد السلع الأساسية، إضافة إلى ما قدمته له من ودائع من قبل.
ودائع خليجية بلا فوائد لمدد طويلة
وشهدت تلك الودائع من الدول الثلاث ظواهر لها دلالتها التي تشير لعمق مساندتها للنظام المصري، بدءاً من توقيت وصولها، حيث كان توقيت ودائع الإمارات البالغة 2 مليار دولار، يوم 17 من يوليو/تموز 2013 أي بعد استيلاء الجيش على السلطة في 3 من نفس الشهر بنحو 14 يوماً فقط، ونفس الأمر لوديعة السعودية البالغة 2 مليار دولار بـ19 من نفس الشهر، أما وديعة الكويت البالغة 2 مليار دولار أيضاً فوصلت بـ24 من سبتمبر/أيلول من نفس العام.
والأمر الثاني أن كلّاً من الوديعة الإماراتية والسعودية كانتا بلا فائدة، ومدة كل منهما 5 سنوات، أما الوديعة الكويتية فكانت بنفس فائدة الليبور، وهو متوسط سعر الفائدة بسوق لندن ولمدة 5 سنوات أيضاً.
وفي عام 2015، وبعد المؤتمر الاقتصادي الذي عقدته مصر بشرم الشيخ، كانت هناك دفعة ثانية من تلك الودائع من الدول الثلاث، وبنفس الشهر وهو أبريل/نيسان، وبنفس القيمة وهي 2 مليار دولار لكل منها، وبنفس معدل الفائدة الثابت البالغ 2.5%، ولمدة 5 سنوات لكل منها، ويتم سدادها على3 أقساط ما بين عامي 2018 و2020.
وفي عام 2016 تكرر ضخ الودائع للنظام المصري للمرة الثالثة من كلٍّ من الإمارات والسعودية بقيمة 2 مليار دولار من كل منهما، وإن كانت فائدة الوديعة السعودية 1% فقط، لكن أجلها كان لـ3 سنوات فقط، بينما تمت الوديعة الإماراتية علي شريحتين، أولاهما بفائدة 2.5% لمدة 5 سنوات، والشريحة الثانية بفائدة 4% لمدة 6 سنوات.
وفي عام 2017 قدمت السعودية مليار دولار كوديعة بفائدة 4.5% لمدة عامين، إلى جانب قرض طويل الأجل بحوالي نصف مليار دولار، وخلال السنوات من 2018 وحتى 2020 توقف تدفق الودائع من الدول الخليجية الثلاث، حيث أصبح البديل وقتها هو تأجيل سداد القروض السابقة وإطالة مدتها للمساهمة في تخفيف العبء على النظام المصري في سداد ما عليه من مستحقات للدول الأخرى وللمؤسسات الدولية والإقليمية.
19 مليار دولار من الخليج في نصف عام!
حتى جاء الربع الأخير من العام الماضي (2021) وبعد خروج الأموال الساخنة خلاله بنحو 6 مليارات دولار، حصلت مصر على وديعة سعودية بنحو 3 مليارات دولار وعلى قرض إماراتي بنفس القيمة، بالإضافة لزيادة رصيد قروض الكويت لها بنحو 300 مليون دولار.
وجاء الربع الأول من العام الحالي، والذي شهد توسع الأموال الساخنة في الخروج من مصر بقيمة 14.8 مليار دولار، لتسعى مصر إلى دول الخليج مرة أخرى لتحصل على 5 مليارات دولار من كل من السعودية والإمارات و3 مليارات دولار من قطر، لكن تلك الودائع البالغة 13 مليار دولار كانت قصيرة الأجل، أي لمدة عام واحد، للمرة الأولى منذ تولي الجيش السلطة منتصف عام 2013، ولم تشارك الكويت بالتمويل، خاصة أن أرصدة ودائعها وقروضها خلال السنوات الماضية لم يتم سدادها.
وهكذا وصلنا إلى الموقف الحالي الذي شهد أوضاعاً اقتصادية بالغة الصعوبة في المشهد الاقتصادي المصري، حيث عادت السوق السوداء للدولار، واتجه جزء من تحويلات العاملين بالخارج للسوق السوداء للاستفادة بفارق السعر، وزاد الطلب على الدولار للاحتفاظ به من جانب الشركات والأفراد، وتكاد البنوك تكون قد امتنعت عن تمويل الواردات من خلال بطء فتح الاعتمادات المستندية، وتكدست البضائع المستوردة بالموانئ لتقل السلع المستوردة بالأسواق وترتفع أسعارها.
وأغرى النظام المصري الدول الخليجية ببيع حصص من الشركات العامة الرابحة لها مقابل ديونها، وكذلك بيع حصص من الشركات والبنوك الخاصة التي تملكها البنوك العامة لها أيضاً، وبالفعل استفاد أحد الصناديق السيادية الإماراتية من ذلك العرض، فقام بشراء حصص في 5 شركات بقيمة 1.8 مليار دولار بشهر أبريل/نيسان الماضي 2022، كما قام الصندوق السعودي بشراء حصص في 4 شركات في أغسطس/آب 2022 بقيمة 1.3 مليار دولار، ويستعد الصندوق السيادي القطري لتكرار نفس الأمر خلال فترة وجيزة.
لكن المشتريات الخليجية للأصول ما زالت قليلة بالقياس إلى كبر قيمة ديونها، مما يثير الشك في إمكانية تكرارها للسخاء الذي قامت به مع النظام المصري عقب سنوات استيلائه على السلطة، ليظل السؤال قائماً: مَن سيساند النظام المصري كي يستطيع الوفاء بأقساط وفوائد دينه الخارجي الكبير؟ لأنه حتى في حالة الحصول على قرض كبير من صندوق النقد الدولي، فلن يكفي لسد الفجوة الدولارية الحالية.
كما أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تشارك في إقراض النظام المصري بشكل مباشر منذ توليه السلطة منتصف عام 2013، حتى إن رصيد قروضها القديمة لمصر بلغت 160 مليون دولار فقط، لتجيء بالمركز الـ16 بين الدول الـ22 المقرضة لمصر من حيث القيمة، كما تخطت القروض من الصين 7 مليارات من الدولارات ولهذا يسعى وزير المالية المصري للاقتراض منها في شكل سندات، لكن قيمتها لن تكفي مع قرض الصندوق، وقروض بنك الاستثمار الأوروبي وبنك التصدير الأإريقي لسد الفجوة الدولارية الحالية في مصر.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.